في مايو/أيار 2023، شهد سوق الدواء المصري شراكة هي الأولى من نوعها، حين أعلن صندوق مصر السيادي (الذراع الاستثمارية للحكومة)، شراكته مع سلسلة “صيدليات العزبي” الشهيرة والرائدة في تجارة الأدوية وإدارة الصيدليات، التي يملكها الدكتور أحمد العزبي، أول من أدخل خدمة توصيل الأدوية إلى مصر، وله الفضل في توفير الأدوية لمدة 24 ساعة في اليوم بحسب الإعلام المصري.
وفق تصريحات للعزبي، حاولت شركات عالمية التفاوض معه لمشاركته، لكنه كان يرفض، ليتعاون في النهاية مع صندوق مصر السيادي رفقة صندوق استثماري آخر ممثل في شركة “بي إنفستمنتس” (BINV) القابضة، وهي شركة عامة مدرجة في البورصة منذ يوليو/تموز 2015، لتأسيس شركة جديدة تحت اسم “إي زد إنترناشيونال” (EZ International)، بهدف تقديم خدمات لوجيستية للصيدليات وتجارة وتوزيع الأدوية.
بيان وزارة التخطيط بشأن الشراكة بين صندوق مصر السيادي و”بي انفستمنتس” وصيدلية العزبي
وبشأن ملامح الصفقة غير المعلن عن قيمتها حتى الآن، استحوذ صندوق مصر السيادي على 49% من أسهم سلسلة الصيدليات التي أُنشئت عام 1975، وتمتلك حسب موقعها الرسمي 90 صيدلية ومخزن أدوية في 25 محافظة، مقابل 51% للعزبي صاحب حصة الأغلبية وحق الإدارة، ومن المقرر استغلال الصفقة للتوسع في افتتاح 600 فرع كمرحلة أولى باستثمارات بين 500 مليون إلى مليار جنيه كمرحلة أولى خلال عامين.
يبدو أن الصندوق السيادي كان يخطط لخلط الأوراق في سوق الدواء منذ سنوات، ففي منتصف عام 2020، أعلن عن تأسيس صندوق فرعي للاستثمار في الرعاية الصحية، واتفق في مطلع العام الحاليّ من خلال هذا الصندوق مع “بي إنفستمنتس” على ضخ ملياري جنيه في خدمات الرعاية الصحية، وبعد 3 أشهر، وافق مجلس إدارة “بي إنفستمنتس” على استثمار 500 مليون جنيه بحد أقصى في توزيع وتجارة الأدوية.
شراكة مثيرة للمخاوف
تثير الصفقة الجديدة الشكوك بشأن زيادة الأوضاع الاحتكارية التي يعاني منها قطاع الدواء المحلي من ناحية، وتكريس وضع يعتريه شبهة عدم القانونية من ناحية أخرى، فعقد الشراكة ربما يشوبه مخالفات أخرى تتعلق بإدارة الشركة الجديدة للصيدليات، وبحسب خبراء، فإن إدارة شركة تجارية لصيدليات أمر يضفي صفة قانونية على وضع غير قانوني في الأساس.
القانون المنظم لصناعة الأدوية يمنع امتلاك سلاسل الصيدليات، ويحظر على الصيدلي امتلاك ما يزيد على صيدليتين بشرط ألا يدير إلا واحدة منهما كوسيلة لحماية السوق من الاحتكار
المثير في الموضوع أن الصفقة الجديدة جمعت بين جهة سيادية وسلسلة صيدليات غير قانونية بحكم محكمة، فقبل 8 أشهر، أُلقي القبض على مالك صيدليات العزبي، للتحقيق معه في تنفيذ عدد من الأحكام القضائية، بزعم اتهامه ببيع الأدوية المهربة وغير القانونية في صيدلياته، وبينت التحقيقات أن العزبي هارب من 270 حكمًا قضائيًا، بإجمالي 547 سنة حبس، وتغريمه 13 مليون جنيه، لكن الشركة نفت كل ذلك في بيان على صفحتها على فيسبوك.
وفي عام 2011، أحالت النقابة العامة للصيادلة العزبي إلى اللجنة التأديبية التابعة لها، وقررت هيئة التحقيق شطب اسمه من السجلات لمخالفته قوانين النقابة، ونُسب إليه “شراء أسماء صيادلة وامتلاك سلسلة صيدليات منتشرة بجميع المحافظات”، واعتبرت ذلك مخالفةً للمادة 30 من قانون مزاولة المهنة رقم 127 لسنة 1955، رغم ذلك، بقي ترخيص مزاولته للمهنة الخاص بوزارة الصحة ساريًا، ومضى في طريقه دون أن يستطيع أحد إيقافه حتى أصبح رئيسَا لغرفة صناعة الدواء باتحاد الصناعات.
