في روايتها الصادرة عام 1818 بعنوان “فرانكنشتاين”، تحدثت الكاتبة الإنكليزية ماري شيلي عن العالم فيكتور فرانكنشتاين، عندما قرر أن يصنع إنسانًا من أعضاء الجثث، وبثَّ فيه الحياة، ومن ثم أطلق العنان له في البيئة المحيطة، وأخذ هذا الإنسان يكبر ويكبر حتى انقلب عليه في النهاية.
هذا بالضبط ما حصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عندما قرر أن يمنح الفرصة لمؤسّس مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، للعمل على تنفيذ مجموعة الأعمال التي يتعذّر على الدولة الروسية القيام بها، ومنحه اليد الطولى في حربه الدائرة في أوكرانيا، حتى أصبح يشكّل تهديدًا على الدولة الروسية نفسها.
يمكن القول إن ما حصل خلال اليومَين الماضيَين، نتيجة طبيعية للدول التي تسمح بتشكيل جيوش موازية، ففي مثل هذه الحالة ستكون النتيجة الحتمية محدَّدة في إطارَين، إما أن تضطر الدولة التعايش مع هذا الكيان الموازي، كما يحدث في العراق، والنتيجة دولة ضعيفة غير قادرة على المبادرة، وإما أن تضطر للمواجهة معها، كما حدث في روسيا، والنتيجة فوز طرف على حساب طرف آخر.
الرئيس بوتين هو الآخر تأكّد من طبيعة النفوذ الذي يمتلكه بريغوجين داخل الجيش، خصوصًا بعد نجاحه في الاستيلاء على العديد من المدن الجنوبية دون قتال
لكن حتى هذه اللحظة لا يمكن الحديث عن نصر حقّقه الرئيس بوتين على حساب بريغوجين، خصوصًا أن الأخير خرج حتى هذه اللحظة بشروطه، مرغمًا الرئيس بوتين على إسقاط تهمة الخيانة عنه، وتأجيل المواجهة الحتمية معه.
إذ يمكن وصف النتيجة النهائية التي خرجت بها مبادرة الرئيس البيلاروسي إلكسندر لوكاشينكو، بأنها أشبه بهدنة مؤقتة وتأجيل للحرب الأهلية، حتى تضع الحرب الأوكرانية أوزارها، إذ يدرك لوكاشينكو المخاطر الاستراتيجية التي قد تنتج عن استنزاف روسيا داخليًّا.
كما أن الرئيس بوتين هو الآخر تأكّد من طبيعة النفوذ الذي يمتلكه بريغوجين داخل الجيش، خصوصًا بعد نجاحه في الاستيلاء على العديد من المدن الجنوبية دون قتال، ومن ثم الانسحاب منها بعد الاتفاق.
ممّا لا شكّ فيه أن ما حدث هزَّ صورة روسيا الدولية، ففي الوقت الذي كافح فيه الرئيس بوتين لتحويل روسيا من قوى إقليمية كبرى إلى قوة دولية، مثّل تعثُّره الحالي في أوكرانيا، فضلًا عن تحرك بريغوجين الأخير، نكسة كبيرة في مدى ثقة العديد من الدول المرتبطة بالدور الروسي بإمكانية الاستمرار بالمراهنة على هذا الدور الذي أثبت هشاشة داخلية.
ورغم أن الحكم المسبق على تداعيات ما حصل في اليومَين الماضيَين ما زال مبكّرًا، إلّا أن الثابت هو أن الرئيس بوتين سيواجه مزيدًا من التحديات الداخلية فيما لو طال أمد الحرب في أوكرانيا، إذ لا ينحصر التهديد في بريغوجين فحسب، بل إن إعلانه عن إجراء إعادة هيكلة في وزارة الدفاع الروسية، قد يولّد ردة فعل أخرى غير متوقعة من قبل وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس هيئة الأركان فاليري غيراسيموف.
ماذا بعد تمرُّد فاغنر؟
يدرك الرئيس بوتين ومن خلفه الكرملين الروسي أهمية الحفاظ على قواعد الاشتباك مع مجموعة فاغنر، وذلك نظرًا إلى دورها الفعّال في العديد من الملفات الخارجية، وتحديدًا في سوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى ومالي، ومؤخرًا في السودان.
