في أول قضية أمام أعلى محكمة للأمم المتحدة مرتبطة بالحرب في سوريا، أعلنت محكمة العدل الدولية في لاهاي تقديم كل من هولندا وكندا شكوى مشتركة ضد حكومة دمشق، بشأن تهم تعذيب بحق سوريين والمعاملة اللاإنسانية في السجون.
وحسب بيان محكمة العدل الدولية، الصادر اليوم الاثنين 12 يونيو/ حزيران الجاري، فإن كندا وهولندا اتهمتا نظام الأسد بارتكاب انتهاكات لا حصر لها للقانون الدولي، ابتداءً من عام 2011 على الأقل، عبر قمعه العنيف للمظاهرات المدنية، وطالبتا باتخاذ تدابير طارئة لحماية المعرّضين لخطر التعذيب.
تشمل الانتهاكات بحسب الدعوى المرفوعة، استخدام التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة للمحتجزين، والظروف غير الإنسانية في أماكن الاحتجاز، والاختفاء القسري، واستخدام العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، والعنف ضد الأطفال، إضافة إلى استخدام الأسلحة الكيمياوية، والتي أدّت إلى العديد من الوفيات والإصابات والمعاناة الجسدية والعقلية الشديدة. فيما تشمل التدابير الطارئة إصدار أوامر للنظام بالسماح للمراقبين الدوليين بدخول مراكز الاحتجاز، والإفراج عن السجناء المحتجزين تعسفيًّا، والكشف عن مواقع دفن الأشخاص الذين ماتوا في الاحتجاز مع الاحتفاظ بالأدلة، بما في ذلك السجلّات الطبية.
ويسعى البلدان إلى تحميل نظام الأسد مسؤولية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وعمليات تعذيب، بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب التي صادقت عليها دمشق عام 2004، بعد أن اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1984.
خطة إيجابية وطريق طويل
قررت هولندا التحرك في عام 2020، ثم كندا بعدها بعام، بعد إعاقة روسيا لجهود متعددة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لإحالة قضية تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، المعنية بمحاسبة الأفراد على ارتكاب جرائم حرب ومقرّها لاهاي، فيما تحول الملف إلى دعوى رسمية توضع أمام محكمة العدل الدولية، بعد أن فشل المسار الذي كان على البلدَين (هولندا وكندا) اتباعه قانونيًّا قبل الوصول إلى المحكمة.
تطلّب المسار الذي بدأته هولندا في سبتمبر/ أيلول 2020، قبل أن تنضم إليها كندا عام 2021، خوض مفاوضات مع دمشق إلا أنها فشلت، ما دعا إلى لجوء الدولتَين للتحكيم لإنهاء خروقات نظام الأسد للاتفاقية.
وأصدرت الحكومة الهولندية قبل 3 سنوات بيانًا، أعلنت فيه إرسال مذكرة دبلوماسية إلى النظام تحمّله فيها مسؤولية عن انتهاكات جسمية ضد حقوق الإنسان، وذلك في سياق مسعاها لإحالة الأمر لمحكمة العدل الدولية، التي أُنشئت عقب الحرب العالمية الثانية للتعامل مع النزاعات بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، والتي عادة ما تكون مبنية على أساس انتهاكات مزعومة للاتفاقيات الدولية، وإذا لم ينتج عن التحكيم قرار نهائي، يمكن لهولندا رفع قضية بهذا الشأن أمام محكمة دولية.
يقول فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي إحدى الجهات التي شاركت بهذه الدعوى، بعد تزويد الحكومة الكندية والهولندية بالوثائق والملفات التي تدين النظام وتثبت تورُّطه بالتعذيب؛ إن الخطوة رغم طولها تعدّ غاية في الأهمية لعدة أسباب:
أولًا، إن محكمة العدل هي محكمة الأمم المتحدة، فكل دول العالم أعضاء فيها، والدعوى فيها أهم من كل الدعاوى بالولاية القضائية العالمية، لأن هذه المحكمة أعلى من باقي المحاكم، وهي ليست جنائية تدين فردًا بل تدين الدولة والنظام ككل.