اهتز عرش العزبي قليلًا في مارس/آذار عام 2019، عندما قضت محكمة استئناف القاهرة بتأييد قرار هيئة تأديب نقابة الصيادلة بشطب عضويته – إلى جانب حاتم رشدي مالك صيدليات رشدي – من سجلات الصيادلة بوزارة الصحة نهائيًا، لإنشائه سلسلة صيدليات بالمخالفة للقانون المنظم لصناعة الأدوية الذي يمنع امتلاك سلاسل الصيدليات، ويحظر على الصيدلي امتلاك ما يزيد على صيدليتين بشرط ألا يدير إلا واحدة منهما كوسيلة لحماية السوق من الاحتكار.
ويعني هذا أن قرار الشطب يؤدي إلى إغلاق الصيدلتين المملوكتين باسمه وإلغاء رخصة مزاولة المهنة الخاصة به واستمرار عمل الصيدليات الأخرى كونها ليست باسمه وتحت إدارة شخص آخر على الورق كما يقول رئيس لجنة الصيدليات بنقابة الصيادلة ثروت حجاج.
ظهر العزبي بعدها في مداخلة هاتفية مع الإعلامي عمرو أديب المحسوب على النظام المصري غير مبدي أي اهتمام بالأمر، مؤكدًا عدم إغلاق أي صيدلية تحمل اسمه، حتى أصبح من السهل رؤية هذه الطريقة في التحايل على القانون بظهور نمط جديد على مدار العقدين الماضيين حيث تدمج سلاسل الصيدليات نفسها كشركات لإدارة الصيدليات، ثم يتم التعاقد مع الصيادلة لتسجيل الصيدليات الفردية بأسمائهم مقابل مبلغ شهري ثابت، على سبيل المثال، أي صيدلية للعزبى تحمل اسم العلامة التجارية للسلسلة ليست مملوكة قانونيًا لشركة العزبى.
ولأن سوق بيع الأدوية بالتجزئة في مصر يتكون بشكل أساسي من صيدليات صغيرة مملوكة للأفراد، احتجت نقابة الصيادلة مرارًا وتكرارًا على هذه الممارسة المثيرة للجدل على أنها ليست أكثر من ثغرة للالتفاف على القانون، بينما تجادل سلاسل الصيدليات بأنها لا تفعل شيئًا غير قانوني، لأن مشاركتها تقتصر على تقديم الخدمات الإدارية مقابل نسبة من الأرباح، ورغم العديد من الأحكام القضائية، لم يتم حل المشكلة بعد.
في السنوات التالية، انتشرت سلاسل الصيدليات على نهج “العزبي” تدريجيًا، حتى تصدر بعضها المنافسة في السوق مثل “صيدليات مصر” التي وصل عدد فروعها إلى نحو 50 فرعًا، و”صيدليات 19011 التي لم تتمكن من المنافسة طويلًا، ففي 8 يونيو/حزيران 2022، صدر حكم قضائي بإفلاس الشركة المالكة “ألفا” لإدارة الصيدليات، بعد تجاوز مديونيتها 7 مليارات جنيه، وانتشرت الشائعات بأن الشركة كانت في الواقع مدعومة من الدولة، واستندت هذه السلاسل في رحلة صعودها على شراء أسماء تجارية لصيادلة آخرين، لكن رئيس شعبة الأدوية بالغرف التجارية علي عوف يقول في تصريحات لموقع “مدى مصر”: “الوضع قانوني 100%، والصيدليات باسم أصحابها، العزبي فقط يديرها ولا يملكها، وهو ما لا يمنعه القانون”.
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تحدثت وسائل الإعلام أن العزبي فصل عددًا من الموظفين تعسفيًا دون تحقيق، لتتعرض بعدها شبكة إنترنت الشركة للاختراق على يد مجهولين، وواجه أحكامًا بالحبس نظرًا إلى مديونية تقارب 400 مليون جنيه، لكن بموجب الشراكة الجديدة سيسدد الصندوق السيادي المحصّن ضد الطعون القضائية الديون التي قال العزبي في سبتمبر/أيلول الماضي إنها وصلت إلى 300 مليون جنيه، وربما تكون الأحكام الصادرة بحقه والحديث عن مديونياته مدخلًا للطرفين في هذه الشراكة، بحسب قول مدير مركز الحق في الدواء محمود فؤاد.
