تقع مدينة سمرقند التاريخية، في إحدى الواحات الكبرى بوادي نهر زرافشان، شمال شرق أوزبكستان، ويعني اسمها بالأوزبكية “قلعة الأرض” أو “وجه الأرض”، ويمتد تاريخها إلى 1500 سنة قبل الميلاد، وكانت مقصد الشعراء والأدباء والرحالة والعلماء، فقالوا إنها جنة الدنيا وفيروزة الأرض.
تعد سمرقند لؤلؤة آسيا الوسطى، أو بلاد ما وراء النهر، اتخذها الملوك والعظماء عاصمة لهم، وتعاقب عليها عشرات الحضارات والممالك، الفرس واليونانيون والصينيون والعرب والمغول والأتراك والروس السوفيات، كما كانت مقصد العلماء وطلبة العلم، فاستحقت أن تكون شمس العلم التي لا تغيب.
قال عنها الرحالة الشهير ابن بطوطة “إنها من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالًا، مبنية على شاطئ وادٍ يعرف بوادي القصَّارين، وكانت على شاطئه قصور عظيمة، وعمارة تُنْبِئ عن هِمَم أهلها. وخارج سمرقند قبر قثم بن العباس بن عبد المطلب، الذي استشهد حين فتحها”، أما المؤرخ ياقوت الحموي، فقال عنها في “معجم البلدان”: “وقالوا ليس في الأرض مدينة أنزه ولا أطيب ولا أحسن مُستشرَفا من سمرقند”، بينما شبهها حصين بن المنذر الرقاشي “كأنها السماء للخضرة، وقصورها الكواكب للإشراق، ونهرها المجرة للاعتراض، وسورها الشمس للإطباق”.
رواية “سمرقند” للكاتب اللبناني أمين معلوف
وفي شأنها قال الرحالة شمس الدين المقدسي: “سمرقند قصبة الصغد، ومصر الأقاليم، بلد سريّ جليل عتيق، ومصر بهي رشيق، رخي كثير الرقيق، وماء غزير بنهر عميق، ذو رساتيق جليلة، ومدن نفيسة، وأشجار وأنهار، في الصيف جنة، أهل جماعة وسنّة، ومعروف وصدقه، وحزم وهمّة”، بينما عظمها عطاء الملك الجويني، حاكم بغداد من المغول، حين قال: “سمرقند أعظم بقاع مملكة السلطان مساحة، وأطيبها ربوعًا”، ومؤخرًا وصفها الموقع الرسمي لليونسكو بأنها “ملتقى لثقافات العالم، وبوتقة لتفاعلها وصبها في نسيج واحد”.
منحها أدباء العصر الحديث عشرات الألقاب، منها أنها أنزه جنان الله في الأرض وجوهرة الإسلام ومرآة العالم، بينما جمع الروائي أمين معلوف كل تلك الصفات في روايته المعنونة باسمها حين قال: “سمرقند أجمل وجه أدارته الأرض يومًا نحو الشمس”.. فماذا نعرف عن تلك المدينة؟
ملتقى الحضارات
تعد سمرقند واحدة من أقدم بلدان آسيا الوسطى، وأحد القلاع المأهولة بالسكان بسبب موقعها الجغرافي حيث الطريق التجاري الواصل بين الصين وأوروبا، وتتباين الروايات بشأن حول تاريخ نشأة المدينة على وجه التحديد، إلا أن الشاهد من الأقوال وأكثرها رجاحة أنها أسست في العصر الحديدي، خلال القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد.
مرت المدينة بالعديد من المحطات التاريخية التي شكلت هويتها وتاريخها، أولها الفترة الهلينية حين فتحها الإسكندر الأكبر عام 329 قبل الميلاد، وكانت معروفة آنذاك لدى اليونانيين باسم مرقندة، وفي تلك المرحلة واجهت سمرقند العديد من الكوارث والأضرار نتيجة الحروب، لكنها في الوقت ذاته شهدت نقلة حضارية كبيرة في المجال المعماري والتشييدي، حيث تأثرت بشكل واضح بالجماليات اليونانية وتم استبدال الطوب المستطيل بآخر مربع، وتم إدخال طرق متفوقة للبناء والتجصيص، وفي عام 260 قبل الميلاد اجتاح الساسانيون الفرس المدينة، وتحولت إلى بؤرة ارتكاز لنشر العقيدة الساسانية.
تعرضت سمرقند لاحقًا لغزو القبائل الخيونية البدوية خلال الفترة بين 350-375 ميلادية، حيث بدأت ثقافة البدو في الانتشار، ثم أصبحت جزءًا من الدولة الكيدارية بين عامي 457 – 509 ميلادية، وذلك قبل أن يسيطر عليها التورك خلال معركة بخارى عام 560 ميلادية، وظلت تحت ولاية التوركية لعشرات السنين حتى فتحها المسلمون بدايات القرن الثامن الميلادي.
