شهدت الساحة الفلسطينية خلال الساعات الـ48 الماضية عمليتي مقاومة من العيار الثقيل، في ضوء النتائج المحققة وتداعياتهما على الشارع الإسرائيلي، وهو ما توثقه صافرات الإنذار ليل النهار التي تطالب المستوطنين بسرعة الاحتماء داخل المخابئ الأسمنتية تحت الأرض.
العملية الأولى كانت صباح الإثنين 19 يونيو/حزيران 2023 حين نصبت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة (حماس) كمينًا لقوات الاحتلال المهاجمة لمخيم جنين، واستطاعت تعطيب 7 آليات عسكرية مصفحة بجانب طائرة هليكوبتر، وإصابة 8 مجندين، فيما شهدت صفوف الجيش الإسرائيلي حالة من الفوضى والارتباك دفعته لاستخدام سلاح الجو لأول مرة منذ 20 عامًا، وشن هجمات مكثفة ضد المخيم أسفرت عن ارتقاء 7 شهداء وإصابة أكثر من 90 آخرين بعضهم في حالة خطرة.
أما العملية الثانية فتلت الأولى بساعات قليلة، وجاءت ردًا على جرائم الاحتلال في جنين، حين أطلق مقاومون النار قرب مستوطنة “عيلي” الواقعة بين مدينتي نابلس ورام الله، وسط الضفة الغربية المحتلة، ما أسفر عن مقتل 4 مستوطنين وإصابة 4 آخرين، فيما قتل اثنان من منفذي العملية التي أصابت المحتل، حكومة وجيشًا وشعبًا، بحالة من الهلع والقلق.
وبعيدًا عن الترابط الزمني بين العمليتين، إلا أنهما تعدان نقلة نوعية في تكتيكات المقاومة وإستراتيجية المواجهة، سواء في التخطيط أم التوقيت أم الأسلوب، بجانب التداعيات والنتائج التي كان لها ارتدادات قاسية على حكومة الاحتلال التي تعاني خلال الساعات الأخيرة من سعار الانتقام ويطالب أعضاؤها من اليمين المتطرف بشن حملة عسكرية كبيرة ضد القطاع والضفة، بما يعكس الارتباك الذي يخيم على الأجواء.
⛔ أقوى وأوضح فيديو جديد لتفجيررر ناقلة الجند الصهيووونية في #جنين 🇵🇸 وتدميرها بمن فيها 👊🏼🔥 الله أكبر ولله الحمد ✌🏼 شاركوا pic.twitter.com/UePPTdNKLD
— بلال محمد عبد العال (@belal3bdel3al) June 20, 2023
تطور في الأداء
عكست العمليتان حجم التطور الذي شهدته المقاومة خلال الآونة الأخيرة وهو ما قلل من معدلات الأخطاء التي كانت تقع فيها في السابق، بجانب تحقيق النسبة الأكبر من الأهداف المنشودة من وراء عمليات المقاومة، حيث أعادت فصائل المقاومة النظر في هيكلها الفني والقتالي، وإستراتيجيات التعامل مع الهدف، بجانب الاستعانة بالتطورات العسكرية ذات الصلة وفي حدود الإمكانات.
وكشفت عناصر كتيبة جنين التي نصبت الكمين لأرتال جيش الاحتلال الإثنين الماضي، خلال شهادات صحفية لهم لـ”الجزيرة” عن حجم التطور الذي شهدته الكتيبة التي نفذت العملية، البداية كانت مع الرقابة الجيدة الدقيقة من خلال زرع كاميرات ذات جودة عالية في مناطق المخيم وشوارعه ومداخله الرئيسية لكشف أي تحركات مريبة أو تدخلات من جيش الاحتلال وقواته الخاصة.
وتتولى تلك المهمة وحدة تسمى “وحدة المراقبة”، الأمر الذي سهل على الكتيبة اكتشاف عملية الدخول والاستعداد لها والتعامل معها بشكل جيد، حيث يتناوب على مراقبة تلك الكاميرات أربعة وحدات، كل وحدة 6 ساعات على مدار اليوم بأكمله، هذا بخلاف وحدات أخرى أنشأها الفصيل المقاوم لتطوير ذاته داخليًا وحركيًا منها وحدات الرصد والرباط، ووحدة الاشتباك، فضلًا عن وحدة الهندسة والمتفجرات، التي نجحت في اصطياد الرتل الأخير بتفجير عبوة ناسفة محكمة التوجه.
