تعيد العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في مخيم جنين، التي حملت اسم “الحديقة والمنزل”، إلى الأذهان الواقع الذي يعيشه هذا المخيم منذ قرابة عامَين، أي منذ عودة العمل العسكري في الضفة الغربية المحتلة، ليأخذ طابع التنظيم بعد غياب لأكثر من 15 عامًا، عندما أعلن رسميًا عن تأسيس كتيبة جنين في سبتمبر/ أيلول 2021 بعد عملية “نفق الحرية” في سجن جلبوع، التاريخ الذي أصبح دلالة بالنسبة إلى كثير من الفلسطينيين فيما يتعلق بجنين ومخيمها في ملف المقاومة الفلسطينية، لا سيما أنه جاء بعد فترة وجيزة من استشهاد جميل العموري الذي يصفه البعض بـ”مجدد الاشتباك”.
خلال هذين العامَين كانت جنين على مواعيد متعددة من فصول المواجهة والمقاومة للاحتلال، تارة بالمقاومين الذين نجحوا في تنفيذ عمليات قوية ضد الاحتلال كرعد خازم، وتارة من خلال الاشتباكات اليومية التي كانت تدور مع قوات الاحتلال المقتحمة لجنين ومخيمها، ومنذ ذاك الحين باتت جنين تشكّل نموذجًا فريدًا في ساحة الضفة الغربية بالنسبة إلى المقاومة الفلسطينية، في ضوء التحديات التي تواجهها هناك مقارنة ببقية المناطق والتجارب الأخرى، سواء في نابلس كما حصل مع عرين الأسود أو كتيبة عقبة جبر في أريحا أو مناطق طولكرم.
ثمة علامات تشير إلى محاولات سابقة جرت على مدار الأعوام الماضية لكي يعود المخيم إلى سيرته الأولى عام 2002.
تكتسب جنين ومخيمها نموذجًا فريدًا فيما يتعلق بالمقاومة الفلسطينية في ساحة الضفة الغربية حاليًّا، من ناحية التنظيم أو حتى تصنيع العبوات الناسفة والبدء في إجراء التجارب الأولية على إطلاق الصواريخ هناك، كما أقرَّ نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، مؤخرًا.
يطلق البعض على جنين ومخيمها وسم “التمرد”، في إشارة إلى صعوبة تعامل السلطة الفلسطينية معهما، وفشل كل المحاولات في السيطرة عليهما وتدجينهما، وفشل كل الأدوات التي تمَّ استخدامها ضمن سياسة التنسيق الأمني خلال العامَين الماضيَين لعودة سيطرة رجالات أوسلو على المخيم.
ومع تصاعد الأحداث الحالية في جنين، لا يمكن القول إن ما حصل في هذه البقعة الجغرافية الواقعة في شمالي الضفة الغربية المحتلة قد بدأ عام 2021، إذ إن ثمة علامات تشير إلى محاولات سابقة جرت على مدار الأعوام الماضية لكي يعود المخيم لسيرته الأولى عام 2002.
تسلسل زمني: كيف وصلت جنين إلى هنا؟
تعيد الأحداث الحالية التي تشهدها جنين ومخيمها الذاكرة إلى تجربة الشهيد حمزة أبو الهيجا، أحد القادة الميدانيين لكتائب القسّام، والذي استشهد في اشتباك مسلّح في 22 مارس/ آذار 2014، بعد مطاردة متعددة وسلسلة عمليات إطلاق نار خاضها رفقة مجموعته.
ثم عادت التجربة من جديد في حالة الشهيد أحمد نصر جرار الذي استشهد في 6 فبراير/ شباط 2018 في اشتباك مسلّح، بعد سلسلة عمليات واشتباكات قُتل في أحدها الحاخام رزئيل شيبح، قبل أن يخوض اشتباكًا بعد مطاردة ممتدة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وفي 10 يونيو/ حزيران 2021، استشهد المقاوم جميل العموري إثر اشتباك مع قوة خاصة إسرائيلية في حي الناصرة بجنين، تبعته في 6 سبتمبر/ أيلول 2021 عملية “نفق الحرية” من مناطق متنوعة من محافظة جنين، حيث تمكن حينها 6 أسرى من الخروج من السجن، ثم في منتصف الشهر ذاته من العام ذاته يتم الإعلان عن “غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة”، على غرار تلك الموجودة في غزة.
وفي 1 مارس/ آذار 2022، اغتال الاحتلال الإسرائيلي الشهيد عبد الله الحصري، القائد الميداني في كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، خلال تصدّيه لاقتحام جيش الاحتلال لمخيم جنين، وفي 29 مارس/ آذار 2022 نفّذ الشهيد ضياء حمارشة من بلدة يعبد بجنين عملية في بني براك قتل فيها 5 مستوطنين.
في 26 يونيو/ حزيران 2023 شهد المخيم نقلة نوعية من خلال إطلاق صاروخَين تجريبيَّين من نوع قسام (1).