فتح سمرقند الأمويون تحت قيادة قتيبة بن مسلم عام 710 ميلادية، وكانت حينها مدينة تعج بعشرات المعتقدات والأديان: الزرادشتية والبوذية والهندوسية والمانوية واليهودية والمسيحية النسطورية، إلا أن المسلمين رفضوا أن يجبروا أهلها على الدخول في الإسلام عنوة، فتركوهم على حريتهم الدينية نظير دفع الجزية.
خلال الحرب العالمية الثانية (1941-1945) حاربت أوزبكستان ضمن قوات الجيش الأحمر ضد ألمانيا النازية، وفقدت في تلك الحرب أكثر من 263 ألف مجند، فيما ظل قرابة 32.5 ألف آخرين في عداد المفقودين
إلا أن الحكم الأموي لم يكن مرضيًا للكثير من سكان سمرقند، وبعض نخبتها، فدشنوا حركة من المعارضين للخلافة الأموية وكان ذلك بنهاية عام 740 ميلادية، وكان من بينهم موالون للعباسيين ومنهم القائد العباسي أبو مسلم الذي أصبح حاكمًا لخراسان بعد نجاح انتفاضته ضد الأمويين، ويحسب للعباسيين حرصهم على تطوير سمرقند علميًا، إذ تأسس بها أول مصنع ورق في العالم الإسلامي عام 751 ميلادية.
الجنرال الروسي قسطنطين پتروڤيتش ڤون كوفمان
وبعد العباسيين سيطر السامانيون على المدينة (875-999)، وأصبحت سمرقند عاصمة الأسرة السامانية ومركزًا مهمًا للعديد من طرق التجارة، وبنهاية القرن العاشر سقطت الدولة السامانية وخلفها القرة خانيون التورك الذين حكموها خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر قبل أن يجتاحها المغول عام 1220 ميلادية حين اقتحمها جنكيز خان بجيوشه وقتل جميع من تحصن بها سواء داخل القلعة أم المساجد، بجانب نهبه لأموالها وإجباره على تجنيد أكثر من 30 ألف شاب لخدمة الجيوش والقتال بجانبه في معاركه الخارجية.
وتأرجحت المدينة بين المغول والتيموريين حتى سقطت في أيدي الجنرال الروسي قنسطنطين پتروڤيتش ڤون كوفمان عام 1868، لتصبح فيما بعد عاصمة جمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوڤيتية خلال الفترة من عام 1925 حتى 1930 قبل أن تستبدل بطشقند.
وخلال الحرب العالمية الثانية (1941-1945) حاربت أوزبكستان ضمن قوات الجيش الأحمر ضد ألمانيا النازية، وفقدت في تلك الحرب أكثر من 263 ألف مجند، فيما ظل قرابة 32.5 ألف آخرين في عداد المفقودين، وفي 31 أغسطس/آب 1991 حصلت الدولة على استقلالها الرسمي عن الاتحاد السوفيتي بعد انهياره، وأصبح 1 سبتمبر/أيلول هو عيد الاستقلال الوطني للأوزباك.
مركز ثقافات العالم
تعتبر سمرقند مركزًا لثقافات العالم وحضاراته المختلفة، فقد اجتمعت فيها الكثير من المدارس التاريخية والثقافية، وهو ما جعلها رغم صغر مساحتها متحفًا مفتوحًا زاخرًا بالمساجد والحمامات والخانات والمعالم الأثرية التي توثق التاريخ العظيم لتلك المدينة الخالدة.
تبوأت سمرقند مكانة كبيرة بين التجار والرحالة والعلماء على حد سواء بسبب موقعها عند ملتقى الطرق التجارية الكبرى القادمة من الهند، مارة ببلخ، ومن إيران مارة بمرو، ومن أراضي الترك، ما ساعدها في الجمع بين الرخاء الاقتصادي والثراء العلمي والتميز البشري والتنوع الثقافي في مكان واحد، وما أهلها لأن تكون إحدى جنان الدنيا الأربعة.
يقطن المدينة أكثر من 520 ألف نسمة، معظمهم من الأوزبك، بجانب عرقيات أخرى كالطاجيك والتتار والأتراك، وأقليات من الروس والأوكرانيين والفرس واليهود، وتعد الأوزبكية لغتها الرسمية، فيما تعتبر الروسية اللغة الثانية بحكم الهيمنة السوفيتية.
تتكون سمرقند من 3 أقسام رئيسية، أولًا: القسم الشمالي الشرقي ويضم عشرات المعالم الأثرية منها القلعة القديمة والتحصينات وقصر الحاكم والأحياء السكنية والحرفية، الثاني: القسم الجنوبي، ويحتوي على تحف معمارية تعود لأكثر من حضارة وعصر من أبرزها مدينة العصر التيموري التي تضم مرافق اجتماعية كالمدارس والمساجد والمساكن، الثالث: القسم الغربي وهي المنطقة المبنية على الطراز الأوروبي وتعد حلقة الوصل الأهم بين العمارة الأوروبية والروسية.
