وقّع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ونظيره الروسي الخميس على إعلان الشراكة الاستراتيجية المعمّقة بين البلدَين، في ختام زيارة أدّاها تبون إلى موسكو دامت 3 أيام، كان شعارها البحث عن شركات جديدة مع الحليف التقليدي خارج المجال الدفاعي والعسكري، والتأكيد على متانة العلاقات بين البلدَين رغم الضغوط التي تمارَس على البلد المغاربي من الدول الغربية الرافضة لأي تعاون مع بوتين، جرّاء الحرب الدائرة في أوكرانيا.
وحرص تبون الذي رفع في بلاده شعار “2023 سنة اقتصادية”، أن يكون الملف الاقتصادي الغالب على هذه الزيارة، مع التأكيد على التوافق بين البلدَين في القضايا الدولية ذات الأولوية للجزائر، كالقضية الفلسطينية والصحراء الغربية والوضع في مالي وليبيا.
تطابق
لم تكن الزيارة التي أدّاها تبون إلى روسيا تأكيدًا على تمسُّك الجزائر بعلاقاتها التاريخية مع موسكو فقط، إنما رسالة عن استقلالية البلاد في مواقفها الدولية رغم الضغوط التي تمارَس عليها لتصطفّ في الصراع الروسي الأوكراني، لأنه لو لم تكن هذه الزيارة ضمن التغيرات الدولية الحالية لما شكّلت هذا اللغط المحلي والدولي.
وكان الرئيس تبون صريحًا في كلمته أمام نظيره الروسي، حين قال إن “الضغوط الدولية لن تؤثر على علاقتنا مع روسيا”، وأعرب في تصريح مشترَك مع بوتين عن “ارتياحه لتوافق الرؤى تجاه الملفات التي تمَّ تناولها خلال المحادثات، ومنها قضية الصحراء الغربية والوضع في منطقة الساحل والقضية الفلسطينية، وكذا التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، فضلًا عمّا يجري في ليبيا”.
وتشكّل هذه القضايا الدولية أولوية للدبلوماسية الجزائرية التي ستكون بداية العام المقبل عضوًا غير دائم بمجلس الأمن، وكان تبون واضحًا في بعض القضايا التي من الممكن أن تشكّل خلافًا بين البلدَين، وفي مقدمتها مالي التي تقول تقارير غربية إن قوات فاغنر الروسية موجودة فيها، حيث قال تبون في هذا الشأن: “نطلب من روسيا أن تساعدنا في حل الأزمة بمالي وفق اتفاق الجزائر 2015″، ومعلوم أن الجزائر هي من ترأّس الوساطة الدولية في مالي.
وقال تبون نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، في مقابلة مع صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، إن الأموال التي تدفعها دولة مالي لمجموعة فاغنر الروسية ستفيد أكثر إذا اُستثمرت في التنمية، مبيّنًا أن الحل هناك اقتصادي أكثر من كونه أمنيًّا.
وأوضح تبون أن زيارته لروسيا “تندرج في إطار الجهود التي يبذلها بَلداننا لتوطيد علاقتهما الثنائية وتعزيز ديناميكية التعاون بيننا”، واصفًا المحادثات التي جمعته بنظيره الروسي بـ”المثمرة والصريحة والصادقة”.
أما بوتين الذي تتعرض بلاده لمحاولات عزل من قبل الغرب جراء الحرب في أوكرانيا، فقد قال إن “زيارة الرئيس تبون حملت الكثير من الدلالات، الجزائر شريك هام بالنسبة إلينا وسنعمل على تعزيز التعاون معها في جميع المجالات”.
وبيّن بوتين أنه بحث مع نظيره الجزائري “الأوضاع في ليبيا والسودان والصحراء الغربية والقضية الفلسطينية والساحل”، مذكّرًا أن “الجزائر تحتل أعلى المراتب ضمن شركاء روسيا”.
وبالنسبة إلى بوتين، الجزائر هي “الشريك المفتاح في العالم العربي وفي أفريقيا”، مشيرًا إلى مناقشة “وبصورة معمقة” سلسلة واسعة من المواضيع، بما فيها التعاون السياسي والاقتصادي والإنساني والأجندة الحالية للعلاقات الإقليمية والدولية، وهي المواضيع التي تشكّل “توافقًا وتطابقًا في وجهات النظر” بين البلدَين.
وفي الحقيقة، لا يشكّل هذا التوافق أمرًا جديدًا بين البلدَين الحليفَين اللذين احتفلا العام الماضي بمرور 60 عامًا على اتفاق الصداقة بينهما، والذي جعل الجزائر تحسَب على الدوام على المعسكر الشرقي، رغم محاولاتها لتنويع شركائها وبالخصوص الاقتصاديين في السنوات الأخيرة.