ومن مظاهر التطور الذي لحق بالمقاومة قدرتها على الصمود والتصدي في معارك الاشتباك لساعات طويلة، وصلت خلال العملية الأخيرة إلى 11 ساعة تقريبًا، حاول خلالها جيش الاحتلال الهروب من الفخ وإخراج عرباته المعطبة من المخيم، وسط وابل من النيران فتحها المقاومون عليهم، ما دفعهم للاستعانة بطائرات الأباتشي.
لحظة تنفيذ عملية إطلاق النار قرب مستوطنة “عيلي” والتي أسفرت عن مقتل 4 مستوطنيين وإصابة 4 آخرين#فلسطين pic.twitter.com/jIl1oj3atZ
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) June 20, 2023
نقلة نوعية
يؤكد رباعي الإستراتيجية والتكتيك والتوقيت والمكان أن العمليتين نوعيتان ومن الطراز الأول، كونها أول رد على جريمة الاحتلال الأخيرة في جنين، وفق تعبير أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العربية الأمريكية بمدينة جنين، أيمن يوسف، الذي أوضح أن هناك عدة مؤشرات تعكس النقلة النوعية في عمليات المقاومة التي تمت حديثًا منها أن “أحد المقاومين انسحب من موقع الحدث إلى مدينة طوباس شمالًا (أكثر من 50 كيلومترًا)، فهذا نجاح كبير لخط عسكري مسلح حتى النخاع”، على حد قوله، بحانب الجرأة الميدانية والاستخدام الفاعل للسلاح بشكل ناجع، إضافة إلى “جغرافية المكان وكثافة وجود المستوطنين المسلحين بالمكان وتنقلهم بين 5 مستوطنات ومعسكر للجيش يحيط بالمكان”.
ويلمح خبير العلوم السياسية الفلسطيني في تصريحاته لـ”الجزيرة” إلى أن عملية عيلي تعكس فشل الاستخبارات الإسرائيلية بشكل كبير، معتقدًا أن الجهة المنفذة لتلك العملية “خلايا نائمة ومدربة بشكل جيد”، وأنها ستكون دافعًا قويًا لمراجعة الاحتلال جهازه الاستخباراتي والمعلوماتي الذي عجز عن الكشف عن تلك الخلية، خشية من أن تكون عيلي قدوة ونموذجًا ملهمًا للمقاومة ما يفتح الباب أمام عمليات أوسع وبمشاركة أكبر.
ويتفق معه في الرأي المحلل السياسي والمختص بالشأن الإسرائيلي عادل شديد، الذي يرى أن تلك العملية غابت عن المشهد منذ سنوات، كما أن توقيتها الزمني الذي جاء بعد 24 ساعة فقط من اجتياح مخيم جنين وقصفه بالطائرات أعطاها زخمًا كبيرًا، فمن المرات النادرة أن يأتي الرد بهذه السرعة وبتلك النتائج.
تزامن العملية مع الحملة التي يشنها جيش الاحتلال في شمال الضفة الغربية، والحديث عن تصعيد عسكري كبير خلال الساعات المقبلة، يبعث برسالة مباشرة للمحتل تشير إلى أن المقاومة غير قلقة بالمرة من تلك التعزيزات، وأنهم “جاهزون للرد، بل إننا قادمون” وفق تعبير شديد الذي توقع أن تمهد تلك العملية لعمليات أخرى شبيهة.
الرسالة الأبرز التي نجحت فصائل المقاومة في إيصالها للمحتل عبر تلك العمليات أن المقاومة باقية ومستمرة رغم الحملات المسعورة ضدها، فالهجمات التي شنتها قوات الاحتلال ضد حركة الجهاد قبل شهر على أمل وأدها وإخراجها من المشهد لم تحقق أهدافها لتعود الحركة أقوى من ذي قبل، كما أن مخطط تحييد حماس وإبعادها عن المواجهة وبث الفتنة بينها وبين بقية الفصائل فشل هو الآخر.
