تُعرف باسم تيرازيس، وأحيانًا شيرازيس، وشهر راز، والبعض أطلق عليها لقب دار العلم أيام الدولة الصفوية (1501 – 1722م)، فهي موطن عشرات العلماء، كما أنها مسقط رأس العديد من الشعراء والأدباء ممن طبقت شهرتهم الآفاق، وعلى رأسهم الشاعر الفارسي سعدي الشيرازي.
تقع شيراز في الجزء الشمالي الغربي لمحافظة فارس، جنوب إيران، بالقرب من جبال زاجروس الشهيرة، وتبلغ مساحتها 240 كيلومترًا مربعًا، على ارتفاع نحو 1480 مترًا فوق سطح البحر، يحدها شمالًا جبال بمو، وسبزبوشان وجهل مقام، وغربًا جبل دراك، ويعود تاريخها إلى عصور ما قبل الميلاد.
ظلت لمئات السنين عاصمة للعديد من الحضارات التاريخية مثل الدولة الصفارية والدولة البويهية والدولة الزندية، ووثقت النقوش القديمة التي تعود لأكثر من 4000 سنة جذورها الضاربة في عمق التاريخ، وتشير بعض الروايات إلى أن مؤسسها هو الملك الفارسي الأسطوري طهمورث ديفبند (الملقب بمقيد الشياطين) الذي شهدت في عهده المدينة أزهى عصورها (يقال إن المدينة سميت على اسم نجله) قبل أن تتعرض للهدم والتدمير حتى جاء الفتح الإسلامي عام 650 ميلادية ليحييها حضاريًا وثقافيًا مرة أخرى.. فماذا نعرف عن شيراز العلوم والأدباء؟
جذور ضاربة في عمق التاريخ
بحسب النقوش المسمارية التي عثر عليها في الزاوية الجنوبية الغربية من شيراز، فإن تاريخها يعود إلى عام 2000 قبل الميلاد، وكانت في عصر الأخمينيين (350 – 330 قبل الميلاد) تقع على طريق شوشان إلى عاصمة الإمبراطورية الأخمينية، برسيبوليس (70 كيلومترًا شمال شرق شيراز حاليًّا)، ومن الروايات المؤرخة لتلك المدينة أن عثر بها على أقدم نبيذ في العالم يعود لقرابة 7 آلاف عام، حين تم اكتشافه على جرار زراعي، وفي العصر الساساني (224 – 651 ميلادية) كانت شيراز المركز الإقليمي الأكثر رواجًا وحضورًا للساسانيين، حيث موقعها الإستراتيجي المهم، إذ كانت تربط بيشاور وغور إلى إصطخر.
وفي عام 650 ميلادية فتحها المسلمون عن طريق أبو موسى الأشعري وعثمان ابن أبي العاص، أواخر خلافة الفاروق عمر بن الخطاب، حينها كان سكانها يعبدون النار والأصنام، ومن أشهر هياكل النار التي كانت موجودة في أثناء الفتح الإسلامي لها كارنبان وهرمز.
وقد أعاد محمد بن القاسم الثقفي، ابن عم الحجاج بن يوسف الثقفي، بناء المدينة مرة أخرى، حيث كانت تعاني من خراب وتدمير هائل، وبالفعل نجح في تحويلها إلى مدينة مزدهرة اقتصاديًا، وفي أواخر خلافة عمر بن العزيز بين عامي 717- 720 ميلادية حرص على الإكثار من بناء المساجد والمؤسسات الخيرية حتى تحولت إلى قبلة للمحتاجين والفقراء ممن أرهقهم العوز وأذلتهم الحاجة.