في هذا الصدد، تتشابه قضية صيدليات العزبي مع مشكلة مصانع شركة “جهينة” المؤسسة عام 1993، أكبر منتج للألبان ومشتقاتها في مصر، وتصدر إنتاجها للشرق الأوسط وأمريكا وأوروبا، ويمتلكها رجل الأعمال صفوان ثابت، الذي تم الإفراج عنه وعن نجله في يناير/كانون الثاني الماضي، بعد حبسهم عامين دون تهم واضحة.
في عام 2015، تمت مصادرة أموال صفوان ثابت، بزعم انتمائه إلى جماعة محظورة، لكن منظمة العفو الدولية قالت إن السلطات المصرية احتجزت ثابت بسبب رفضه التنازل عن الشركة لصالح كيان تابع للدولة، ونقلت وكالة “رويترز” عن مصادر مقربة من أسرة ثابت أن النظام يريد الاستحواذ على الشركة.
يعني هذا بحسب حقوقيين أن هذه الشراكة المفاجئة، التي تركز على الجانب التجاري في المقام الأول، سابقة لأمور أخرى في سوق توزيع الدواء المليء أساسًا بممارسات غير قانونية، وتفتح الباب أمام تقنين وضع “غير قانوني” بحسب تصريحات سابقة لنقيب صيادلة القاهرة الدكتور محمد الشيخ، وتساهم في تحصين الشركة الناشئة ضد أي مشكلات في السوق، وتؤثر على نحو 80 ألف صيدلية في مصر، يعمل بها ما يقارب مليون شخص من بينهم 250 ألف صيدلي وفقًا لتقديرات المسؤولين.
فكل زيادة في فروع العزبي تعني إغلاق عدد أكبر من الصيدليات الصغيرة، التي كانت مهددة بالفعل من العزبي وشركائه قبل هذه الشراكة، كما يقول رئيس لجنة الصيدليات بنقابة الصيادلة ثروت حجاج.
وفي حين برر الصندوق السيادي الشراكة بأنها “ستعطي الأولوية للمحافظات الأكثر احتياجًا، وستقدم نموذج عمل جديد للصيدليات الفردية لدعم نموها”، تشير الوقائع السابقة إلى غير ذلك، فشركة “مالتي فارما” للصناعات الدوائية، ذراع استيراد وتوزيع الأدوية التي أنشاها العزبي عام 1990 لخدمة مشروعه الكبير، سبق اتهامها باللجوء لممارسات احتكارية ومخالفة قانون حماية المنافسة في توزيع واستيراد الدواء في القضية التي عرُفت باسم “قضية احتكار الدواء الكبرى”، وأجبرته في عام 2021 على التنازل عن انتخابات غرفة صناعة الدواء.
وتثير قضية احتكار سوق الدواء المحلي الكثير من مخاوف أصحاب الصيدليات الفردية الصغيرة الذين يقفون عاجزين عن منافسة العزبي وشركاه، فمن بين إجمالي 88 ألف صيدلية في مصر، تسيطر 4 آلاف صيدلية كبيرة على نصف السوق، و”العزبي” هي السلسلة الأضخم، وتعتمد – كغيرها من السلاسل الكبيرة – على الحصول على عروض ضخمة من خلال شراء أضعاف الكميات من شركات التوزيع والمخازن وبيعها للزبائن في أسرع وقت بخصومات وحوافز مغرية لا تقدر على تحملها الصيدليات الفردية، وهو ما يفسر نمو مبيعاتها إلى نحو 2.85 مليار جنيه عام 2020.
كذلك أثارت الشراكة مخاوف لاحتمالية تربحها من منظومة التأمين الصحي الشامل بعد تعميمه في مختلف المحافظات، ويتوقع البعض أن يكون هذا الكيان الذراع الرسمية للتأمين الصحي الشامل، وسيسيطر على سلسلة إمدادات وتوزيع الأدوية بالتعاقد مع هيئة التأمين للوجود بفروعه داخل المستشفيات العامة.
سباق السيطرة على سوق الدواء
رغم التحديات السياسية والاقتصادية الهائلة التي واجهتها مصر في العقدين الماضيين، فإن صناعة الدواء تُعد من بين أكبر الصناعات في المنطقة، ولا تزال أكبر منتج ومستهلك للأدوية في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا بأكملها، حيث تتخطى قيمة تجارة الأدوية 130 مليار جنيه بحسب بيان رسمي لمجلس الوزراء.
انخفضت حصة شركات الدواء الحكومية في السوق لصالح الشركات الخاصة، من 90% في الستينيات إلى 80% في السبعينيات، ووصلت خلال التسعينيات إلى أقل من 20%، وانخفضت نسبتها إلى 6% من حصة السوق.