زمن الاقتصاد
لأول مرة لم يشكّل التعاون الدفاعي بين البلدَين محور نقاش في لقاء رئيسَي الجزائر وروسيا، إذ تريد الجزائر أن تخرج شراكتها مع موسكو عن نطاقها العسكري، بالخصوص أن تعاونهما خارج القطاعات الدفاعية لا يزيد عن 40 مليون دولار، فيما وصل التبادل التجاري إلى 3 مليارات دولار.
وبالنظر إلى حجم التعاون التجاري للجزائر مع دول أخرى، فالأرقام المسجّلة مع موسكو تعدّ هزيلة كونها لا تتماشى مع قوة علاقتهما الدبلوماسية والدفاعية، فهي أقل من التبادل التجاري مع إيطاليا الذي فاق العام الماضي 20 مليار دولار، وأقل من تركيا التي تزيد تبادلاتها مع الجزائر عن 5 مليارات دولار، وهي الأرقام التي تسجَّل مع دول أخرى كالصين وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
ولتلبية الطلب الجزائري، أعلن بوتين أن اللجنة المختلطة الجزائرية الروسية، التي يرتقب أن تعقد دورتها الـ 11 في النصف الثاني من هذه السنة بموسكو، ستدرس “تعزيز الاتصالات العملية والاستثمار وتوسيع المشاريع على النطاق الواسع”.
وأوضح بوتين أن “إعلان الشراكة الاستراتيجية المعمقة الذي تمّ التوقيع عليه، يعدّ وثيقة ثنائية مهمة تحدد الأولويات الواضحة للتعاون البعيد المدى”.
وخلال الزيارة، وقّع الطرفان على عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم، تخص التسليم بين البلدَين والتعاون في مجال الاتصالات العامة، وحماية النباتات والموارد المائية، والعدل والثقافة، واستكشاف الفضاء الخارجي للأغراض السلمية.
ورغم العلاقات المتينة بين البلدَين، إلا أنهما لا يجتمعان في تكتلات اقتصادية كبيرة ما عدا مجموعة “أوبك +” المعنية بمتابعة سوق النفط، وكذا منتدى الدول المصدرة للغاز، وهما تنظيمان معنيّان بقطاع النفط فقط الذي تستثمر فيه غاز بروم الروسية في عملية استكشاف ببئر العسل جنوب الجزائر.
وهنا سيشكّل طموح الجزائر للانضمام إلى مجموعة “بريكس” فرصة لتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدَين، حيث يعطي الرئيس تبون أهمية كبيرة لالتحاق بلاده بهذا التكتل الذي يضمّ أيضًا الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وأشاد تبون بالدعم الروسي لبلاده للانضمام إلى مجموعة “البريكس”.
وقال تبون في تصريحات في أبريل/ نيسان الماضي لـ”الجزيرة بودكاست”، إن دول روسيا والصين وجنوب أفريقيا والبرازيل أبدت موافقتها على انضمام الجزائر إلى “بريكس”، معتقدًا أن الانضمام في المرحلة الأولى سيكون كمراقب قبل أن تنال العضوية الكاملة.
وبالنظر إلى حالة الاقتصاد الجزائري، فإن البدء بعضوية غير كاملة يصبّ في مصلحته، بالنظر إلى أنه يتطلب كثيرًا من الإصلاحات وبالخصوص في التعاملات البنكية، وتطوير التجارة الإلكترونية والمعاملات الرقمية، إضافة إلى حاجته للتحرر من التبعية للمحروقات، وهو الهدف الذي بدأ يتحقق بتحقيق صادرات بـ 7 مليارات دولار خارج المحروقات عام 2022، والسعي لرفعها هذا العام إلى 15 مليار دولار.
وترى الجزائر في الانضمام إلى “بريكس” تنويعًا في شركائها، بحيث تتحرر من الارتباط اقتصاديًّا بأوروبا، لذلك دعا تبون المتعاملين الاقتصاديين الروس إلى “الاستثمار في الجزائر التي تتوفر اليوم على بيئة استثمارية ملائمة، بفضل الإجراءات التحفيزية والامتيازات التي يتضمنها القانون الجديد للاستثمار”، وفق ما قاله الرئيس الجزائري.
وتأمل الجزائر أن تستفيد من كل القطاعات الاقتصادية التي تحقق روسيا فيها تقدمًا، إضافة إلى إمكانية تحفيز موسكو سيّاحها على زيارة الجزائر التي أصدرت بداية هذه السنة تسهيلات في التأشيرة لزيارة ولاياتها الجنوبية.
ويظهر أنه رغم عدم وجود علاقات اقتصادية كبيرة بين الطرفَين، إلا أن كل طرف يتفهّم خطط الآخر في هذا المجال، إذ لم تبدِ موسكو انزعاجها على الإطلاق من طرح الجزائر نفسها كمموّن طاقوي موثوق لأوروبا، قد يكون معوّضًا لموسكو التي ساءت علاقاتها مع جيرانها في القارة العجوز جرّاء الحرب في أوكرانيا.