هكذا جرَّ الاحتلال آلياته من جنين التي اقتحمها .. صورة تعكس مشهد صمود جنين رغم كل التحديات وما خفي أعظم ! pic.twitter.com/6AHTuV26un
— Tamer Almisshal | تامر المسحال (@TamerMisshal) June 19, 2023
ارتباك إسرائيلي
كشف الإعلام الإسرائيلي الصادر أمس واليوم عن حالة الارتباك التي خيمت على الإدارات الأمنية والحكومة الإسرائيلية – بجانب الشارع بطبيعة الحال – جراء عمليتي الإثنين والثلاثاء، حيث وصف المراسل والمحلل العسكري في صحيفة “يديعوت أحرونوت” يوسي يهوشع العملية بأنها ستصبح علامة بارزة في أوساط الجيش الإسرائيلي لا يمكن نسيانها.
وأوضح يهوشع أن الوقت الطويل الذي استغرقه خروج الجنود الإسرائيليين من تلك الورطة ونوعية المتفجرات المستخدمة في العملية، كادت أن تحول تلك المنطقة إلى ما يشبه جنوب لبنان في تسعينيات القرن الماضي، منوهًا أن عملية جنين تحديدًا تعد أطول عملية استباقية منذ الانتفاضة الثانية التي اندلعت نهاية عام 2000.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول كبير في الجيش الإسرائيلي اندهاشه من العملية ووضع المتفجرات في مكان دقيق وبشكل احترافي رغم أنها محلية الصنع، محذرًا من أن القوات الإسرائيلية قد تجد نفسها مضطرة للدخول مع ناقلات الجنود المحمية بشكل أفضل حتى لا تكون صيدًا سهلًا في شباك المقاومة.
مشاهد | من جنازة “نحمان شموئيل موردوف” أحد قتلى عملية “عيلي”. pic.twitter.com/28ngTXuBNb
— وكالة شهاب للأنباء (@ShehabAgency) June 21, 2023
أما صحيفة “هارتس” فاستطلعت رأي سكان جنين في تلك العملية التي وصفوها بأنها مختلفة من حيث الشكل والمضمون والنتائج عما جرى خلال العامين الماضيين، وأنها تذكرهم بما شهده المخيم في الانتفاضة الثانية، وهو ما ألمحت إليه صحيفة “يسرائيل هيوم” التي قالت إن ما حدث في جنين يشير إلى تطور كبير في عمل الفصائل المسلحة في شمال الضفة، التي باتت تمتلك قدرات عسكرية كبيرة منها عبوات خطيرة يصل خطر بعضها إلى مستوى غير معقول.
وفي ضوء ما حدث تستبعد الصحيفة الإسرائيلية إنهاء العمليات العسكرية التي يقوم بها جيش الاحتلال على الأرض في المستقبل، إذ قد يكون هناك نتائج عكسية أكثر ضراوة في المرات القادمة، وعليه تطالب بتصفيح الآليات بشكل أفضل واستخدام أسلحة أكثر تطورًا بجانب الاستعانة بسلاح الجو وضرورة العمل من أجل تجفيف منابع إنتاج العبوات الناسفة.
من المرجح أن عمليتي جنين وعيلي سيكون لهما تداعياتهما على المشهد الفلسطيني، حيث تكثيف العمليات العسكرية الإسرائيلية التي تحاول من خلالها حكومة بنيامين نتنياهو حفظ ماء وجهها وتجميل صورتها الملطخة على أيدي المقاوميين، بجانب إعطاء الضوء الأخضر للمستوطنين للقيام بأعمال تخريب بحق سكان نابلس ورام الله والضفة وجنين كنوع من التنفيس عن الضربة الموجعة التي تلقاها المحتل، لكن تبقى الرسالة الحاضرة والأكثر تأثيرًا تلك التي تؤكد أن المقاومة باقية مهما كانت مخططات الإبادة، وأن العربدة الإسرائيلية ستواجه بقوة وحزم رغم التضييقات والقيود المفروضة.