تاريخيًا، امتدت حدود خراسان القديمة في الجزء الشرقي من الإمبراطورية الفارسية، وبعد انهيار الإمبراطورية توزعت أراضيها بين الدول المجاورة لها، وهي إيران وأفغانستان وطاجسكتان وتركستان وأوزبكستان، واليوم صارت محصورة تحديدًا بين شرق إيران وشمال غرب أفغانستان وبعض المدن في طاجكستان وأوزبكستان.
يُعرف الإقليم بكونه أحد قلاع العلم والثقافة الإسلامية، ومفرخة الفقهاء والعلماء في شتى المجالات، ممن أثروا في الحضارة الإنسانية بإسهامات لا ينكرها منصف، فظلت حتى اليوم شاهدة على عظمة هذا الجيل الذي استطاع أن يحول تلك البقعة الصغيرة جغرافيًا إلى مركز علمي، ومن أهم تلك الأسماء: البخاري، النيسابوري، الأصفهاني، النسائي، ابن ماجة، مسلم، الطبراني، الحازمي، ابن سينا، الكعبي، البلخي، البيروني، الهمذاني.
يصف الباحث المؤرخ محمود شاكر حال هذا الإقليم في افتتاحية كتابه “خراسان” قائلًا: “كانت حاضرة المناطق ثم غيبتها الأيام، ونسيها سكان الزمان، وتقاسمتها الدول فأغفل المؤرخون ذكرها وأهمل الباحثون دراستها، حيث ضُمت إلى أراضي واسعة فضاعت لصغرها النسبي، وكان الضياع مقصودًا، والإهمال متعمدًا، كانت مدنها العامرة نسبًا لعلمائها الذين ملأوا الدنيا علمًا فعرفتهم أقاصي المعمورة، وطوف ذكرهم البلاد على حين زالت مدنهم وأمحت آثارها أو استبدل باسمها آخر وطمست معالمها”.
ويقول شمس الدين المقدسي، الرحالة وأحد أبرز جغرافيي العالم، “إنها أجل الأقاليم وأكثرها أجلة وعلماء، وهو معدن الخير ومستقر العلم وركن الإسلام المحكم وحصنه الأعظم، ملكه خير الملوك، وجنده خير الجنود، فيه يبلغ الفقهاء درجة الملوك”، وفي موضع آخر “خراسان في غذاء الهواء، وطيب الماء، وصحة التربة، وإحكام الصنعة، وتمام الخِلقة، وجودة السلاح والتجارة والعلم والعفَّة والدراية”.
وفي فضله وصى الخليفة محمد بن عبد الله بن طاهر (820 – 867م) حاكم العراق والمدينة ولاته قائلًا: “عليكم بخراسان فإن هناك العدَدَ الكثير والجَلَد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النِّحَل ولم يقدح فيها فساد، وهم جند لهم أبدان وأجسام، ومناكب وكواهل، وهامات ولحى وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة”.
في المادة الأولى من ملف “خراسان العلوم” نلقي الضوء على أبرز المحطات في تاريخ إقليم خراسان وإسهاماته العلمية، مع التعريج سريعًا على أهم البؤر الفكرية التي كانت منصات رئيسية لانطلاق شعاع العلم منذ أن من الله عليه بالإسلام حين فتحت عام 643م في عهد الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -.
قبل الإسلام.. محط أنظار الجميع
كان إقليم خراسان جزءًا من الإمبراطورية الأخمينية الفارسية (350 – 330 ق.م) قبل أن يسقط في قبضة الإسكندر الأكبر عام 33 ق.م، وكان يسمى حينها أريانا، وكان أهلها يدينون بالزرادشتية (إحدى أديان الماجوسية القديمة)، وفي القرن الأول الميلادي سقط الجزء الجنوبي من خراسان الذي كان تحت ولاية إيران الكبرى آنذاك، في قبضة إمبراطور كوشان في القرن الأول الميلادي، لتبدأ مرحلة التوسع نحو أفغانستان حيث بنى حكام كوشان عاصمة لهم في باغرام.
الإمبراطور كوشان
ومع تحالف الكوشانية مع الإمبراطورية الساسانية (226 – 651م) قسمت بلاد فارس إلى 4 مناطق: في الغرب خوارافان وفي الشمال آباكستار وفي الجنوب ميمروز، وكانت خراسان في الشرق التي قسمت في الحقبة الساسانية إلى 4 مناطق أخرى هي: نيسابور ومرو وهراة وبلخ.
دخل الساسانيون في صراعات كبيرة مع القوى المحيطة من حولهم وعلى رأسها العرب، ما دفع آخر ملوك الساسانيين في بلاد فارس، يزدجرد الثالث، إلى نقل العرش إلى خراسان بعد سيطرة القبائل العربية على أجزاء كبيرة من غرب الإمبراطورية، وبعد معارك ضارية سقط الملك قتيلًا، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ خراسان حين فتحها المسلمون عام 647م.
