فجر الـ10 من يونيو/حزيران، وبمجرد عودته من رحلة إفريقية خارجية سريعة شملت 3 دول ضمن تجمع “الكوميسا”، أجرى السيسي زيارةً جديدةً إلى مقر الأكاديمية العسكرية، شهدت تغطية إعلامية لافتة من الإعلام الرسمي وأذرعه الموالية، تضمنت رسائل سياسية تخص الشأنين، المحلي والدولي، من السيسي إلى الرأي العام، خلال كلمته مع الطلبة.
كيان جديد نسبيًا
يخلط البعض بين الكلية الحربية والأكاديمية العسكرية نظرًا لتزامن زيارة السيسي إلى الكيانيْن معًا عادة، ما يشكل لبسًا لدى من لا يعرف ملابسات تأسيس الكيان الثاني: الأكاديمية العسكرية.
والصواب أن الأكاديمية العسكرية تمثل، إداريًا، ضمن منظومة قوانين وإداريات المؤسسة العسكرية “كيانًا جامعًا” للكليات العسكرية الأربعة المعروفة: الحربية والبحرية والجوية والدفاع الجوي، بعد تنامي تصورات أن الربط الإداري والبروتوكلي بين تلك الكليات يعد شكلًا من أشكال “تطوير” العمل العسكري.
تأسست الأكاديمية العسكرية ضمن مساعي عصرنة الجيش المصري تنظيميًا لكي تصبح أبجدياته مشابهة للجيوش الغربية، التي تضمن استحداث أنماط وفعاليات جديدة، لم تكن معروفة أو ذات أهمية لدى المؤسسة العسكرية المصرية، ومنها على سبيل المثال: معارض الصناعات العسكرية، وقد جاء التدشين الرسمي في 4 يوليو/تموز 2022 بموجب القانون 149 من نفس العام.
كيانات جديدة
من يطلع على البنية التنظيمية للجيش المصري خلال العشرية الأخيرة، ويقارنها بما سبق تلك السنوات العشرة، سيلاحظ أن هناك تغييرات كبيرة، إداريًا وتنظيميًا، طرأت بوضوح على مؤسسة الدفاع المصرية، بحيث لا يعد تأسيس الأكاديمية العسكرية التجلي الوحيد لها.
ففي عام 2013، تم استحداث كيان أكاديمي جديد لتخريج ضباط أطباء، هو “كلية الطب العسكرية” التي خرجت أولى دفعاتها عام 2019 (دفعة المشير الجمسي) وتمنح طلابها الخريجين بكالوريوس الطب والجراحة، إضافة إلى شهادات الدراسات العليا، وقد تأسست بناءً على قانون 74 لسنة 2013، وتعمل حاليًا بشكل متقاطع مع “الأكاديمية الطبية العسكرية”، ويندرج تحتهما عدد من المعاهد الطبية التعليمية التابعة للجيش.
تقع القيادة الإستراتيجية الجديدة، التي تضم مراكز لإدارة الاتصالات وجمع وتحليل البيانات وتنسيق أعمال الدفاع عن الدولة ومقرات سكنية وترفيهية، ضمن مساحة شاسعة تصل إلى 22 ألف فدان
في عام 2014، أعاد السيسي تشكيل قوات النخبة في الجيش بحيث تندرج تحت كيان جديد، أكثر تنظيمًا، قد يوكل إليه مكافحة التمرد داخليًا، أو العمليات العسكرية الدقيقة خارج الحدود ضمن ما يعرف بـ”قوات التدخل السريع المحمولة جوًا“، التي تتبع تنظيميًا “المنطقة المركزية العسكرية” وتتكون من عدة كتائب تضم نخبة العناصر البشرية المسلحة تسليحًا يتلاءم مع المهام ذات الطابع السريع والدقيق والنوعي.