إذ إن مراهنة الرئيس بوتين على دور هذه المجموعة، جعل منها الداعم الرئيسي للنفوذ الروسي في هذه الدول، ومن ثم تصفية هذه المجموعة، تحت تهمة الخيانة كما عبّر عنها الرئيس بوتين، ستجعل روسيا الخاسر الأكبر، ليس في أوكرانيا فحسب بل في تلك الدول أيضًا، ولعلّ هذا ما يفسّر موافقة الرئيس بوتين على مجمل الشروط التي قدمها بريغوجين من أجل عدم الزحف نحو موسكو.
إن المستفيد الأكبر من تمرد مجموعة فاغنر هو أوكرانيا، التي تخلصت من عدو شرس كان يقاتل على أطراف العاصمة كييف، وكذلك الولايات المتحدة التي ربحت عدوًّا جديدًا للرئيس بوتين، فهي تراجعت مؤخرًا عن تصنيف مجموعة فاغنر كمنظمة إرهابية، في مؤشر واضح على توجُّه الولايات المتحدة نحو إمكانية الاستفادة من خطوة بريغوجين كورقة ضغط أخرى ضد الرئيس بوتين.
تمرُّد مجموعة فاغنر سيعيد العديد من حسابات الرئيس بوتين، وقد يكون التعجيل في إنهاء الحرب مع أوكرانيا خيارًا مطروحًا لإعادة ترميم العلاقة مع الدولة العميقة
إن التحدي الأكبر الذي يواجه بريغوجين ومجموعة فاغنر في المرحلة المقبلة، يتمثّل في كيفية تعاطي الرئيس بوتين معهما، إذ من الخطأ القول إن الرئيس بوتين سيكتفي بإسقاط تهم الخيانة عنهما، بل إن احتفاظ هذه المجموعة بقوتها وسلاحها، فضلًا عن تأثيرها في الداخل الروسي، وتحديدًا على مستوى العلاقة التي تربط بريغوجين بكارتل الدولة العميقة، إلى جانب تحكُّمه في ملفات روسيا الخارجية، وخصوصًا في مناطق الصراع والموارد والذهب، ستجعل الرئيس بوتين يفكر في كيفية التخلُّص منه في أقرب فرصة ممكنة، في إعادة لإنتاج العديد من السيناريوهات الاستخباراتية التي طالت المعارضين له، والتي كان آخرها اغتيال المعارض الروسي أليكسي نافالني بألمانيا في سبتمبر/ أيلول 2020.
دخل الرئيس بوتين الحرب في أوكرانيا على أمل تقسيم الناتو، ومن بعدها تفكيك منظومة الأمن الأوروبي، إلّا أن النتائج كانت عكس ما هو متوقع، إذ مثلت سياسة العقوبات الغربية وتحييد الحلفاء معضلة كبيرة لم يتمكن الرئيس بوتين من التعامل معها، وكان أبرز نتائجها نقل التهديد إلى الداخل الروسي.
فتمرُّد مجموعة فاغنر سيعيد العديد من حسابات الرئيس بوتين، وقد يكون التعجيل في إنهاء الحرب مع أوكرانيا خيارًا مطروحًا لإعادة ترميم العلاقة مع الدولة العميقة، التي أظهرت هي الأخرى دعمها لبريغوجين، بسبب التداعيات الكارثية للحرب في أوكرانيا على روسيا واقتصادها.
ركّز المفكر الإيطالي نيكولا ميكافيلي في كتابه “الأمير” على وجوب إقامة جيش وطني قوي، فالمرتزقة لا ولاء لهم إلا للنقود، وقال: “إنهم ناكرون للجميل، متقلبون، مراؤون ميالون إلى تجنُّب الأخطار شديدو الطمع، وهم إلى جانبك طالما أنك تفيدهم، فيبذلون لك دماءهم وحياتهم وأطفالهم وكل ما يملكون، طالما أن الحاجة بعيدة نائية، لكنها عندما تدنو يثورون”.
يبدو أن الرئيس بوتين لم يقرأ التاريخ جيدًا، كما أن خطوة بريغوجين الأخيرة ستجعل التاريخ يكتب أن “فرانكنشتاين” الذي صنعه الرئيس بوتين انقلب عليه في النهاية.