ساعد تاريخ المدينة وتتابع حضارات العالم عليها في أن تكون مستودع التاريخ البشري وإرث ثقافات الكون المختلفة، وهو ما حولها إلى مقصد مهم للباحثين والعلماء في مجال الإنسانيات والأنثروبولوجي والإثنيات العرقية والقومية
من أهم المعالم الأثرية التي تلفت أنظار الزائرين لسمرقند مجمّع “كور أمير” الذي يضم ضريح تيمورلنك وأبنائه وأحفاده، إضافة إلى قبر شيخه ومدرسة وجامع، وبعض الميادين التاريخية مثل ميدان “رجستان” (المكان الرملي بالفارسية) ويعد مركز المدينة وأهم معالمها، وبه 3 مدارس إسلامية بينهما مدرسة أولوغ بيك.
ومن أقدم المعالم الأثرية وأعلاها قيمة ضريح قُثم بن العباس الذي يسمى “شاه زنده” أي الملك الحي، وهو نسبة إلى ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي استشهد في المنطقة، ودفن فيها، كما تضم المدينة بعض الآثار من بقايا عهد تيمورلنك، أبرزها مسجد بيبي خانوم الذي يعكس عظمة تلك المرحلة.
تحتل المدينة الأوزباكية مكانة اقتصادية مهمة، اكتسبتها بسبب موقعها الإستراتيجي المحوري، حيث طريق الحرير، الممر الأهم حاليًّا الذي يربط بين الصين ودول أوروبا، فيما يعمل معظم سكانها في صناعة القطن والغزل والحرير والنسج ودبغ الجلود والتبغ، وفي الصناعات الغذائية مثل تجفيف الفواكه وتعليبها، إضافة إلى الزراعة وأهمها زراعة الأرز والفواكه.
ساعد تاريخ المدينة وتتابع حضارات العالم عليها في أن تكون مستودع التاريخ البشري وإرث ثقافات الكون المختلفة، وهو ما حولها إلى مقصد مهم للباحثين والعلماء في مجال الإنسانيات والأنثروبولوجي والإثنيات العرقية والقومية، الأمر الذي دفع اليونسكو وعلى موقعها الرسمي أن تصفها بأنها “ملتقى لثقافات العالم، وبوتقة لتفاعلها وصبها في نسيج واحد”.
مدينة العلماء
ظلت سمرقند لأكثر من مئتي عام قبلة العلماء الأولى، وقد أحصى الإمام نجم الدين النسفي أكثر من 1010 علماء من علماء المدينة كانوا على رأس الحركة العلمية بها، تلك الحركة التي أنارت العالم في وقت كان يعاني فيه من الجهل والاضمحلال.
مقبرة شاه زنده، ابن عم النبي محمد، الذي جلب الإسلام إلى المنطقة واستشهد فيها
يأتي في مقدمة هؤلاء العلماء الإمام الزاهد الورع أبو الليث السمرقندي، نصر بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب السمرقندي الفقيه الحَنَفِيُّ (333هـ – 373هـ)، الملقب بإمام الهدى، صاحب تفسير القرآن الكريم الذي أسماه “بحر العلوم” وصاحب موسوعة “بستان العارفين” وكتاب “تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين”، كذلك العلامة الإمام أبو عمران عيسى بن عمر ابن العباس بن حمزة السمرقندي، صاحب الإمام الدارمي، وراوي مسنده عنه.
إضافة إلى العلامة الإمام الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الصمد التميمي الدارمي، أبو محمد السمرقندي (797- 869م)، صاحب “تفسير القرآن الكريم” و”سنن الدَّارِمِي” و”المسند” و”الجامع الصحيح” والفقيه أبو منصور الماتريدي، الذي كان له أثر بالغ في تطور الفقه السني بالمشرق.
وفي علوم الدنيا، اشتهر الطبيب والفلكي الشهير محمد بن مسعود السمرقندي المعروف بالعياشي صاحب التفسير المشهور، وكان من المحدثين والأطباء والفلكيين ذوي الشأن الكبير، كذلك علاء الدين السمرقندي ونجيب الدين السمرقندي والطبيب الذي عاصر العلامة فخر الدين الرازي، إضافة إلى الفلكي المشهور قاضي زاده الرومي وأستاذ أولوغ بك الذي كان أحد أبرز الفلكيين في العالم خلال العصور الوسطى.
وهكذا كانت سمرقند بفضل تلك النخبة من العلماء الأفذاذ واحة العلم ومدينة العلوم وقلعة التنوير في خراسان ومنطقة آسيا الوسطى، ومنها انتقل العلم إلى شتى بقاع الأرض، ورغم عوامل التعرية الجغرافية والسياسية والاقتصادية التي اعترت المدينة مؤخرًا، لا تزال تحتفظ بمكانة وقدسية كبرى بفضل إسهامات هؤلاء الكبار الذين سجلوا اسمها في صفحات التاريخ الخالدة.