في كنف الإسلام.. إنجازات حضارية
بعد انتصار المسلمين على الفرس في معركة نهاوند عام 643م وهي المعركة التي اعتبرها المؤرخون فاتحة الفتوحات لبلاد فارس، أمر أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب بالتوغل أكثر داخل مناطق فارس وفتحها، وبالفعل تجهز جيش جرار مؤلف من سبعة ألوية لتلك المهمة، ووكل فتح خراسان للأحنف بن قيس رضي الله عنه.
ونظرًا لمكانة هذا الإقليم الساحر جغرافيًا – ثم علميًا لاحقًا – حرص العديد من الصحابة والتابعين على الاستقرار فيه، وبعضهم أصر على البقاء حتى وفاته، إذ يقول الحاكم في المستدرك: “نزل خراسان من الصحابة وتوفي بها بريدة بن حصيب الأسلمي ومدفون بمرو وأبو برزة الأسلمي والحكم بن عمرو الغفاري وعبد الله بن خازم الأسلمي المدفون بنيسابور وقثم بن العباس المدفون بسمرقند”.
من أعظم المناطق التي يشار لها بالبنان “بخاري” الواقعة في جمهورية أوزبكستان، وهي المدينة التي ينتمي إليها البخاري والمسندين
وما إن أقام المسلمون في خراسان حتى عمروها وبذلوا لأجل ذلك الوقت والجهد لتحويلها من إقليم صحراوي يقبع سكانه في براثن الجهل والماجوسية والكفر إلى قلعة من النور والإيمان، وبالفعل انشقت الأرض من تحت أقدام المسلمين لتخرج عشرات البقاع والمناطق التي تحولت فيما بعد إلى مراكز علمية عريقة.
يستعرض الباحث المؤرخ راغب السرجاني في مقال له أبرز المراكز العلمية التي دشنها المسلمون في خراسان بعد فتحها، منها “الدينور” الواقعة في الجهة الغربية الشمالية من إيران الحديثة وينسب إليها الفضل في الأدب والحديث والعلوم، كذلك “همذان” دار السنة في قلب خراسان التي تحتضن علماء الفقه والحديث منذ عام 200 للهجرة.
المنتزه الوطني التاريخي والثقافي في مدينة مرو القديمة
ومن أبرز تلك المراكز “جرجان” الواقعة جنوب شرقي بحر قزوين في نهاية الخط الحديدي القادم من طهران وهي مفرخة الأدباء والعلماء والفقهاء والمحدثين، شأنها شأن “نيسابور” الواقعة جنوب مشهد الإيرانية وتسمى دار السنة والعوالي، مثلها مثل “مرو” التي تقع اليوم ضمن بلاد التركمان (تركمانستان) وهي مركز الأعيان وعلماء الدين.
وهناك “بلخ” إلى الغرب من مدينة مزار شريف، وتحتل مكانة مقدسة لما يرافقها من الكثير من السرديات التي يكذب المؤرخون الكثير منها، منها ما يتعلق بكونها مدفن الصحابي الجليل علي بن أبي طالب، وهي من المدن الأفغانية المهمة في الوقت الحاضر.
ومن أعظم المناطق التي يشار لها بالبنان “بخاري” الواقعة في جمهورية أوزبكستان، وهي المدينة التي ينتمي إليها البخاري والمسندين وبجوارها “سمرقند” ثاني أكبد مدن أوزباكستان، التي ينسب إليها الفضل في الفقه وعلوم الدين ومن أعلامها أبي عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ومحمد ابن نصر المروزي، وهو شأن “خوارزم” بجانب “أصبهان” أحد أشهر المدن الإيرانية اليوم.
خراسان والحركة العلمية
قدمت خراسان للحضارة والإنسانية ما لم تقدمه غيرها من العواصم، بل إنها تنافس القاهرة وبغداد ودمشق ومعهم الأندلس في ريادة الحركة الفكرية والعلمية، الدينية والدنيوية، التي توثقها شهادات المؤرخين وصفحات الموثقين وأرفف المكتبات في المشرق والمغرب، ففي علوم الفقه ساهم علماؤها في إنعاش المكتبة الإسلامية بعشرات التصنيفات ومن أبرزهم أبي حاتم محمد بن حبان التميمي السمرقندي وأبو بكر محمد بن المنذر النيسابوري وأبو بكر بن فورك الأصفهاني الأصل، الأصولي المتكلِّم، كذلك أبو بكر أحمد بن الحسن البيهقي الحافظ الشافعي.
كما تزخر مكتبات علوم الفقه والحديث بأمهات الكتب التي كتبها المحدثون والفقهاء الخرسانيون من بينهم البلخي والسرخسي والخوارزمي والسمرقندي والفارابي والبخاري والترمذي والصاغاني والأبيوردي والقاشاني والشاشي والنيسابوري والمرْوَزِي والهَرَوي والفرغاني والزمخشري والصُّغدي والبيهقي والبُسْتي.
