قال عنها الرحالة المغربي الشهير أبو عبد الله محمد بن اللواتي الطنجي المعروف بـ”ابن بطوطة” حين زارها: “هي من أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها، لها أسواق مليحة، وشوارع فسيحة، والعمارة الكثيرة، والمحاسن الأثيرة، وهي ترتج بسكانها لكثرتهم وتموج بهم موج البحر.. ولم أر في بلاد الدنيا أحسن أخلاقًا من أهل خوارزم، ولا أكرم نفوسًا، ولا أحب في الغرباء، ينتشر في أنحائها الزوايا والمساجد والمدارس والمدرسون الذين يعملون فيها، وكذلك المؤذنون والوعاظ والمذكرون، وكذلك الفقهاء والقضاة الذين يحكمون في القضايا الشرعية، وما كان من سواها حكم فيها الأمراء، وأحكامهم مضبوطة عادلة؛ لأنهم لا يتهمون بميل، ولا يقبلون رشوة”.
وفي وصفها قال المؤرخ ياقوت الحموي: “ما ظننت أن في الدنيا بقعة سعتها سعة خوارزم وأكثر من أهلها مع أنهم قد مرنوا على ضيق العيش والقناعة بالشيء اليسير، وأكثر ضياع خوارزم مدن ذات أسواق وخيرات ودكاكين، وفي النادر أن يكون قرية لا سوق فيها مع أمن شامل وطمأنينة تامة”.
خوارزم، مدينة منضوية تحت إقليم خراسان، تقع غرب أوزبكستان، عند المجرى الأدنى لنهر جيحون، وتحدها من الجهة الشرقية صحراء قزيل كوم (تفصلها عن منطقة ما وراء النهر)، ومن الجهة الغربية صحراء قراقوم (تفصلها عن خراسان)، ومن الجنوب الصحراروان التي يمر النهر بالقرب منها، أما من الشمال فتحيط بها شواطئ بحر خوارزم أو الذي يطلق عليه بحر آرال، التي اكتسبت شهرتها من علمائها وأئمتها الذين ملأوا الدنيا بنور العلم والتقدم والنهضة والرخاء، فأصبحت أحد أشهر عواصم العلم في التاريخ القديم والحديث.
حضارة 7 آلاف عام
تشير الروايات والوثائق إلى أن حضارة خوارزم تعود إلى 7 آلاف عام تقريبًا، وهو ما توثقه الاكتشافات الأثرية التي عثر عليها في تلك المنطقة ويرجع تاريخها إلى ما بين 5000-4000 ق.م، حيث ظهرت آثار لعناصر سكانية فارسية كانت تقطن هذا المكان (تسمى بالعناصر الإيرانية القديمة وشعب ساكا) وآثار أخرى للغات هندية أوروبية.
وخلال القرنين الرابع والسادس قبل الميلاد خضعت خوارزم لحكم الإمبراطورية الأخمينية الفارسية، (كان مقرها غرب آسيا وأسسها كورش العظيم وكانت تمتد من البلقان وأوروبا الشرقية في الغرب إلى وادي السند في الشرق، وتعد أكبر من أي إمبراطورية سابقة في التاريخ، تمتد 5.5 مليون كيلومتر مربع (2.1 مليون ميل مربع))، وفي عهد الإسكندر المقدوني كان بها مملكة مستقلة تسمى “تشوراسمي”، ويذكر المؤرخون أنه في الغالب كانت تلك التسمية هي أصل كلمة خوارزم التي انتشرت بهذا المسمى بعد الفتح الإسلامي لها.
في عام 706 ميلادية من الله على خوارزم بالفتح العربي الإسلامي عن طريق قتيبة بن مسلم الباهلي، ضمن سلسلة الفتوحات التي فتحها الجيش المسلم في تلك المنطقة (أقاليم ما وراء النهر)، وظلت المدينة تحت إشراف ولاة خراسان لفترة طويلة، فكان يعينهم الوالي في العراق خلال العصر الأموي.
