كثر الحديث مؤخرًا حول ظاهرة التخلي عن اﻷطفال حديثي الوﻻدة في مناطق شمال غربي سوريا، التي تصنف وفق رأي الناس “انتكاسة فطرية”، تهدد المجتمعات وتخلق آلاف الأفراد غير الأسوياء نفسيًا، الذين قد يشكلون خطرًا على كل من حولهم، فأمام أبواب المساجد أو المشافي والمدارس أو حتى على قارعة الطرقات، تسيطر مشاعر الخوف والارتباك والضياع على بعض العوائل التي تقرر رمي طفلها الرضيع، ليجده المارة متروكًا لمصيره المجهول، في ظاهرة برزت منذ أكثر من 12 عامًا وزادت خلال العامين الماضيين.
بصمة اﻷزمة المعيشية
يبرر معظم من التقينا بهم في أثناء إعداد هذا التقرير أن للأزمة المعيشية بصمةً بارزةً في تنامي وتفشي ظاهرة إلقاء اﻷطفال حديثي الوﻻدة على قارعة الطرق وأمام المساجد، خاصة مع انعدام القدرة أحيانًا على تأمين ورعاية هؤلاء اﻷطفال، التي تفوق إمكانيات سكان منطقة محاصرة عسكريًا وتفتقد مقومات الحياة اقتصاديًا كـ”انتشار البطالة وتدني اﻷجور”، فيصبح المبرر أقوى لدى بعض اﻵباء والأمهات في اتخاذ تلك الخطوة بحسب الناشطة في المجال اﻹنساني لمى سليمان.
اللافت للنظر أن تسجيل معظم تلك الحاﻻت في الشمال السوري المحرر، يجري عند ساعات الفجر الأولى، والمكان عادة أمام المساجد، ما دفع البعض ممن تحاورنا معهم بشأن تلك الحوادث، يؤكدون أن خلفياتها اقتصادية بحتة، فالمقصود هو رعاية الأطفال من أشخاص يخشون الله، فيعتنوا بهم ويربوهم على الأخلاق الحسنة.
مجبورة
“مجبورة” اسم أطلقه الحاج قاسم السيد (55 عامًا)، على الطفلة التي عثر عليها أمام باب المسجد في أبريل/نيسان 2021، بشفاهٍ زرقاء متجمدة من البرد الذي كاد يخطفها وعمرها سويعات، وعلى جانبها قصاصة ورق كتب عليها “مجبورةً تركتها فهي أمانة” بخطٍ يشهد أن صاحبته لا تعرف الكتابة بشكل جيد.
يروي السيد لـ”نون بوست”، أنه لم يتعرف أحد من أبناء الحي والمصلين على الطفلة، لتنضم إلى أسرة فقيرة أيضًا، تحتضنها “مجبورةً” هي اﻷخرى، كما تقول السيدة أم العبد زوجة العم قاسم.
أكثر من 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر
يزيد عمر مجبورة بملامحها السمراء على ثلاثة أعوام، ويجمع الجيران أن في عينيها قهرًا واضحًا، رغم أن الحاج قاسم لم يخبرها حتى اليوم أنه ليس والدها.
يؤكد السيد أن مجبورة باتت من أفراد العائلة ومحبته لها لا تنقص عن أولاده الأربع: عبد الله وليث ويزن وإسراء، لافتًا أنها كثيرة المرح، قائلًا لنفسه وهو يتلفت من حوله: “إلى اليوم لا أصدق أن رجلًا أو امرأةً يرمون طفلهم في الشارع، ودائمًا أرددها في المنزل “ليتي أصيب بالمرض أنا ولا يصاب أحد من أفراد عائلتي بأي مكروه”، فكيف يفكر هؤلاء البشر”.
يروي السيد قاسم في حديثه لـ”نون بوست” أنه يعمل رفقة ابنه عبد الله في محلٍ لتصليح الأدوات الكهربائية المنزلية، ويصف وضعه المعيشي بـ”المستور”، وأن متطلبات الحياة كثيرة خاصة أن أولاده الاثنين: عبد الله وليث مقبلان على الزواج.
رغم عدم وجود إحصاءات عن أعداد الأطفال الذين تخلى آباؤهم عنهم، فإن التقارير الحقوقية الصادرة عن شمال سوريا، وأولهم منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” تؤكد أن ظاهرة التخلي عن الأطفال، سببها الرئيسي والأول تفشي الفقر.
وبحسب آخر تقرير لمنظمة “منسقو استجابة سوريا” يؤكد أن نحو 89.24% من سكان الشمال السوري، يعيشون تحت خط الفقر، كما تؤكد المنظمة الأممية (يونيسف) أن أكثر من 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وتشير أرقام المنظمة إلى أن نسبة 2% فقط من أرباب الأسر يستطيعون تلبية احتياجات عائلاتهم الأساسية.
الأسباب
تعتقد اﻷستاذة “ريم. م.” (35 عامًا) مختصة في علم النفس أن الفقر وغياب الوعي لعبا دورًا كبيرًا في بروز هذه المشكلة، التي ترفض أن تصنفها كـ”ظاهرة”، لكنها بالمقابل تتخوف وتدق ناقوس الخطر، قائلةً: “هي أزمة دينية في المقام الأول، واجتماعية ثانيًا، أما الفقر فليس إﻻ ذريعة، ونتيجة”.