تمثال الفارابي في الجامعة التي تحمل اسمه في كازخستان
ومن علوم الفقه إلى الفلسفة، شهدت خراسان نهضة فلسفية غير مسبوقة في العواصم الإسلامية والعربية، ويرجع الفضل في ذلك إلى أبو زيد أحمد بن سهل البلخي، الذي جمع بين الفلسفة والعلوم الشرعية والأدب، الذي قاله فيه أبو حيان التوحيدي: “الذي أقوله وأعتقده أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر ثلاثة لو اجتمع الثقلان على تقريظهم ومدحهم ونشر فضائلهم في أخلاقهم وعلمهم ومصنَّفاتهم ورسائلهم مدى الدنيا لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم، أحدهم أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ والثاني أبو حنيفة الدينوري، فإنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم، ورواء وحكم، والثالث أبو زيد أحمد بن سهل البلخي، فإنه لم يتقدم له شبيه في الأعصر الأول، ولا يظن أنه يوجد له نظير في مستأنف الدهر، ومن تصفَّح كلامه في كتاب أقسام العلوم، وفي كتاب أخلاق الأمم، وفي كتاب نظم القرآن، وكتاب اختيار السيرة، وفي رسائله على إخوانه، وجوابه عما يُسأل عنه ويُبْدَه به عَلِمَ أنه بحر البحور، وأنه عالم العلماء، وما رُثي في الناس من جمع بين الحكمة والشريعة سواه، وإن القول فيه لكثير”.
ومن أعلام الفلسفة في الإقليم أبو القاسم عبد الله بن أحمد الكعبي بن علي بن سينا، من بلخ، وكان من المتكلمين العظام، له مذهب خاص وأتباع يقال لهم الكعبية، وكان له دور كبير في نشر الحركة الفلسفية والعقلية في خراسان ووفر إلى جوار أقرانه البيئة المناسبة لتخريج علماء أفذاذ على شاكلة الفيلسوف الكبير والطبيب العلامة ابن سينا.
وفي علوم الطب كان لخراسان باع طويل في إثراء الحركة العلمية في هذا المجال، حيث برز أعلام ومشاهير قدموا تصنيفات لا تزال تمثل المرجعية الأساسية لأطباء العالم حتى اليوم، ومن أبرزهم: سهل النيلي النيسابوري، الذي من أقيم مؤلفاته “شرح مسائل حنين”، وهناك أبو بكر الإبراهيمي النيسابوري وأبو الحسن المروزي صاحب الموسوعة الخالدة “فردوس الحكمة” التي حوت عشرات البحوث في الطب والفلك والظواهر الجوية وعلم النفس، وهو صاحب اكتشاف أن مرض السل ينتقل بالعدوى بين البشر، وله مؤلفات عدة في فوائد الأطعمة وأنواع الأغذية الجيدة والعقاقير وخلافه، ولا يقل عنه في إسهاماته الجليلة تلميذه النجيب أبو بكر الرازي صاحب مؤلفات “الجدري والحصبة” و”الحصى في الكلى والمثانة” و”دفع مضار الأغذية” و”برء ساعة” وكتاب “الفاخر في الطب”.
أحد أهم مؤلفات بنو موسى بن شاكر في مجال الميكانيكا
وفي الرياضيات، ظهر أبو محمد الشعراني الرازي (توفي عام 353هـ ) المولود في نيسابور وهو من أعظم من كتب في علوم الحساب والجبر والهندسة، إضافة إلى محمد القهستاني وبن حمدوية الفرائضي وأبو الحسن الحاتمي والوفاء البوزجاني، أحد أعلام الهندسة وصاحب المؤلفات العظيمة ومنها “مجسطي” و”العمل لجدول الستيني” وكتاب “الزيج الشامل”.
أما في الفلك فليس هناك أشهر من الأسرة الخراسانية المعروفة، أبناء موسى بن شاكر الثلاثة، محمد وأحمد والحسن، الذين أسهموا بمؤلفاتهم واكتشافاتهم في إثراء علوم الفلك في عهد المأمون الذي أجزل لهم العطاء وخصص لهم دارًا في أعلى ضاحية من بغداد لرصد النجوم رصدًا دقيقًا، ولهم باع طويل في كل ما يتعلق بحساب ومجاري النجوم والشمس والقمر، ومعرفة الطوالع وتيسيرها، كذلك التقاويم وأحوال الأجرام السماوية وأوضاعها وأشكالها.
برعت خراسان أيضًا في علوم الفقه والفلك والرياضيات والطب، أبدعت كذلك في علوم اللغة والأداب، ويعود الفضل في ذلك إلى العلمين الشهيرين: أبا بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني، صاحبا المؤلفات والمعارك الأدبية واللغوية التي تزخر بها مكتبات العالم حتى يومنا هذا، وهناك أيضًا من أئمة اللغة الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد الأزهر وأصله من هراة وصاحب كتاب “التهذيب” الشهير، كذلك الجوهري صاحب “الصحاح”.