وخلال الفترة بين عامي 2016 و2021، شهد حجم مبيعات سوق الدواء في مصر طفرة في معدلات النمو، فقد ارتفع بنسبة 98.3% عام 2021 مقارنة بعام 2016، وهذا ما يجعل لدخول الدولة هذا السوق – الذي لم يكن على قائمة أولويات الحكومة أو أهداف الصندوق – لأول مرة بعدًا آخر قد يمكنها من الحصول على فرصة استثمارية جيدة ومن ثم التحكم في بعض هذه السيولة.
خلال عام 2021، استحوذت شركات القطاع الخاص المحلي والأجنبي على 87% من إجمالي إنتاج الأدوية خلال عام 2021، بواقع 44% للشركات الأجنبية و43% للمحلية، بحسب مركز المعلومات بمجلس الوزراء، وهنا تظهر سيطرة القطاع الخاص على سوق الدواء، الأمر الذي يؤدي إلى تضاعف الأسعار واختفاء أو نقص بعض الأدوية.
من بين هذه الشركات الأجنبية: شركة “نوفارتس” السويسرية، أكبر الشركات تحقيقًا للمبيعات في عام 2020، بـ2.5 مليار دولار، وشركة “سانوفي” الفرنسية التي حققت مبيعات بملياري جنيه في 2020 وشركة “جلاسكو” البريطانية، وحققت مبيعات بقيمة 1.97 مليار جنيه في 2020.
وتشمل الشركات المحلية: شركة “آمون” الخاصة التي استحوذت الإمارات عليها مؤخرًا، وحققت مبيعات بـ1.6 مليار جنيه في 2020، وشركة “إيفا فارما” وهي شركة مصرية خاصة، وصلت مبيعاتها إلى 1.6 مليار جنيه في نفس العام، وشركة “فاركو” الخاصة التي حققت مبيعات بـ1.5 مليار جنيه.
في المقابل، يساهم القطاع العام في سوق صناعة الأدوية من خلال 11 شركة عاملة في مجال تصدير واستيراد الأدوية والمستلزمات الطبية، بنسبة ضئيلة للغاية، وعلى مدار 60 عامًا، انخفضت حصة شركات الدواء الحكومية في السوق لصالح الشركات الخاصة، من 90% في الستينيات إلى 80% في السبعينيات، ووصلت خلال التسعينيات إلى أقل من 20%، وانخفضت نسبتها إلى 6% من حصة السوق.
ربما لهذا السبب كان يجب أن يتشارك الصندوق السيادي مع الشركة المصرية لتجارة الأدوية المملوكة للدولة حتى يساعدها على النجاح، فهي أقدم شركة توزيع بمصر، ومن ثم زيادة حجمها في السوق ليستفيد المواطن، وتحقق الربح، وتراعي البعد الاجتماعي”، أو ربما كان من الأفضل بحسب أمين صندوق نقابة صيادلة مصر الأسبق الدكتور أحمد رامي الحوفي أن تكون الشراكة في مجال توطين صناعة الأدوية التي تراجعت كثيرًا وليست تجارة وتوزيع الأدوية بحسب ما هو معلن.
لا تزال المواد الخام غير مصنعة محليًا، فخلال العام الماضي، كانت هذه المواد ضمن قائمة أعلى 10 سلع استوردتها مصر، ووصلت قيمتها إلى 3.8 مليار دولار من بين 94.5 مليار دولار إجمالي الواردات، وبحسب بعض التقديرات، فإن قطاع الدواء بشقيه المحلي والأجنبي يستورد أكثر من 90% من المواد الخام والمكونات والمواد الفعالة المصنعة، وهذا ضعف في صناعة الدواء المصرية، حيث يقوم على استيراد المستحضرات الصيدلانية الخام، ثم تصنيع الأدوية لبيعها في الأسواق.
سوء الإدارة وسياسات الخصخصة والمجاملات وعدم التطوير كلها أسباب أدت إلى تراجع صناعة الدواء في مصر، كذلك تعتبر العوائق التي تحول دون استيراد المواد الخام – نقص العملة الصعبة أو مشاكل مع الموردين – من الأسباب الرئيسية لنقص الأدوية المتكرر في مصر وارتفاع الأسعار، ويزيد الهيكل الإداري القديم والبيروقراطية الكثيفة من تعقيد الأمور، ويطيلان عملية التسجيل والترخيص، فضلًا عن الحصول على موافقة وزارة الصحة لاستيراد المواد الخام والإفراج عن شحنات المواد الخام والأدوية.
هناك أيضًا مستوى عالٍ من الأدوية المزيفة في السوق، ويشكل مستوى السوق السوداء والأدوية المقلدة المباعة في مصر تهديدًا لتجارة الأدوية المشروعة، حيث تمثل نحو 15% من إجمالي المبيعات، بحسب البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2015، وتُباع من خلال العيادات الطبية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو أحيانًا في الصيدليات نظرًا للرقابة التنظيمية المتساهلة.