وفي عام 2015، صدر قرار السيسي، الذي جاء كرد فعل على إحدى العمليات النوعية من كيانات التمرد الإسلامي القبلي ضد قوات الجيش في شمال سيناء يناير/كانون 2015، بتأسيس “القيادة الموحدة لشرق القناة ومكافحة الإرهاب” التي هدفت إلى توحيد جهود الجيشين، الثاني والثالث الميداني، ضد الجماعات المتمردة.
وقد تزامن تأسيس المقر السري العملاق لقيادة هذا الكيان الجديد مع بدء الحملة العسكرية (سيناء 2018)، وتشرف نفس القيادة حاليًّا على مشاريع إعادة رسم ديموغرافيا شمال سيناء أمنيًا بعد انتهاء الحرب على التمرد.
نهاية عام 2021، مع تبلور مقرات القيادة والسيطرة العسكرية، المشابهة لما يعرض في السينما الأمريكية، إنشائيًا في العاصمة الإدارية الجديدة، صدر قرار باستحداث منصب “قائد القيادة الإستراتيجية” ومسؤول ملف التصنيع العسكري، الذي ذهب إلى الفريق أحمد خالد حسن، الذي كان يشغل منصب قائد القوات البحرية.
وتقع القيادة الإستراتيجية الجديدة، التي تضم مراكز لإدارة الاتصالات وجمع وتحليل البيانات وتنسيق أعمال الدفاع عن الدولة ومقرات سكنية وترفيهية، ضمن مساحة شاسعة تصل إلى 22 ألف فدان، وقد زارها السيسي نهاية مايو/أيار 2023، في زيارة تضمنت، أيضًا، تفقد “الأكاديمية العسكرية” (المعادل المصري المستحدث للأكاديميات العسكرية الغربية المرموقة).
إرساء التقليد
من يتابع تحركات السيسي الميدانية، لا سيما في الفترة الرئاسية الثانية التي بدأت عام 2018، سيلاحظ تبلور نسق وتقليد لطريقة عمل مؤسسة الرئاسة، مكانيًا وزمانيًا، حتى إنه بات يمكن لبعض الباحثين “التنبؤ” ببعض تفاصيل هذا النمط.
فيوم الجمعة، بات مخصصًا عادة، لتفقد مجريات أعمال تنفيذ الخطة القومية للطرق، التي انتقلت، حاليًّا، من شرق القاهرة، حيث التمهيد الإنشائي والهندسي للانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة، إلى مشروعات ومحاور غرب القاهرة، أو غرب النيل كما يسميها السيسي، وهي الزيارة التي تتضمن نقاشًا مع أحد المهندسين المشرفين على تلك الأعمال، والتقاط الموكب الرئاسي لأحد الفقراء من كبار السن، تحت أعين كاميرات الإعلام، حيث يدور نقاش “أبوي” بين السيسي وهذا المواطن الفقير، ينتهي بوعد السيسي له بتنفيذ طلباته المعيشية العاجلة من سكن وعلاج.
فريق العلاقات العامة في الرئاسة يهدف من تثبيت هذا التقليد إلى تقديم السيسي للرأي العام في صورة الرئيس الذي لا ينام من أجل شعبه
أما عن الظهور التليفزيوني، فيفضل السيسي، في بعض الأوقات، “المداخلات الهاتفية” مع إعلاميين بعينهم، يرتاح في الحديث معهم، مثل عمرو أديب ويوسف الحسيني وشريف عامر، وهو الحديث الذي لا يخلو عادة من تأكيد السيسي للرأي العام أنه يتابع بعناية، وفق ما يسمح جدوله اليومي، ما يقال في وسائل الإعلام المصرية، مشددًا على ضرورة تحلي تلك المنصات بالمسؤولية والتصدي للشائعات التي يبثها خصومه، وفقًا لمعجمه.