وبعد أفول نجم الأمويين خضعت خوارزم للحكم العباسي، فمكثت تحت قبضة الطاهريين قرابة 50 عامًا، إذ أولوا خوارزم أهمية كبيرة مقارنة بالأمويين، فأدخلوا سكانها الجيش ومنحوهم بعض الامتيازات، ثم توالى الرخاء والنمو في ولاية السامانيون، فنهضت الزراعة والصناعة والتجارة، وتحولت خوارزم إلى مدينة ذات شأن كبير وحضور اقتصادي وعلمي هائل.
ساءت الأوضاع في المدينة بعد رحيل المغول، حيث انتشرت جرائم السرقة وتفشى الجهل وتدنت أحوال الناس، لكن سرعان ما عادت لرقيها مرة أخرى بعد سيطرة سلالة كونغرات عليها في 1763م
وما إن رسخ الحكم الإسلامي أقدامه حتى بدأت المدن الخوازمية الصغيرة تتشكل وفق الهوية الإسلامية، في الشكل والمضمون، فظهرت الإمارات الخوازماشية الشهيرة التي تعاقب على حكمها عشرات الأسر مثل المأمون بن محمد والتوتناش ومحمود بن سبكتكين الغزنوي ثم السلاجقة الذين حكموا المدينة لفترات طويلة، وتعاقب على الحكم فيها ستة حكام يأتي على رأسهم تكش علاء الدين (1193-1199م) الذي زاد من أملاك دولة شاهات خوارزم، ثم خلفه ابنه علاء الدين محمد ومن بعده ابنه جلال الدين منكبرتي (1221-1239م) الذي سقطت المدينة في عهده بأيدي المغول.
وفي عام 1333م زار الرحالة ابن بطوطة خوارزم ووصفها بأنها من أجمل مدن الترك وأفخمها وأكبرها، لافتًا إلى أن موقعها الإستراتيجي كونها أهم مدينة على الطريق التجاري – طريق الحرير – بين شرقي آسيا وشرقي أوروبا أهلها لأن تكون واحدة من أكثر المدن أهمية في ذلك الوقت، ما جعلها مطمعًا للكثير من الحضارات الأخرى، وهو السبب الذي دفع الفاتح التركي المغولي الذي لم يهزم أبدًا، تيمور لنك (1336- 1405م) لغزوها وفتحها فيما بعد.
إلا أن الأوضاع ساءت في المدينة بعد رحيل المغول، حيث انتشرت جرائم السرقة وتفشى الجهل وتدنت أحوال الناس، لكن سرعان ما عادت لرقيها مرة أخرى بعد سيطرة سلالة كونغرات عليها في 1763م، حيث تبنت رؤية إصلاحية جديدة قضت من خلالها على معاول الهدم في خوارزم التي بلغت أقصى اتساع لها فيما بعد في عهد الخان عبد الله قلي (1825-1842م) إذ امتدت سلطته من مصب نهر سيحون شمالًا إلى نهر المرغاب في خراسان جنوبًا.
إلا أن هذا التمدد لم يدم طويلًا، حيث وقعت في قبضة الروس الذين ألغوا نظام الخانية عام 1919 لتستبدل بجمهورية جديدة اسمها “جمهورية خوارزم” دامت قرابة 5 سنوات كاملة قبل أن تلحق بالاتحاد السوفيتي عام 1924، لتقسم أراضيها بين جمهوريتي أوزبكستان وتركمانستان، وجمهورية قراقلبق ذات الحكم الذاتي.
إرث حضاري ومعماري
الفترة التي قضتها خوارزم تحت حكم العباسيين ومن بعدهم المغول كانت أزهى عصور نهضتها ورونقها، حتى إنها تحولت إلى قبلة الحضارة الإسلامية حينها، وهو ما تجسده وتؤرخه المعالم الأثرية الموجودة بها حتى اليوم، التي جعلت منها لوحة ثقافية عظيمة.
قلعة إيجان في خوارزم
تشير الروايات إلى أن هناك أكثر من 50 معلمًا أثريًا في تلك المدينة يعود معظمها للقرن الثامن والتاسع عشر الميلادي، بعضها أصبح مواقع عالمية وضمن لائحة المواقع التاريخية في آسيا، كما هو حال قلعة إيجان التي بنيت في القرن العاشر ويبلغ ارتفاعها أكثر من 10 أمتار، وقد بنيت أسوارها بالطابوق ولها أربعة أبواب على جوانب القلعة، وأعيد ترميم أسوارها أكثر من مرة، وفي عام 1990 صنفتها اليونسكو كموقع تراث عالمي.