عدم اصطفاف
لاحقت تهمة الانحياز إلى روسيا الجزائر حتى قبل زيارة الرئيس تبون إلى موسكو، رغم تأكيدها في عديد المرات أنها تقف على مسافة واحدة من الطرفَين، رغم علاقاتها الوثيقة مع روسيا التي لا تخفى على أحد، وشكّلت هذه الزيارة فرصة لإعلان الرئيس تبون رسميًّا عن مبادرة بلاده لوساطة لحل الحرب في أوكرانيا، بمساندة أفريقية.
وأعرب تبون في هذا الإطار عن شكره لنظيره الروسي قبوله وساطة الجزائر في النزاع القائم بين روسيا وأوكرانيا، مؤكّدًا أن هذه الثقة “ستكون في محلها”.
وبدوره، أشاد بوتين باستعداد الجزائر لتقديم جهود الوساطة في النزاع القائم بين بلاده وأوكرانيا، معلنًا أنه سيستقبل السبت رؤساء الوفود من القارة الأفريقية، لمناقشة المبادرة التي تقدمت بها الجزائر حول تسوية هذا النزاع.
وليست هذه المحاولة الجزائرية الأولى لتكون وسيطًا في الحرب الأوكرانية، إذ ترأّست الوفد العربي الذي زار كييف وموسكو لطرح المبادرة العربية لحلّ الخلاف بين الطرفَين، إلا أن المشاكل داخل البيت العربي أجهضت هذه المبادرة التي طرحتها الجزائر خلال ترؤّسها الدوري للجامعة العربية.
وفشلت المبادرة العربية بسبب اصطفاف بعض الدول مع طرف دون آخر، وهو ما ظهر في قمة جدة التي تمّت فيها دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي دون دعوة نظيره الروسي، وهي القضية التي شكّلت خلافًا واضحًا بين الجزائر والرياض، وجعلت الرئيس تبون يغيب عن قمة السعودية.
وطيلة الأشهر الماضية، طُرحت في الإعلام المحلي والغربي تبعات زيارة تبون موسكو على علاقاتها مع الغرب، لذلك حرص تبون في خرجاته الإعلامية على التأكيد أن بلاده تسعى لبناء علاقات جيدة مع واشنطن أيضًا.
وقال الرئيس الجزائري في فبراير/ شباط الماضي، خلال لقائه بالصحافة المحلية، إن علاقة بلاده مع الولايات المتحدة الأمريكية جيدة، مضيفًا أن البلاد أكّدت لجميع المسؤولين الأمريكيين الذين زاروها مؤخرًا أنها “ليست عدوًّا”.
وأضاف تبون أن “الولايات المتحدة دولة عظمى، وهي تعلم أن الجزائر دولة نافذة في أفريقيا وفي العالم العربي وفي البحر الأبيض المتوسط، لذلك لا بدَّ أن تتأكد الولايات المتحدة أننا بلد صديق، غير منحاز”.
ويظهر أن الطرف الأمريكي قد تفهّم الموقف الجزائري، بالنظر إلى تواصل التنسيق بين البلدَين في مختلف الملفات، وفي مقدمتها الأمنية، فقبل زيارة تبون إلى موسكو حلَّ في الجزائر يومَي 6 و7 يونيو/ حزيران الجاري وفد من كبار المسؤولين الأمريكيين من وزارات الخارجية والمالية والدفاع، لإجراء حوار أمني من أجل تعزيز الأهداف الإقليمية المشتركة لمكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار، وفق بيان للسفارة الأمريكية بالجزائر.
وقالت السفارة إن “التعاون الأمني والحرب المشتركة ضد الإرهاب حجر الزاوية في العلاقات الأمريكية الجزائرية، حيث يسعى كلا البلدَين إلى الاستقرار والازدهار في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل”.
ويترجَم هذا التفهُّم الأمريكي أيضًا في تقدم المفاوضات مع شركتَي “إكسون موبايل” و”شيفرون” الأمريكيتَين، لإجراء أول عمليات تنقيب لهما عن الغاز الطبيعي بالجزائر.
وبالنسبة إلى الجزائريين، لا أهمية كبيرة للشعارات والقراءات التي رافقت زيارة الرئيس تبون إلى روسا لأنها تظل مجرد خطابات للاستهلاك الإعلامي، حيث الأهم يبقى تحقيق المبتغى من الزيارة، والمتمثل في مدى القدرة على إخراج التعاون مع روسيا من المجال العسكري إلى قطاعات اقتصادية، ليكون التبادل التجاري مبنيًّا على مبدأ التكافؤ والربح الثنائي.