أدت هذه المشكلات والإطار التنظيمي غير المرضي إلى إعادة هيكلة قطاع الأدوية، الذي تم فصله عن وزارة الصحة والسكان ليصبح كيانًا مستقلًا، وفي خطوة نحو تنظيم القطاع كليًا، أنشئت، بموجب القانون رقم 151 لعام 2019، هيئتان جديدتان: هيئة الدواء المصرية والهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي.
يحدد القانون بوضوح مسؤوليات الهيئات ذات الصلة، حيث حلت هيئة الدواء المصرية محل الإدارة المركزية للشؤون الصيدلية والهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية، المنشأة بقرار مترتب على صدور القانون رقم (382) لسنة 1976، والهيئة القومية للبحوث والرقابة على المستحضرات الحيوية المنشأة بقرار مترتب على صدور القانون رقم (398) لسنة 1995، والهيئات التنظيمية الأخرى المتخصصة في الأجهزة والمستحضرات الطبية، وتولت وظيفة قطاع الأدوية بوزارة الصحة، الذي كان مسؤولًا عن ممارسة مهنة الصيدلة بموجب القانون رقم 127 لعام 1955.
أعطى القانون “الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي” سلطات واسعة في المشتريات لاحتياجات قطاع الصحة العامة، ولها الآن سلطة حصرية على شراء المستحضرات الطبية والإمدادات لجميع الهيئات الحكومية ووضع الخطط والبرامج والقواعد للمشتريات المحلية والأجنبية الموحدة.
بعد أن خلط الصندوق السيادي الأوراق بدخول سوق الدواء في مصر، تُثار التساؤلات عن قدرة هذه الهيئات على ضبط الأسعار، خاصة بعد أن أصبحت الدولة عبر صندوقها السيادي لاعبًا رئيسيًا في أهم قطاع للسلع الإستراتيجية، وكذلك قدرتها على تحقيق عدالة المنافسة في سوق من المتوقع أن تتحكم الصيدليات التابعة للكيان الجديد في الأدوية النادرة فيه، بالإضافة إلى الشركة المصرية لتجارة الأدوية التي تستحوذ على النسبة الأكبر من استيراد الأدوية وبيعها.
ربما لا يزال من السابق لأوانه تقييم أداء الهيئات الجديدة، ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات معينة، مثل تفضيل القطاع الخاص المستمر لاستيراد المواد الخام بدلًا من تصنيعها محليًا، بالإضافة إلى ذلك، لا يزال القطاع العام يعاني من سوء الإدارة ونقص الاستثمار الحكومي، بينما شكل دخول الجيش – الذي يعتبر لاعبًا قويًا في الاقتصاد المصري – مؤخرًا عبر أذرعه المختلفة إلى قطاع الأدوية تحديًا جديدًا.
الجيش.. اللاعب الجديد في قطاع الأدوية
في سبتمبر/أيلول 2016، خرجت شاحنات ضخمة محملة بالعبوات المدعمة للبن الأطفال التي تُستخدم بديلًا للرضاعة من ميناء الإسكندرية مزينة بصور طفل مبتسم ورسالة للآباء والأمهات المصريين: “لا تدفع أكثر من 30 جنيهًا، مع تحيات القوات المسلحة”، ثم انتشرت الشاحنات في جميع أنحاء مصر، ووزعت علب حليب الأطفال المستورد لتُباع بنصف السعر الذي يفرضه تجار التجزئة.
في حين يمكن النظر إلى هذه الخطوة على أنها حل لأزمة نقص الأدوية وارتفاع أسعار المتاح منها، بدا أن تأسيس شركة الأدوية محاولة أخرى من جانب الجيش المصري للسيطرة على الاقتصاد
لم تكن هذه المبادرة – التي قال متحدث باسم الجيش إنها جزء من جهود لمكافحة “جشع المحتكرين” وتسهيل حياة المصريين – إلا جزءًا من مشروع عسكري يوضح كيف يستند السيسي بشكل متزايد على الجيش لمعالجة المشاكل الاقتصادية في البلاد، وظهر الاحتكار جليًا بعد هذه الأزمة التي لعب فيها الجيش دور “المخلص”.
وسلطت الخطوة الأضواء على بصمة الجيش الآخذة في الاتساع في الاقتصاد وتأثيره المحتمل على القطاع الخاص المتعثر في وقت يعاني فيه السيسي، قائد الجيش السابق الذي أطاح بأول رئيس منتخب ديمقراطيًا في مصر، من ضعف النمو وارتفاع نسبة الفقر وضعف ثقة المستثمرين بعد الإقدام على خطوة تعويم الجنيه في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016.