قلعة كريم خان زند في شيراز
ومع تأسيس طاهر بن الحسن، أحد قادة الخليفة المأمون، دولته المستقلة ذاتيًا شرق بغداد عام 822 ميلادية، واتخاذ يعقوب بن ليث لشيراز عاصمة له بعد أن استولى على مقاطعة سجستان عام 867 ميلادًا، عاشت المدينة أزهى عصورها المعمارية، حيث بني بها عشرات المساجد والمدارس ودور العلم، وكان أول مسجد بني بها هو المسجد القديم عام 894 ميلادية.
وما إن استولى عضد الدولة على حكومة إقليم فارس عام 950 ميلادية حتى حولها إلى بستان يانع وقلعة علم يشع نورها في شرق الأرض ومغاربها، حيث أنشأ فيها القناطر والجسور وبنى فيها مستشفى جميلًا وقفت له الأوقاف ورعى العلوم والفنون والعلماء والشعراء.
ثم توالى على المدينة البويهيون والسلاجقة والتركمان وجيوش أرطغرل والزنكيين ومن بعدهم تيمور لنك خلال الفترة من 1353م إلى عام 1393م الذي ارتقت شيراز في عهده بشكل كبير، حتى استولى عليها الأفغان عام عام 1725م بعد أن استولوا من قبلها على أصفهان ومعظم بلدان فارس.
وفي عهد كريم خان زند (1705 – 1779م) مؤسس الدولة الزندية في فارس، أصبحت شيراز عاصمة بلاد فارس، وقد استعادت المدينة الكثير من مجدها في عهده، لكن سرعان ما تدهورت بعد ذلك في عهد مؤسس العائلة القاجارية، أقا محمد شاه الذي حكم المدينة عام 1794م أي بعد 15 عامًا فقط من وفاة زند، حيث اتخذ من طهران عاصمة لبلاد فارس بدلًا من شيراز، لتنحسر الأضواء عنها ويُسحب الاهتمام من تحت أقدامها لصالح العاصمة الجديدة.
يعرف عن أهل شيراز خروجهم المستمر على الملوك والسلاطين، وجرأتهم في مواجهة حكامهم، وهو ما ذكره الرحالة المغربي ابن بطولة في كتابه “رحلة ابن بطوطة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” حين وصفهم قائلًا: “وسلطان شيراز في عهد قدومي عليها الملك الفاضل أبو إسحاق بن محمد شاه ينجو سماه أبوه باسم الشيخ أبي إسحاق الكازروني نفع الله به وهو من خيار السلاطين حسن الصورة والسيرة والهيئة كريم النفس جميل الأخلاق متواضع صاحب قوة وملك كبير وعسكره ينيف على خمسين ألفًا من الترك والأعاجم وبطانته الأدنون إليه أهل أصفهان وهو لا يأتمن أهل شيراز على نفسه ولا يستخدمهم ولا يقربهم ولا يبيح لأحد منهم حمل السلاح لأنهم أهل نجدة وبأس شديد وجرأة على الملوك ومن وجده بيده السلاح منهم عوقب، ولقد شاهدت رجلًا مرة تجره الجنادرة وهم الشرط إلى الحاكم وقد ربطوه في عنقه فسألت عن شأنه فأخبرت أنه وجدت في يده قوس بالليل فذهب السلطان المذكور إلى قهر أهل شيراز وتفضيل الأصفهانيين عليهم لأنه يخافهم على نفسه”.
مركز اقتصادي مهم
الموقع الإستراتيجي لشيراز جعلها مركزًا اقتصاديًا محوريًا، كما ساعدت بعض التطورات الجيوسياسية التي شهدها الإقليم في أن تتبوأ مقعدها بين الكبار على طاولة الاقتصاد الدولي، حيث ساعد افتتاح قناة السويس عام 1869 التي ربطت بين الشرق والغرب في إحياء دور شيراز لتكون محطة نقل محورية للربط بين إيران والهند من جانب وأوروبا من جانب آخر، فنشأت على أطرافها واحدة من أكبر حركات الاستيراد والتصدير في العالم.