وهناك كذلك مئذنة كونلغ تيمور التي بنيت في عهد المغول، وتعد الأعلى ارتفاعًا في منطقة آسيا الوسطى، بجانب الجامع الكبير المبني في القرن العاشر ثم أعيد ترميمه عام 1788م ويتكون من صحن كبير به 112 عمودًا ويشبه في بنائه المساجد القديمة الزاخرة بالعديد من أوجه العمارة المختلفة.
ومن أبرز المعالم الأثرية في خوارزم مدينة خيوه التي يصفها البعض بأنها متحف تحت قبة السماء، تقع على ارتفاع 100 متر فوق سطح البحر، وتحفها مساحات كبيرة من صحراء قزل قوم، فيما يشرب سكانها من مياه قنال بالفان، وتتميز بناياتها بالطراز الإسلامي القديم حيث الأبواب الخشبية المنقوشة بمهارة وبساتين الزروع والثمار التي تحيطها من كل جانب، ومن أبرز معالمها التاريخية: قلعة أرك كوخنا (1686م-1888م) وقصر طوشخولي (1830م-1838م) ومسجد الجمعة (1788م-1789م) ومنارة كالتا مينور غير مكتملة البناء (1835م-1955م) ومنارة إسلام خوجه (1910م) وضريح بلفان محمود (1804م-1806م).
قبلة علماء الرياضيات والفلك
تميزت خوارزم كبقية مدن خراسان باحتضانها للعلماء والأئمة في مختلف المجالات، غير أن أبرز ما يميزها تحديدًا أنها كانت موطن أباطرة الرياضيات والفلك وعلى رأسهم العلامة أبي عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي المكنى بـ”الخوارزمي” (781 – 847م)، الذي عد درة تاج علماء الرياضيات المسلمين والعالميين بصفة عامة.
عالم الرياضيات محمد بن موسى الخوارزمي
ويعد الخوارزمي مؤسس علم الجبر وأول من جعله علمًا مستقلًا عن الحساب، وهو الإسهام الذي نقله الأوروبيون عنه، كما أن كتابه الشهير “الجبر” هو المرجع الأساسي لهذا العلم في مكتبات أوروبا، ويرجع إليه الفضل أيضًا في تعريف الناس بالأرقام الهندية، كما اكتشف العديد من القواعد الحسابية الجبرية منها: قاعدة الخطأين والطريقة الهندسية لحل المربعات المجهولة وهي التي تسمي اليوم باسم المعادلة من الدرجة الثانية.
كما أنه أول من نشر الجداول العربية عن المثلثات للجيوب والظلال، وأول من ابتكر مفهوم الخوارزمية في الرياضيات وعلم الحاسوب، لذا أطلق عليه البعض لقب “أبو علم الحاسوب”، وله إسهامات كبيرة في حقول المثلثات والفلك والجغرافيا ورسم الخرائط، تلك الإسهامات التي كان لها دورها في حل المعادلات من الدرجة الثانية التي كان لها الفضل في نشوء علم الجبر.
كما أبدع أبو عبد الله في علوم الفلك ووضع جداول فلكية (زيجا) كان لها الأثر الكبير على الجداول الأخرى التي وضعها العرب فيما بعد، وبلغ من الفهامة والنبوغ أن صحح الخوارزمي أبحاث العالم الإغريقي بطليموس Ptolemy في الجغرافيا، كما أشرف على عمل 70 جغرافيًا لإنجاز أول خريطة للعالم المعروف آنذاك، ومن أشهر كتبه في الجغرافيا كتاب “صورة الأرض”، وغيره من المؤلفات التي أصبحت مراجع لعلماء أوروبا وباحثيها الجغرافيين والفلكيين حتى اليوم.
ومما يحسب لخوارزم أن حكامها كانوا من أشد المتحمسين لنهضتها العلمية، فكان الخوارزمي على اتصال دائم بالخليفة العباسي المأمون الذي قربه منه وولاه على بيت الحكمة في بغداد، لتسجل تلك المدينة الصغيرة اسمها في سجلات العلوم وتاريخها، فيما تحول علماؤها إلى منارات علم على مر التاريخ.