أثار التسجيل المصور الذي بثته كتائب عز الدين القسام – الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) -، السبت 4 يناير/كانون الثاني 2025، والذي يُظهر مجندة إسرائيلية محتجزة لديها، تدعى “ليري ألباج” وهي تناشد حكومة وجيش الاحتلال بالإسراع لإبرام صفقة تبادل عاجلة مع المقاومة، كاشفة عن المعاناة التي يعانيها الأسرى الإسرائيليون جراء القصف المستمر الذي يهدد حياتهم.
وظهرت المجندة الإسرائيلية مرتدية زيها العسكري ويبدو عليها علامات القلق والخوف على مصيرها المهدد بأيدي جيش الاحتلال وإصرار الحكومة بقيادة بنيامين نتنياهو على المضي قدمًا في طريق الحرب دون أي اعتبار لأرواح المحتجزين التي تُزهق واحدة تلو الأخرى على أيدي الإسرائيليين أنفسهم.
المقطع بكل تفاصيله الاستثنائية قدم العديد من الرسائل السياسية التي تحاول المقاومة إيصالها للكيان المحتل، تزامنًا مع جولة المفاوضات الحالية التي تحتضنها العاصمة القطرية الدوحة، وفي الوقت ذاته أثار حزمة من التساؤلات المقدمة لنتنياهو وحكومته حول موقع الأسرى من قائمة الأولويات التي حصرتها حكومة الاحتلال في استمرار الحرب التي باتت بلا رؤية ولا هدف بعد مرور أكثر من 450 يومًا عليها.
مقطع استثنائي ورسائل مهمة
رغم أنه ليس المقطع الأول الذي تبثه المقاومة لمحتجزين إسرائيليين لديها منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، فإنه الأول من نوعه من حيث نوعية وطبيعة الرسائل التي يحملها، مقارنة بالمقاطع الأخرى، وذلك في ضوء عدد من المؤشرات:
– للمرة الأولى يُبث مقطع لمجندة إسرائيلية في الخدمة العامة، حيث تعمل في المراصد العسكرية حول غزة، وهو القطاع الذي يحظى بأهمية خاصة في المجتمع الإسرائيلي.
– ظهور الأسيرة الإسرائيلية بلباسها العسكري فيه إهانة كبيرة لجيش الاحتلال وتقليل من مزاعم الانتصار المطلق التي يرددها، كما أنه رسالة سلبية لكل المجندين في صفوفه، خشية المصير ذاته، في ظل تصاعد الاضطرابات النفسية بين صفوف الجيش المحتل جراء الأهوال التي يواجهونها على أيدي المقاومة طيلة الأشهر الـ14 الماضية.
– المجندة الإسرائيلية صغيرة السن، إذ لم تتجاوز 19 عامًا، وهي بذلك تعبر عن شريحة كبيرة من المجندات الشابات في هذا العمر الذي يعول عليه الكيان المحتل في بناء مستقبله المزعوم.
"لن تستطيعوا إخراجنا أحياء من هنا بالعمليات العسكرية"..
رسالة مجندة إسرائيلية أسيرة في غزة ضمن فيديو نشرته كتائب القسام أمس، ما أشعل احتجاجات في 70 موقعاً بإسرائيل تطالب حكومة نتنياهو بعقد صفقة تبادل مع المقاومة الفلسطينية في غزة. pic.twitter.com/ZR8Uuy9ciP— AJ+ عربي (@ajplusarabi) January 5, 2025
– رغم الحالة الصحية الجيدة نسبيًا التي بدت عليها المجندة الإسرائيلية، وهو ما يحسب للمقاومة، فإن لغتها تكسوها الانكسار، وملامحها العامة يبدو عليها القلق والخوف من مصيرها المهدد، وهي الرسالة الموجهة في المقام الأول للجيش الإسرائيلي ووزير الدفاع وقيادات الصف الأول، حيث قالت الأسيرة: “أنا أسيرة في غزة منذ أكثر من 450 يومًا.. كل حياتي ما زالت أمامي، لكنها توقفت هنا”، وتابعت “اليوم بداية عام جديد، وكل العالم يحتفل، لكننا نبدأ عامًا جديدًا مظلمًا مليئًا بالوحدة.. نحن لسنا على سلم أولويات حكومتنا ولا جيشنا، وحتى العالم بدأ ينسانا ولا يهتم بمعاناتنا”، فيما وجهت رسالة مؤثرة إلى عائلتها قائلة “أمي، أبي، روني، شاي، جاي، نير.. أحبكم جدًا ومشتاقة لكم كثيرًا”.
كما وجهت خطابًا مباشرًا لوزير الدفاع وهي تضع وجهها على يديها باكية، قائلة: “أنت تعرف أبي. انظر في عينيه، وقل له إنه وأمي لن يعانقا ابنتهما مجددًا.. لن تكون لديك الشجاعة لذلك”.
– القدرات التقنية للمقطع المصور وبعض اللقطات المعروضة، كالنفق مثلًا، تعكس حجم الإمكانيات والقدرات التي لا تزال تتمتع بها المقاومة، بعيدًا عن مزاعم الاحتلال بالقضاء عليها بشكل كامل.