الدول المطبّعة مع النظام هي الأكثر انزعاجًا من الخطوة، لا سيما أن الدعوة تقدم وثائق تثبت تورُّط نظام الأسد بجرائم التعذيب، التي تحرج الدول المتهافتة على التقارب معه وإعادة تأهيله.
ثانيًا، إنها الدعوى الوحيدة في العالم ضد نظام خرق اتفاقية التعذيب، الذي وصل إلى مراحل متقدمة من التوحش والبربرية، وهذه الدعوى رسالة سياسية ضد النظام لكل دول العالم، والذي يمثل الدولة ويتحكم بمفاصلها بشكل واضح.
ولم يتعاون النظام بالأصل مع محاولات الدولتَين في التفاوض خلال الـ 3 سنوات السابقة، إذ لا يتوقع عبد الغني في حديثه لـ”نون بوست” أن يتجاوب النظام، وحتى إن تجاوب فالأدلة كلها ضده، داعيًا في الوقت ذاته باقي الدول بالتحرك أمام محكمة العدل، والانضمام إلى هذه الدعاوى حتى لو أخذت وقتًا طويلًا، فهي تعيد تسليط الضوء على الانتهاكات التي ارتكبتها حكومة النظام.
بالمقابل، فإن الدول المطبّعة مع النظام هي الأكثر انزعاجًا من الخطوة، لا سيما أن الدعوة تقدّم وثائق تثبت تورُّط نظام الأسد بجرائم التعذيب، التي تحرج الدول المتهافتة على التقارب معه وإعادة تأهيله.
وأشار وزير الخارجية الهولندي، فوبكه هويكسترا، في بيان إلى أن المواطنين السوريين تعرضوا للتعذيب والقتل والاختفاء والهجوم بالغاز السام، أو أُجبروا على الفرار حفاظًا على حياتهم وترك كل ما لديهم، لافتًا أنه تمَّ الإبلاغ عن هذه الفظائع على نطاق واسع من قبل المنظمات الدولية، لإرساء المساءلة ومكافحة الإفلات من العقاب، فتقديم هذه القضية إلى محكمة العدل الدولية خطوة تالية رئيسية على الطريق الطويل لتحقيق هذا الهدف.
عودة إلى نقطة الصفر
بما أن محكمة العدل الدولية محكمة تنظر في النزاعات ما بين الدول أو قيام إحدى الدول بانتهاك معاهدات القانون الدولي، كما فعلت حكومة النظام بانتهاكها معاهدة مناهضة التعذيب، وكذلك معاهدة استخدام الأسلحة الكيميائية لمواجهة المدنيين، فنحن أمام معضلتَين أساسيتَين:
الأولى تتمثل في احتمالية وصول الملف إلى مجلس الأمن فيما لو صدر حكم من محكمة العدل بتثبيت التُّهم الموجهة إلى دمشق، واصطدامه بالفيتو الروسي والصيني في حال اتخاذ قرارات تحت الفصل السابع لتطبيق عقوبات عسكرية على سوريا، والثانية رفض دمشق الدعوى لعدم اختصاص محكمة العدل الدولية التي تحكم بين دول متضررة وبالتعويض لها، فكندا وهولندا ليستا متضررتَين من ممارسة التعذيب في سوريا.
يرى المحامي السوري أنور البني، رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، أن الخطة جيدة في هذا الوقت الذي يعاد فيه تدوير النظام، إلا أن الحكومة الهولندية والكندية تتعاملان مع الدولة السورية وليس مع نظام قاتل ومجرم، وقد ظهر ذلك من خلال المراسلات الدبلوماسية للدولتَين منذ 3 سنوات مع حكومة النظام.
وتابع البني بأن محاسبة الحكومة السورية على انتهاك اتفاقية التعذيب -مع أهميتها للإشارة دومًا إلى جرائم النظام- هي مسألة متراجعة، وأقل ممّا تم تحقيقه من إدانة النظام بجرائم ضد الإنسانية كما في النرويج وألمانيا والسويد وفرنسا.