بعد أشهر قليلة، وفي يناير/كانون الثاني 2017، أصبح الجيش مشاركًا في قطاع الأدوية بشكل رسمي، فقد منحت الحكومة المصرية الضوء الأخضر بدخوله مجال صناعة الدواء عن طريق الترخيص للهيئة القومية للإنتاج الحربي، التابعة للقوات المسلحة، بالمشاركة في تأسيس شركة مساهمة باسم “الشركة المصرية الوطنية للمستحضرات الدوائية”، وهو مجال لم يكن الجيش المصري قد طرقه من قبل.
نُشر قرار رئيس مجلس الوزراء في الجريدة الرسمية، لكنه لم يقدم تفاصيل عن أنواع الأدوية التي يمكن أن تنتجها، وجاء في وقت واجهت فيه مصر عجزًا في الدواء، ورفعت الحكومة حينها أسعار عدد من الأدوية بنسب تصل إلى 60% بعد أخذ موافقة وزارة الصحة والسكان، وهي أصناف محلية الصنع ومستوردة من الخارج، وذلك بعد أسابيع من زيادة أسعار العديد من أصناف الدواء التي تعالج أمراض الكبد والقلب والضغط والحساسية والسكري المصاب به 17% من المصريين البالغين، وفقًا للأرقام الرسمية.
يُذكر أن وزارة الصحة المصرية أقرت زيادة أسعار أكثر من 3 آلاف صنف من الدواء دفعة واحدة بواقع 50% للأدوية التي تقل أسعارها عن 50 جنيهًا و40% للأدوية التي يزيد سعرها على 50 جينهًا و30% للأدوية التي يزيد سعرها على مئة جنيه، بدعوى مواجهة ظاهرة النقص الحاد والاختفاء غير المسبوق لكثير من الأدوية الضرورية والأساسية من السوق المحلية.
السيسى يفتتح مستشفي للصدر وعددًا من الأقسام التخصصية والعلاجية بالمجمع الطبي بكوبري القبة
في حين يمكن النظر إلى هذه الخطوة على أنها حل لأزمة نقص الأدوية وارتفاع أسعار المتاح منها، بدا أن تأسيس شركة الأدوية محاولة أخرى من جانب الجيش المصري للسيطرة على الاقتصاد، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تحصل فيها القوات المسلحة على امتيازات غير مسبوقة، وهي ليست مصادفة وإنما جزء فقط من خطة استثمارية موسعة تستهدف احتكار عدة صناعات.
أدَّى التوسع العسكري في الأعمال الخاصة أيضًا إلى احتدام الجدل القائم بالفعل بشأن سيطرة الجيش على الاقتصاد المصري، خاصة أن الإعلان جاء بعد أن دعا السيسي الجيش للعب دور أكبر في مشروعات البنية التحتية الكبرى وتوزيع السلع المدعومة للحد من ارتفاع الأسعار وسط نقص حاد في الدولار.
على الرغم من أن الجيش المصري يشارك منذ عقود في العديد من القطاعات الاقتصادية، فقد زاد انخراطه الاقتصادي واستثماراته في القطاع الخاص بشكل كبير منذ وصول السيسي إلى السلطة، حيث بدأ في توسيع إمبراطوريته الاقتصادية، بما في ذلك إنتاج الأسمنت وتزويد المستشفيات بالمواد الطبية، وكذلك تشغيل نظام البطاقة الذكية الحكومية لتوزيع السلع المدعومة، وإنشاء مزارع سمكية وتصنيع عدادات المياه، علاوة على ذلك، أصدر السيسي في ديسمبر/كانون الأول 2015 قانونًا يسمح للجيش بتأسيس شركات برأس مال وطني أو بالشراكة مع رأس مال أجنبي.
كان هذا مفتاح تدخل الجيش في الاستثمار في جميع القطاعات، ومن بينها قطاع الأدوية، فبعد أيام قليلة من صدور قرار مجلس الوزراء، أعلن وزير الإنتاج الحربي السابق اللواء محمد العصار، أن الوزارة تعمل على إنشاء مصنع متخصص في تصنيع أدوية السرطان، وقال إنه “جزء من مشروع ضخم يضم العديد من الصناعات الدوائية مثل الحقن ولقاحات إنفلونزا الطيور”، مضيفًا أن المشاريع من هذا النوع “مسألة تتعلق بالأمن القومي، لا يمكننا أن نكون تحت رحمة الواردات فقط”.