وتنفي اﻷستاذة ريم أن تكون للعلاقات غير الشرعية دور بارز، رغم أنها تفترض أن من الممكن وقوعها، لافتةً أن الموضوع برمته يحمل حساسية شديدة، وعلاجه يبدأ بملاحظة واقع المجتمع، اقتصاديًا واجتماعيًا وحتى شرعيًا وأخلاقيًا، مشيرة إلى أنه ﻻ يمكن الجزم باﻷسباب، فهي احتماﻻت، والجزم بها هو تشويه للمجتمع السوري شمال سوريا.
وأضافت خلاله حديثها لـ”نون بوست”، “المسؤولية في الدرجة اﻷول تقع على القائمين على المنطقة والمخيمات والمساجد والمدارس، وعلى المنظمات التي تضطلع بالدور الإنساني، وهي تمتهن هذه الحرفة”.
“مجهولو النسب” شمال سوريا – كما أسلفنا – لا توجد إحصاءات دقيقة عن أعدادهم، فيما تزعم منظمة “بيت الطفل” التي تأسست في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أن الأطفال الذين استقبلتهم منذ تأسيسها حتى تاريخ إعداد هذا التقرير، ما بين طفل صغير وكبير بلغ 40 طفلًا مجهول النسب، وفق مصدر مقرب من المنظمة.
الرعاية البديلة
“نراعي في شمال سوريا، تعاليم الشرعية اﻹسلامية”، وفق المحامي زكريا القاسم، الذي أشار إلى أن اﻵية الكريمة في سورة اﻷحزاب، تحرم التبني، قائلًا: “قال تبارك وتعالى: بعد بسم الله الرحمن الرحيم {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}، صدق الله العظيم”.
يوجد في منطقة إدلب، مركز لرعاية الأيتام وهو “بيت الطفل” الذي يحوي 26 طفلًا حديث الولادة تُركوا في أماكن مختلفة
وأضاف “الرعاية البديلة – إن جاز المسمى -، هو أن يعيش الطفل مجهول النسب، مع أسرة ضمن شروط معينة إلى بلوغهم سن الرشد”، وأردف “تتم معاملة الأطفال مجهولي النسب مثل معاملة اليتيم تمامًا، وفق إجراءات قانونية، تبدأ بتسجيل الواقعة والوﻻدة، وينسب دينيًا إلى كافليه، أما في حال العثور على أقاربه، فيتقدم المدعون بدعوى إثبات النسب إلى المحكمة بموجب فقرات قانون الأحوال الشخصيّة، ويُطبق بعدها أحكام النسب المواد 134 و135 و136”.
ووفقًا لمصدر في إدارة الشؤون المدنية فضل عدم ذكره لـ”نون بوست”، فإن الأطفال مجهولي النسب شمال سوريا، يتم إرسالهم إلى دار الأيتام للاعتناء بهم، إذ يبقون داخل الدار حتى يُقبِل أحد الأشخاص على كفالتهم بعد أن يُحقق شروطًا معينة أهمها أن يكون متزوجًا وأحواله المالية جيدة، بهدف ضمان عيش الطفل داخل أسرة تستطيع الإنفاق عليه، بالإضافة إلى أن يكون من أصحاب السمعة المشهود لها.
ويوجد في منطقة إدلب، مركز لرعاية الأيتام وهو “بيت الطفل” الذي يحوي 26 طفلًا حديث الولادة تُركوا في أماكن مختلفة، بينهم 9 عام 2023 وحده، بحسب مدير البرامج فيصل الحمود لـ”نون بوست”.
ليست حكرًا في مناطق المعارضة
ظاهرة التخلي عن اﻷطفال ليست حكرًا على مناطق شمال سوريا (إدلب – أجزاء من ريف حلب) الخاضعة لسيطرة المعارضة، فقد ظهرت في مناطق النظام واﻹدارة الذاتية، إذ سجلت مناطق النظام السوري، وفقًا لما صرح به المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي زاهر حجو مؤخرًا، أن 53 طفلًا (28 ذكرًا و25 أنثى)، جرى التخلي عنهم في الأشهر العشر الأولى من 2022 في محافظات عدة.
ويعتبر الطفل المجهول نسبه وفق لقانون النظام السوري “عربيًا سوريًا ومسلمًا”، كما يعتبر مكان العثور عليه مكان ولادته.
خلال النصف الأول من عام 2021، تم العثور على 21 طفلًا في مدينة الرقة و9 أطفال في مدينة الحسكة
وسبق أن نشرت وزارة داخلية النظام السوري حالات عثور على أطفال عدة بينهم طفلة عثر عليها في حديقة بحلب، وأخرى وُجدت “مرمية بين الأعشاب” في حقل قمح في حماة، وثالثة كانت ملقاة في “بئر” بحمص.
أما في مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، فقد تم توثيق 14 حالة عام 2020 جميعهم أطفال وجودوا أمام المساجد في مناطق متفرقة من المحافظات الشرقية من سوريا (الحسكة والرقة ودير الزور).
وخلال النصف الأول من عام 2021، تم العثور على 21 طفلًا في مدينة الرقة و9 في مدينة الحسكة و4 أطفال في منبج شرق حلب، وطفلين بريف دير الزور الغربي، ليبلغ العدد الكلي 36 طفلًا حديث الولادة، وفقًا لتقرير نشره موقع “نورث برس”.