وبعدها بأقل من 3 أسابيع، استطاع المقاوم رعد خازم من مخيم جنين، وتحديدًا في 7 أبريل/ نيسان، تنفيذ عملية شارع ديزنغوف في تل أبيب، التي أسفرت عن مقتل 3 مستوطنين وإصابة أكثر من 10 آخرين برصاص رشاشه، قبل أن يرتقي شهيدًا في اشتباك مسلّح بمسجد مدينة يافا بعد ساعات من المطاردة.
وبعدها بنحو شهر، استطاع مقاومان فلسطينيان أن يقتلا 3 مستوطنين ويجرحا 4 آخرين في عملية إطلاق نار بمدينة إلعاد في الداخل المحتل، وبعد 3 أيام من المطاردة اعتقل الاحتلال المنفّذَين، وهما أسعد الرفاعي وصبحي أبو شقير من بلدة رمانة بجنين.
وفي 13 مايو/ أيار 2022 قُتل ضابط في وحدة اليمام الإسرائيلية خلال اشتباك مسلح عنيف مع مقاومين في مخيم جنين، ثم عادت المقاومة في جنين في 14 سبتمبر/ أيلول 2022 لتقوم بقتل نائب قائد كتيبة الاستطلاع الميداني التابعة للواء ناحال في جيش الاحتلال، في عملية إطلاق نار على حاجز الجلمة نفّذها الشهيدان أحمد عابد وعبد الرحمن عابد من بلدة كفردان قضاء جنين.
وشهد عام 2023 تطورًا نوعيًّا في أداء المقاومة الفلسطينية، حينما تمَّ إعطاب آلية مدرّعة لجيش الاحتلال أُصيب فيها 8 جنود بجراح مختلفة، في اشتباك وقع في 19 يونيو/ حزيران 2023، وهو اليوم ذاته الذي شهد استخدام الاحتلال لطائرات الأباتشي لتكون هي المرة الأولى منذ عام 2006.
وبعدها بيومَين، وتحديدًا في 21 حزيران/ يونيو 2023، اغتال الاحتلال 3 مقاومين من مخيم جنين ينتمون إلى سرايا القدس وكتائب الأقصى، بقصف سياراتهم في شارع الناصرة بالمدينة، في أول اغتيال جوي منذ 18 عامًا.
وفي 26 يونيو/ حزيران 2023 شهد المخيم نقلة نوعية من خلال إطلاق صاروخَين تجريبيَّين من نوع قسام (1)، قالت مصادر إعلامية إن كتائب القسّام أطلقتهما من جنين نحو المستوطنات المحاذية للمدينة، قبل أن يؤكد نائب رئيس حركة حماس هذه المحاولة ويقرّ بالمسؤولية عنها.
خصوصية وحالة استثنائية
تكتسب جنين خصوصية أدّت إلى فشل التعامل الأمني والعسكري الإسرائيلي، أو سياسة التدجين بالإغراءات المالية والتسهيلات، كون المخيم والمدينة اعتادا على فكرة المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي منذ عملية “السور الواقي” التي جرت عام 2002.
تعتبر هذه الحالة أحد العوامل التي ساهمت في وصول المخيم للمشهد الحالي في الفترة الحالية، إلى جانب التداخل الاجتماعي بين أفراده وذوبان الخلافات السياسية والتلاحم المشترك بين أبناء الفصائل الفلسطينية في المدينة والمخيم على حد سواء، خصوصًا حركة الجهاد الإسلامي وفتح وحماس، إذ تعتبر الجهاد الإسلامي أكثر الفصائل الفلسطينية حضورًا في المخيم والمدينة، حيث يعتبران معقلًا تاريخيًّا بالنسبة إليها، في الوقت الذي تتواجد فيه حركة حماس وكتائب القسام بنسبة أقل منها، إلا أن السنوات الماضية شهدت حضورًا للعديد من المقاومين الذين نفّذوا عمليات نوعية.
إلى جانب ذلك، فإن سياسة الإهمال التاريخي من قبل السلطة الفلسطينية ومسؤوليها في جنين ومخيمها، يلعب دورًا بارزًا في كون المخيم متمردًا على السياسة الرسمية لرجالات أوسلو، ويجعل أهلهما يرفضون الحالة السياسية القائمة حاليًّا ويبحثون عن المواجهة مع الاحتلال.
يضاف إلى ذلك، دور جنين البارز هي ومدن الشمال في الضفة الغربية المحتلة، كنابلس وطولكرم في انتفاضة الأقصى خلال فترة 2000-2005، إذ شهدت مناطق الشمال خروجًا كبيرًا للمقاومين وقيادات العمل المقاوم ضد الاحتلال.
ومع فشل عملية “الحديقة والمنزل”، يمكن القول إن جنين ستؤسّس لحالة جديدة في المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، بحيث تنتقل هذه التجارب إلى مناطق ومخيمات أخرى في الضفة الغربية المحتلة، على اعتبار أن المخيمات تشهد تمردًا أكبر على السلطة والاحتلال مقارنة بمدن المركز.