قبل ذلك، بدأ الجيش في التسلل إلى هذا القطاع عبر توقيع شراكات وبروتوكولات تعاون مع مؤسسات حكومية وشركات خاصة، ففي يوليو/تموز 2016، أُعلن عن خطط توسعية في مجال الصحة بإنشاء مصانع للأدوية، حيث وقَّعت القوات المسلحة ممثلة في الهيئة القومية للإنتاج الحربي عقد شراكة لإنشاء أول مصنع مصري لإنتاج أدوية الأورام مع الشركة القابضة للمستحضرات الحيوية واللقاحات وشركة “فاركو” للأدوية، ولم توضح أي من الأطراف الموقعة دواعي مشاركة مؤسسة عسكرية في المشروع.
كما وقَّعت وزارة الصحة بروتوكول تعاون مع وزارة الإنتاج الحربي، أحد أذرع المؤسسة العسكرية، والهيئة الهندسية للقوات المسلحة ممثلة عن وزارة الدفاع لإنشاء عدد من المشروعات، من بينها مصنع للسرنجات ذاتية التدمير، كان قد بدأ إنشائه عام 2002 وتعثر، ومصنع لقاح لأنفلونزا الطيور، ومشروع تصنيع الإنسولين لتلبية احتياجات السوق المحلي، وفي سبتمبر/أيلول من نفس العام، أعلنت وزارة الصحة عن دراسة إنشاء مصنع لإنتاج لبن الأطفال بالتعاون مع القوات المسلحة في أعقاب أزمة نقص لبن الأطفال المدعم، ووقع الطرفان عقدًا لتوريد جهاز الخدمة الوطنية الألبان بعد استيرادها، وكان هذا العقد متفق عليه قبل الازمة.
في قطاع صناعة الأدوية مثلًا، سمح ذلك للجيش أو لعدد قليل من الشركات ذات العلاقات القوية معه باحتكار هذه الصناعة، التي لم يسمح دخوله فيها بالمنافسة الحرة والعادلة مع بعض الشركات الخاصة والجهات الحكومية
وامتدت أذرع القوات المسلحة إلى قطاع المستلزمات والأجهزة الطبية، حيث حصل قطاع الجهاز الطبي بالقوات المسلحة على حق توريد الأجهزة الطبية الخاصة بدعامات وصمامات القلب والقساطر العلاجية للمستشفيات بداية من يوليو/تموز، وأجبر حينها المجلس الأعلى للجامعات 15 جامعة مصرية بالأمر المباشر على وقف جميع المناقصات والمزايدات والممارسات الجديدة على الأدوية ومستلزمات الأجهزة الطبية ﻭﺍﻟﺪﻋﺎﻣﺎﺕ والكيماويات تمهيدًا لشرائها من الهيئات التابعة للجيش.
هذه الأعمال التجارية الجديدة تولت مسؤوليتها إدارة الخدمات الطبية بوزارة الدفاع، وهي إحدى الإدارات التابعة لهيئة الإمداد والتموين في القوات المسلحة، والمسؤولة عن المستشفيات والمراكز الطبية التابعة للجيش، التي يصل عددها إلى أكثر من 56 مستشفى ومركزًا طبيًا على مستوى المحافظات، وتقدم خدماتها مجانًا للعسكريين وبأسعار رمزية للمدنيين، وجاءت مشاركتها في المناقصات بعد أن كانت وزارة الصحة تعتمد على إجراء مناقصات منفصلة لكل مستشفى حكومي أو جامعي على حدة، لكن في ظل ارتفاع سعر الدولار صار شراء الأجهزة الطبية إحدى غنائم الجيش، وهو ما يتعارض مع مبدأ حرية التجارة والاستيراد.
وتأكد احتكار أذرع القوات المسلحة لسوق الأدوية، عندما وقَّعت وزارة الصحة اتفاقًا مع وزارة الدفاع، في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، لشراء جميع احتياجات مصر من المستلزمات الطبية بما في ذلك الفلاتر (المرشحات) والمحاليل الطبية وغيرها من المواد، مؤكدة أن السيطرة العسكرية على سوق المستلزمات الطبية جاءت بأمر مباشر لصالح المواطن.
برر البعض حينها تدخل المؤسسة العسكرية في قطاع الأدوية بقولهم إنه يمكن أن تنظم الأسعار إلى حد كبير حيث سيتم استيراد المواد الأولية بكميات أكبر وبشحنات أقل، وهو ما سيؤدي بدوره إلى خفض تكلفة الإنتاج، لكن آخرين رأوا أنه كان من الممكن الوصول إلى نفس النتيجة بطريقة مختلفة لا تشمل الجيش، فقط إذا مُنحت الامتيازات نفسها التي ستُمنح للجيش بدلاً من ذلك إلى المصانع والشركات، فسيؤدي ذلك إلى حل الأزمة ولن تكون هناك حاجة لإنشاء شركة جديدة.