يحرص السيسي كذلك عادة على حضور المناسبات الدينية ذات الطابع الرسمي في مسجد المشير طنطاوي، وحضور مناسبات يوم الشهيد في مركز المنارة المجاور لمسجد المشير في منطقة التجمع الخامس، وهي المعالم التي سيخفت بريقها تدريجيًا مع الانتقال للعاصمة الإدارية، حيث مركز مصر الإسلامي والمقر العملاق لرعاية أسر شهداء الجيش والشرطة الذين قضوا في المعارك الأمنية خلال العقد الأخير.
وفيما يخص زيارة “الأكاديمية العسكرية”، فإن تلك الزيارة تأتي ضمن جهود إرساء تقليد، هو أن يدشن السيسي عودته من أي رحلة خارجية مهمة بزيارة الكلية الحربية التابعة تنظيميًا، كما أشرنا، إلى الأكاديمية العسكرية، وهو ما حدث ديسمبر/ كانون 2020 أيضًا بالضبط، حينما فرغ السيسي من زيارته المهمة إلى فرنسا بزيارة الكلية الحربية فور الوصول من باريس.
ويبدو جليًا أن فريق العلاقات العامة في الرئاسة يهدف من تثبيت هذا التقليد إلى تقديم السيسي للرأي العام في صورة الرئيس الذي لا ينام من أجل شعبه، فبعد رحلة خارجية ممتدة لأيام، تتضمن مقابلات ومراسم، لا يفضل الرئيس الراحة، وإنما يستعرض لياقته وسيطرته على الحكم بزيارة، بالزي الرياضي والدراجة فجرًا، إلى مؤسسات تأهيل ضباط المستقبل.
وهي نفس الرسالة التي قالها صراحة أستاذ السيسي ومعلمه، اللواء سمير فرج، في مداخلته مع الإعلام تعليقًا على زيارة السيسي إلى “الأكاديمية العسكرية”، حينما استهل المداخلة بالثناء نصًا على جهد الرئيس وخوفه عليه من “الحسد”.
حساسية التوقيت
تأتي الزيارة أيضًا بعد أيام قليلة من الحادث الاستثنائي الذي وقع على الحدود المصرية “الإسرائيلية”، عندما تسلل جندي مصري من خلفية اجتماعية وثقافية شديدة البساطة، يخدم في قوات الشرطة، المكلفة قانونًا بتأمين خط الحدود الدولية ضمن تفاهمات معاهدة السلام 1979، إلى الجانب الآخر، وقتل ما لا يقل عن 3 من عناصر قوات الاحتلال.
فجر الحادث، لأول مرة منذ 10 أعوام، فيضانًا من التساؤلات العبرية عن سيطرة السيسي التي طالما وصفت بالمُطلقة على قواته، وهي السيطرة التي صارت محل شك بعد هذه العملية التاريخية، كما عرض البعض إلى احتمال تغيير السيسي نفسه لنمط تحركاته الشخصية بعد هذا الاختراق لجدران التطبيع والولاء للنظام السياسي.
لم يتعرض السيسي خلال لقاء العسكريين إلى الفاعل، إيجابًا أو سلبًا، كأن شيئًا لم يكن، وهو ما يتسق مع مساعي محاولات التشويش على الحدث، التي تجلت في رواية المتحدث العسكري المصري بأن الفاعل لم يقصد جنود الاحتلال، وإنما وقع القتل خطأ في أثناء مطاردة مهربي مخدرات عند معبر العوجة الحدودي.
يقول السيسي من خلال الزيارة العسكرية إن الحادث الخطير لم يغير شيئًا في تحكمه وسيطرته على مقاليد الأمور في البلاد
ولم يتبن النظام المصري خطًا واحدًا في تعامله مع ذلك الحادث، ففي الكواليس، مع مسؤولي الاحتلال، تعهد الجيش المصري ببذل كل الجهود الممكنة للحيلولة دون تكرار هذا الحادث، مع الاعتذار سرًا لنظرائهم العبريين عن الواقعة.