يعتمد أهل شيراز في المجمل اقتصاديًا على الإنتاج المحلي، زراعة كان أو صناعة، فهي تتميز ببعض المزروعات المكتوبة باسمها في إيران كالخشخاش المنوم والتبغ والقطن، التي حققت منها أرباحًا طائلةً، ساعدها على ذلك وفرة المياه والتربة الصالحة للزراعة، فضلًا عن العوائد التي تعود عليها من حركة التجارة عبر الخليج العربي، حيث تحولت إلى المغذي الأول والأبرز لأسواق مومباي وكلكتا وبورسعيد وإسطنبول وهونغ كونغ.
وفي المجال الصناعي اشتهرت بها صناعات السكر والأسمنت والمصنوعات الخشبية والمعدنية والنسيجية، فضلًا عن الصناعات الإلكترونية التي يتميز بها سكان المدينة، فإن 53% من الاستثمار الإيراني في الصناعات الإلكترونية موجود في شيراز، ما جعلها مركزًا محوريًا للإلكترونيات في إيران وقلب آسيا.
وبجانب الاقتصاد تولي شيراز أهمية فائقة للتعليم، فبها العديد من المؤسسات التعليمية العامة والمتخصصة، أبرزها: جامعة شيراز للعلوم الطبية (بالفارسية: دانشگاه علوم پزشکی شیراز) تأسست سنة 1950 وجامعة شيراز التقنية (بالفارسية دانشگاه صنعتی شیراز) تأسست سنة 2004 وکلیة صنایع مخابرات راه دور ایران وکلیة صنعت إلكترونیك وجامعة شهید باهنر شیراز الفنية والمهنية ومركز حافظ شيراز للتعليم العالي ومركز باسارجاد شيراز للتعليم العالي.
إرث حضاري وثقافي كبير
تتمتع شيراز بإرث حضاري نتيجة الحضارات المتعددة التي تعاقبت عليها، ومن أبرز تلك المعالم الخالدة حتى اليوم مدينة باسارغاد، التي تقع في مقاطعة سعادت شهر، على بعد 87 كيلومترًا شمال شرق برسيبوليس، وكانت أول عاصمة للأخمينيين في أيام كورش الكبير (سايروس) الذي بناها عام 546 قبل الميلاد،، وتعد اليوم واحدة من أهم مواقع منظمة اليونسكو للتراث العالمي.
هناك أيضًا برسبوليس، تبعد 70 كيلومترًا شمال شرق شيراز، وهي عاصمة الإمبراطورية الأخمينية (550 – 330 ق. م)، وتعرف باسم تخت جمشيد (أي عرش جمشيد) أو پارسه، ويعود تاريخها إلى 515 قبل الميلاد، وقد تم إعلان تخت جمشيد كموقع للتراث العالمي.
من أشهر العلماء الذين ترعرعوا في شيراز وملأوا الأرض بشهرتهم الشاعر والأديب الفارسي الشهير سعدي الشيرازي، أحد أكثر كتاب الفرس شعبية
علاوة على متحف باريس أحد أهم المتاحف التاريخية في شيراز، الذي دفن فيه الإمبراطور كريم خان زند، ومن أبرز المعالم الأثرية نقش رستم، الواقع على بعد 12 كيلومترًا شمال غرب مدينة برسيبوليس الأثرية بالقرب من إصطخر وشيراز، ويحتوي على قبور أربعة ملوك من ملوك فارس، هذا بخلاف حديقة أرم التي تحوي جميع أنواع الأشجار بالعالم بألوانها وأشكالها الغريبة، ويوجد بها قصر للشاه.
ومن أقدم المعالم بوابة القرآن التي تعود جذورها للأزمنة القديمة، وتقع على بداية طريق أصفهان، وأجري عليها العديد من عمليات الترميم خلال عهد خان زند، وبنيت فوقها غرفة صغيرة وضع فيها القرآن، وكانوا يتبركون بها في حماية المارة من الحوادث والشرور.