واعتبر أنه حتى لو أُدين النظام بخرق اتفاقية منع التعذيب، فإن قرار المحكمة لو صدر سيدعو إلى المزيد من العقوبات السياسية والعزلة الدبلوماسية التي يعاني منها النظام أصلًا، فهو لا يضيف بؤسًا إلى بؤسه، لافتًا أن كندا وهولندا ليستا ذات صفة قانونية متضررة لتقديم دعوى ضد الحكومة السورية، كون محكمة العدل تدرج الخلافات بين الدول كحدود برية أو بحرية أو خلافات تجارية أو تعدٍّ.
محكمة العدل الدولية
تعدّ محكمة العدل الدولية محكمة العالم، وهي الجسم القضائي الأساسي للأمم المتحدة، وتمارس اختصاصها في حال اتفقت دولتان على اللجوء إليها لتسوية خلاف قانوني، وقد ساهمت محكمة العدل الدولية في تحقيق إنجازات على مستوى بعض الشعوب والأمم، كتجربة ناميبيا التي استطاعت توظيف سلسلة من الآراء الاستشارية من محكمة العدل الدولية في مسعاها للاستقلال عن جنوب أفريقيا منتصف القرن الماضي.
كذلك فيما يتعلق بالرأي الاستشاري للمحكمة حول التبعات القانونية لتشييد جدار الفصل في فلسطين المحتلة، كما تعتبر قضية الطاقم الدبلوماسي والقنصلي الأمريكي في طهران من أشهر القضايا التي عالجتها المحكمة.
ولكي تنظر محكمة العدل الدولية في قضية ما، يشترط موافقة الدول المعنية بطريقة أو بأخرى على أن تكون طرفًا في الدعوى المرفوعة أمام المحكمة، وهذا مبدأ أساسي يحكم تسوية المنازعات الدولية.
النظام لن يسمح بقبول وصول فرق حقوقية إلى مراكز الاحتجاز والتحقيق فيها، لا بموضوع التعذيب ولا الاختفاء القسري، فسياسة النظام مبنية على إخفاء الناس وإخفاء المعلومات حولهم، لذلك من ضروب الخيال أن ننتظر النظام ليسمح بدخول أي فرق تحقيق أو مراقبين.
وقد تتناول مواضيع جنائية، مثل موضوع التعذيب من باب انتهاك الدول لالتزاماتها بموجب المعاهدات المصادقة عليها، وبما يشكّل أساسًا ما يعرف بالخلاف القانوني بين دولتَين، فهذه الحالة من الخلافات القانونية لا تنحصر باعتبارها تتناول علاقات ثنائية بين دولتَين، لكنها تتعلق بواجبات الدولة المنتهكة تجاه كافة الدول الأطراف الأخرى في المعاهدة، وواجب تلك الدول في التصدي لهذه الانتهاكات ووضع حدّ لها.
و لعل ما حدث بين بلجيكا والسنغال خير مثال على ذلك، عندما رفعت بلجيكا إلى العدل الدولية دعوى على السنغال لحثّها على محاكمة الرئيس التشادي السابق حسين هبري بتهم التعذيب أو تسليمه للسلطات البلجيكية لمحاكمته في قضايا مرفوعة عليه هناك، إذ لم تتضرر بلجيكا أو أحد رعاياها، وهو ما يشابه ظروف الدعوى الكندية والهولندية الآن.
يقول محمد العبد لله، مدير المركز السوري للعدالة والمساءلة، إن أحد أوجُه مصلحة هولندا برفع الدعوى ضد حكومة النظام أن لديها لاجئين، فعدم التزام سوريا باتفاقية مناهضة التعذيب أدّى إلى أزمة لاجئين وصلت أوروبا ومنها هولندا، لافتًا أنه سيتم تقديم أدلة على ممارسة التعذيب بشكل ممنهَج وبسياسة حكومية من دمشق، وستكون على الأغلب صور قيصر أحد الأدلة في هذا الموضوع.