وفي الداخل، تأرجحت المعالجة بين التضييق على أسرة الفاعل ضمن إجراءات ما بعد استلام الجثمان، فلا عزاء ولا جنازة ولا زيارة للقبر ولا نظرة أخيرة، استجابة لطلبات الاحتلال، وفي نفس الوقت، سمح النظام لبعض الجهات المقربة منه بالاحتفاء بالحادث، مخافة أن يتحول التعاطف الشعبي الجارف مع المنفذ إلى حالة غضب ضد النظام الذي يتبرأ من الجندي.
يقول السيسي من خلال الزيارة العسكرية إن الحادث الخطير لم يغير شيئًا في تحكمه وسيطرته على مقاليد الأمور في البلاد، أو في علاقته مع المؤسسة العسكرية، أو في ترتيباته الأمنية شخصيًا، وهي رسالة مزدوجة من السيسي، الذي يفتخر عادة بأن الحوادث غير النمطية لا تؤثر في تماسكه، إلى الرأي العام، الداخلي والإقليمي على السواء، بأن الأمن مستتب وأن الأمور على ما يرام.
عسكرة الحياة المدنية
تستهدف تلك الزيارة إلى الأكاديمية العسكرية أيضًا، من ضمن ما تهدف إليه، أن ترسخ الوضع الجديد في طريقة تسيير الأمور في دولاب الدولة، وهو أنه لن يتعين أي موظف أو مسؤول في الجهاز الإداري المدني للدولة المصرية، قبل أن يمر إلى فترة تأهيل، واختبار للولاء، في الأكاديمية العسكرية.
تشرف تلك الأكاديمية، التي لم يمر على تأسيسها عام واحد فقط، في الوقت الحاليّ، على تأهيل كل المرشحين للوظائف المدنية في قطاعات التعليم والنقل والمالية والخارجية والرقابة الإدارية، وهو التأهيل الذي أثنى عليه السيسي على نحو لافت في الزيارة، مشيرًا إلى أنه تأهيل معنوي يهدف إلى تعليم المرشحين لتلك الوظائف قيم الانضباط والولاء والالتزام.
يشرف الجيش حاليًا حتى على التغذية المدرسية المقدمة للطلاب الأطفال في مراحل الروضة والابتدائي
وتتكامل مهمة تلك الأكاديمية مع جهود “الأكاديمية الوطنية للتدريب” والبرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة ومؤتمرات الشباب، وهي كيانات وفعاليات يرعاها السيسي بنفسه، لتأهيل موظف مدني على مقاس التوجهات السياسية للرئيس والجمهورية الجديدة، ومع جهود استبعاد من يشك في انتمائه سياسيًا لأي توجه معارض من الوظائف الحكومية مؤخرًا، وإحلاله بموظف آخر يدين بالولاء للنظام الحاليّ، أو متخرج من أحد الكيانات الجديدة تلك، أو – على الأقل – عضو في حزب “مستقبل وطن” (الظهير السياسي للسيسي).
وتوسع نفوذ الجيش في الحياة المدنية خلال العقد الأخير في مصر رأسيًا وأفقيًا إلى درجة تذويب المساحات بين ما هو مدني وما هو عسكري، فلا يخلو اجتماع يومي للسيسي عن أحوال الدولة تقريبًا من وجود قيادات عسكرية، بما في ذلك توريد الدواء للمستشفيات الحكومية واستصلاح الأراضي الزراعية الذي بات يشرف عليه ضباط طيارون.
ووصل الأمر إلى حد منح طلاب الكليات العسكرية، الحربية والبحرية والجوية والدفاع الجوي، بدايةً من الدفعات المنضمة حديثًا، شهادات جامعية مدنية معترف بها، في نهاية فترة الدراسة، مثل الاقتصاد وعلوم السياسة والإحصاء والهندسة، إلى جانب الشهادات العسكرية، دون أي زيادة في مدة الدراسة المعروفة، كما يشرف الجيش حاليًّا حتى على التغذية المدرسية المقدمة للطلاب الأطفال في مراحل الروضة والابتدائي.