دار العلم
لقبت شيراز بـ”دار العلم” لكثرة المدارس والمؤسسات التعليمية المنتشرة بها، فكانت قبلة الدارسين من شتى بلدان وسط آسيا، وأهلها ذلك لتخريج عشرات العلماء والعباقرة في مختلف مجالات العلوم، ومن أشهر المدارس القديمة التي حوتها المدينة: مدرسة الخان التي يعود تاريخ بنائها إلى عام 1615 ميلادية، ومدرسة آقابابا خان والمدرسة المنصورية ومدرسة الحكيم ومدرسة السيد علاء الدين حسين.
مدرسة خان في شيراز
ومن أشهر من ترعرعوا في شيراز وملأوا الأرض بشهرتهم الشاعر والأديب الفارسي الشهير سعدي الشيرازي، أحد أكثر كتاب الفرس شعبية، والمصنف كأحد أبرز الشعراء القروسطيين الكلاسيكيين، نشأ وتوهج في القرن السابع الهجري، وعاصر بعض الأحداث السياسية المؤثرة التي شكلت شخصيته وكان لها أثرها في كتاباته وإبداعاته ومن أبرزها معاصرته لغزو المغول لخوارزم، ما دفعه للرحيل إلى الشام ومصر والأناضول.
من أشهر أعماله الشعرية ديوان “بوستان” المكتوب بالفارسية، ويبلغ أكثر من 4 آلاف بيت من القصص المنظومة المقسمة إلى أبيات، التي من خلالها يروي حكايات بديعة سامية عن إحدى المدن الفاضلة، كذلك ديوان “گلستان” المكتوب عام 1258 ميلادية، وهو عبارة عن الحكايات والمواعظ التي تمزج بين الشعر والنثر، وكتب بالفارسية والعربية، كما ترك ديوانًا صغيرًا آخر بالعربية قوامه 35 قصيدةً وغزلًا ومقطعة، في 374 بيتًا.
ترجمت أعماله إلى عدة لغات منها العربية والهندية والتركية، كما ترجمت إلى الفرنسية واللاتينية والألمانية والهولندية والإنجليزية، ويذكر أن ديوانه “بوستان” وصل أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي، وأول ترجمة أوروبية له كانت بالهولندية عام 1688م.
ومن أعلام شيراز كذلك العالم والشاعر قطب الدين محمود بن ضياء الدين مسعود بن مصلح الشيرازي (1236–1311م) والمعروف بـ”أبي الثناء الشيرازي”، وقد تعلم الطب على يد والده وعمه، ثم تتلمذ على يد نصير الدين الطوسي وكان له دور كبير في علم الفلك والرياضيات والطب والفيزياء ونظرية الموسيقى والفلسفة والصوفية.
إضافة إلى الطبيب المعروف محمد بن ثعلب بن عبد الله بن نعمات الله بن صدر الدين بن الشيخ بهاء الدين الشيرازي الذي عاش في القرن الخامس عشر، والمعروف بدليله الطبي العربي الواسع عن الأمراض المختلفة والعلاجات المتنوعة، هذا إلى جانب الطبيب العالم نجم الدين محمود الشيرازي المتوفي عام 1330م صاحب كتاب “الحاوي في علم التداوي”.
وفي اللغة وعلوم النحو والصرف اشتهر العالم البغدادي – الشيرازي الأصل – أبو الحسن علي بن عيسى بن الفرج بن صالح البغدادي الشيرازي الربعي الزهيري (940 – 1029م)، الذي يعد من أئمة النحاة في القرن الرابع الهجري ومطلع القرن الخامس، وله العديد من المؤلفات اللغوية منها: “البديع” و”شرح مختصر الجرمي” و”شرح الإيضاح للفارسي” و”التنبيه على خطأ ابن جني في فسر شعر المتنبي” و”المبني على فعال” و”شرح البلغة”.