– حمل المقطع العديد من رسائل الترهيب والتحذير للإسرائيليين، خاصة ما أشارت إليه المجندة بشأن تعرض زميلتها المحتجزة للإصابة جراء القصف الإسرائيلي المتكرر، إذ تحاول المقاومة إلقاء الكرة في ملعب المحتل وتحميله مسؤولية سلامة المحتجزين، حيث قالت: “نحن نعيش كابوسًا مرعبًا، بقاؤنا على قيد الحياة مرتبط بانسحاب الجيش وعدم وصوله إلينا”.
– تؤكد المقاومة من خلال هذا المقطع قدرتها على إدارة ملف الأسرى بعناية فائقة، فبعد 450 يومًا من القتال وتدمير قطاع غزة بأكمله إلا أن قدرة حماس ورفيقاتها على حماية الأسرى لديها لا تزال جيدة، وهو ما يعكس ثباتها ميدانيًا وثباتها فوق الأرض وتحتها، مفندة بذلك كل المزاعم والأكاذيب التي يرددها المحتل.
دلالة التوقيت
توقيت بث هذا المقطع الاستثنائي للمجندة الإسرائيلية حمل دلالات ثلاثية الأبعاد:
أولًا: التزامن مع جولة المفاوضات الحالية في الدوحة والتي يحاول فيها المحتل وضع العراقيل أمام إتمام الصفقة بهدف ابتزاز المقاومة للخروج بأكبر قدر من المكاسب، ما يتوقع أن يمثل ضغطًا ورسالةً معًا.
ثانيًا: التزامن مع تصاعد احتجاجات عائلات الأسرى ضد الحكومة العبرية، والمستمرة منذ الشهر الأول من الحرب دون أي استجابة من قبل الكابينت، فمن المتوقع أن يُشعل هذا المقطع الأجواء أكثر وأكثر، ما يمثل ضغطًا كبيرًا على نتنياهو، ويضعه مجددًا ولأول مرة في مواجهة الشارع والجيش معًا.
وكانت هيئة البث الإسرائيلية قد نقلت – عقب نشر “القسام” للمقطع – عن والدة المجندة الأسيرة قولها: “نحتاج لأفعال من (بنيامين) نتنياهو وحكومته لاتخاذ قرار بإعادة الأسرى”، في حين اعتبرت هيئة عائلات الأسرى الإسرائيليين، أن إشارة الحياة من ليري ألباج دليل قوي على ضرورة الاستعجال بإعادة كل الأسرى من قطاع غزة.
ثالثًا: يتزامن هذا المقطع مع تصعيد المقاومة لعملياتها في الشمال وإيقاعها خسائر فادحة في صفوف جيش الاحتلال من خلال العمليات النوعية والكمائن المفخخة والمواجهات من المسافة صفر، وهي الرسالة التي تحاول من خلالها “حماس” التأكيد على ثباتها ميدانيًا وأنها تفاوض من موقع الثبات عكس ما يزعم المحتل.
أي تأثيرات محتملة؟
بث هذا المقطع قبيل أسبوعين من تنصيب الرئيس الأمريكي الفائز في الانتخابات الأخيرة، دونالد ترامب، من شأنه أن يزيد من زخم الشارع الإسرائيلي الضاغط على نتنياهو لإتمام الصفقة قبل هذا الموعد، خاصة بعد تحذير الرئيس الجمهوري من تداعيات عدم إنجاز الاتفاق قبل تسلمه السلطة رسميًا، في رسالة ضغط واضحة على الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي.
ومن المتوقع أن يُزيد مقطع الأسيرة المجندة برسائله السياسية المتعددة من الضغوط الممارسة على المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية على حد سواء، ويضعهما معًا في مواجهة الشارع الغاضب من تسويف إبرام الصفقة ووضع العراقيل أمامها، خاصة بعدما باتت الحرب بلا رؤية ولا هدف، وفشل سردية نتنياهو وحكومته المتعلقة بتحرير الأسرى بالمزيد من الضغوط العسكرية.
وتحاول المقاومة بشتى السبل الضغط على حكومة الاحتلال قدر الإمكان لإجباره على إبرام صفقة توقف تلك الحرب وتُنهي مأساة الفلسطينيين في القطاع بعدما حوله جيش الاحتلال إلى أرض محروقة، غير قابلة للحياة، إذ أبدت المزيد من المرونة في جولة المفاوضات الأخيرة، مقارنة بالجولات الأخرى، متخلية عن بعض شروطها السابقة، على أمل وقف نزيف الدماء والأرواح الذي لم يترك شبرًا واحدًا في القطاع إلا وخضبه.
وفي الأخير قد تبدو الأجواء حاليًا مؤهلة لإبرام صفقة تبادل واتفاق لوقف إطلاق النار، خاصة بعدما باتت الحرب عبثية في مضمونها، وفي ظل الضغوط الممارسة داخليًا وخارجيًا على حكومة الاحتلال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأسرى الأحياء، لكن في المقابل يبقى عناد نتنياهو المنُقاد من اليمين المتطرف هو العقبة الأبرز في مواجهة أي تفاؤل محتمل.. فهل يرضخ هذه المرة؟