لطالما كان الثقل الاقتصادي للمؤسسة العسكرية المصرية، التي تنتج اليوم كل شيء من المياه المعبأة إلى المعكرونة، موضوع نقاش منذ فترة طويلة، لكن التعليقات الرسمية على نطاق أنشطتها الاقتصادية نادرة، وقال السيسي، الذي يميل إلى الدفاع عن الجيش في كل مناسبة، في مؤتمر وطني للشباب عُقد في شرم الشيخ في أكتوبر/تشرين الأول عام 2016: “في حال كنت تتساءل عن حجم اقتصاد القوات المسلحة من الناتج المحلي الإجمالي، سأخبركم بذلك، الأمر واضح: 1 إلى 1.5%”، رافضًا التلميحات بأن الجيش يمكن أن يسيطر على أكثر من نصف الاقتصاد.
وفي حين ادَّعى السيسي أن القوات المسلحة لا تدخل الاقتصاد للربح أو التنافس مع القطاع الخاص، وأن مشاريعها تخضع للضرائب والرقابة التنظيمية، كان للتوسع العسكري في الأعمال والأنشطة المدنية انعكاسات سلبية على بيئة الأعمال، وخلق منافسة غير عادلة في بعض القطاعات.
في قطاع صناعة الأدوية مثلًا، سمح ذلك للجيش أو لعدد قليل من الشركات ذات العلاقات القوية معه باحتكار هذه الصناعة، التي لم يسمح دخوله فيها بالمنافسة الحرة والعادلة مع بعض الشركات الخاصة والجهات الحكومية، لأنه (الجيش) يحصل على مزايا إضافية لا تحصل عليها هذه الشركات، بداية من الإعفاء من الرسوم والجمارك، وحتى الحصول على عمل مجاني من خلال الخدمة العسكرية الإجبارية حيث يعمل المجندون في جميع المؤسسات التابعة له، التي لا تدفع ضرائب أيضًا، ولا تدفع مقابل المرافق مثل الكهرباء والماء.
في أكتوبر/تشرين الأول 2016، قالت صحيفة “فاينانشيال تايمز” إنه بسبب معاناة الكثير من المصريين من ارتفاع معدلات التضخم، فإن الجيش – الذي استخدم مزارعه ومصانعه لضخ طعام رخيص في السوق – يؤدي خدمة عامة، ومع ذلك، يخشى بعض رجال الأعمال أنه سيكون من المستحيل التنافس مع المؤسسات الاقتصادية المملوكة للجيش المصري التي تتمتع بنفوذ سياسي منقطع النظير وتفتقر إلى الشفافية، ويحميها القانون من الكشف عن حساباتها، ولا تخضع لأي شكل من أشكال الرقابة من أي جهة حكومية، ويتم إدراج بياناتها المالية في ميزانية الدولة في رقم واحد تحت بند واحد.
ووسط تفشي فيروس كورونا الجديد في مصر، أخذ الجيش زمام المبادرة في تطهير مؤسسات الدولة لاحتواء انتشار الوباء، بالإضافة إلى ذلك، أعلنت وزارة الإنتاج الحربي في 24 مارس/آذار 2020 أن الجيش سيبدأ في تصنيع وبيع الأقنعة الطبية في جميع أنحاء البلاد لمواجهة أزمة نقصها في الصيدليات.
جاء الإعلان عن قرار الجيش ببيع الإمدادات الطبية في وقت كانت فيه صيدليات البيع بالتجزئة وغيرها من الشركات تجد صعوبة أو استحالة في الحصول عليها، وعلى الرغم من أن هذا أدى إلى حل الأزمة، فإنه زاد من خسائر الصيدليات والشركات الخاصة والمصانع التي لم تتمكن من بيع المنتجات بأسعار منخفضة.
وفي أبريل/نيسان 2021، افتتح السيسي “مدينة الدواء المصرية” ككيان مستقل لا يتبع وزارة الصحة المصرية أو شركات قطاع الأعمال، لكن ترويج إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة له بفيلم يشير إلى أن المدينة إحدى أذرع الدولة لإنتاج الدواء الآمن والفعال وبأسعار مناسبة.
حتى الآن تعتمد المدينة على مصنعين لتصنيع الأدوية غير الموجودة في السوق، وتخطط لتصبح مركزًا لصناعة وتصدير الدواء بالتعاون مع شركات أجنبية تتيح نقل تكنولوجيا التصنيع، مع طموح لأن تصبح المدينة مركزًا إقليميًا لتصدير الأدوية إلى إفريقيا وأوروبا، ويصبح معها الجيش اللاعب الأساسي في سوق الدواء.