ورأى العبد الله أن النظام لن يسمح بقبول وصول فرق حقوقية لمراكز الاحتجاز والتحقيق فيها، لا بموضوع التعذيب ولا الاختفاء القسري، فسياسة النظام مبنية على إخفاء الناس وإخفاء المعلومات حولهم، لذلك من ضروب الخيال أن ننتظر النظام ليسمح بدخول أي فرق تحقيق أو مراقبين.
الجمعية العامة.. الطريق الأنجع
منذ اندلاع الثورة السورية لم تثبت إلا إدانة واحدة بحق النظام، وهي استخدام التعذيب من قبل مسؤول سابق في حكومة النظام، في محاكمة تاريخية بألمانيا خلال يناير/ كانون الثاني 2022، بعد تبنّي القضية في ألمانيا بموجب قوانين الولاية القضائية العالمية في البلاد، التي يسمح لمحاكمها بمقاضاة الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب في أي مكان ومنها سوريا، وهو ما يقلّل من تفاؤل السوريين تجاه الدعوى الكندية الهولندية المرفوعة، والتي قد تستغرق سنوات للوصول إلى حكم نهائي، هذا إن وافق النظام أصلًا باختصاص المحكمة.
يؤكد المحامي البني أن هناك سعيًا وعملًا جبهويًّا من المنظمات الحقوقية لدعم مشروع وُزّع على عدد من الدول، للضغط باتجاه إنشاء محكمة عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي سبق أن أنشأت الآلية الدولية لجمع الأدلة على سوريا منذ عام 2016، إذ تمكّنت من جمع 3 ملايين وثيقة عن الجرائم المرتكبة في سوريا.
رغم توثيق منظمات حقوق الإنسان الكثير من الانتهاكات وخروج العديد من التقارير الدولية، وفي مقدمتها استخدام السلاح الكيماوي وارتكاب مجزرة التضامن، إلا أن محاسبة النظام على هذه الجرائم ومساءلته لا تزالان بعيدتَين عن التحقيق بسبب الدعم السياسي اللامحدود من الحكومة الروسية.
وأُنشئت في ديسمبر/ كانون الأول 2016 آلية دولية محايدة ومستقلة تسعى إلى جمع الأدلة عن الجرائم المرتكبة بموجب القانون الدولي، لتستفيد منها محاكم أخرى لديها سلطة قضائية (كالمحاكم الأوروبية) التي تنظر في انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، استنادًا إلى مبدأ الولاية القضائية العابرة للحدود.
وحسب البني، فإنه قد حان الوقت لكي ينظر العالم إلى هذه الوثائق، وبالأخص ملف استخدام النظام للسلاح الكيمائي، في محكمة خاصة للجمعية العامة، إذ لا سلطة فوقها ولا حدود لها، ومن الممكن أن تطلب التدخل حسب الفصل السابع على الأقل من أجل استخدام السلاح الكيماوي، فاللجوء إلى الجمعية وإصدار قرار منها بإدانة النظام يرعبه أكثر من اللجوء إلى محكمة العدل الدولية والاقتصار بالحكم عليه بأنه خالف اتفاقيات دولية.
ورغم توثيق منظمات حقوق الإنسان الكثير من انتهاكات التعذيب والقتل والاغتصاب والاحتجاز القسري، وخروج العديد من التقارير الدولية وفي مقدمتها استخدام السلاح الكيماوي وارتكاب مجزرة التضامن، إلا أن محاسبة النظام على هذه الجرائم ومساءلته لا تزالان بعيدتَين عن التحقيق، بسبب الدعم السياسي اللامحدود من الحكومة الروسية، حيث استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) 17 مرة منذ عام 2011 لعرقلة جهود المجلس في حماية المواطنين السوريين، ومنع إحالة قضية السوريين إلى المحكمة الجنائية الدولية، كما لمنع وجود محكمة خاصة شبيهة بتلك التي تمَّ إنشاؤها للنظر في الجرائم الدولية المرتكبة في يوغوسلافيا ورواندا.