يقف المواطن المصري سعيد حسان، 45 عامًا، أمام أحد منافذ القوات المسلحة لبيع السلع الغذائية، متأملًا قطع اللحم المعلَّقة التي تلاحقها أعين المارة من بعيد، وكان قد قرر قبل 6 أشهر تقليل حصته منها لصالح الدواجن، ثم اضطر إلى مقاطعتها نهائيًا بعد ارتفاع سعرها بشكل لم تشهده مصر منذ عصور، بحسب وصف نائب رئيس شعبة القصابين بغرفة القاهرة التجارية، هيثم عبد الباسط، إذ أصبح شراؤها بالنسبة لـ”سعيد” لأربع مرات في الشهر يكلفه أكثر من نصف راتبه.
يقول سعيد في حديثه لـ”نون بوست” إنه مضطر اليوم للعودة مؤقتًا لشراء اللحوم الحمراء بعدما فشل في مشاركة 3 من جيرانه في شراء أضحية العيد، التي قال إن سعرها وصل إلى 25 ألفًا، في حين أن مرتبه في إحدى الشركات الخاصة يتجاوز الحد الأدنى للأجور بقليل، ويضيف: “مرتبي كله لا يشتري أكثر من 10 كيلوغرامات من اللحم”.
حال سعيد الذي لم يكن له نصيب من اسمه كحال الملايين من المصريين الذين يضطرون للبحث عن لحوم منخفضة السعر، ولا يجد مبتغاه – كما يقول – إلا في منافذ القوات المسلحة، التي تنتشر في المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة، بالإضافة إلى السيارات المتنقلة التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة.
اللحوم.. حلم بعيد المنال
تعتبر مصر واحدة من الدول التي تواجه فجوة بين الإنتاج والاستهلاك في قطاع اللحوم، ففي حين تمتلك نحو 7.5 مليون من قطعان الماشية، بإجمالي إنتاج 554 ألف طن من اللحوم في عام 2022، فإن حجم الاستهلاك السنوي بلغ نحو 1.3 مليون طن، وسجلت نسبة الاكتفاء الذاتي من اللحوم 56.6%، بحسب تقرير الإنتاج الزراعي الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
اضطرت 93% من الأسر إلى تخفيض استهلاكها من مصادر البروتين الحيواني (اللحوم والدواجن والأسماك)، مقابل زيادة استهلاك البقوليات بنسبة 11%
تُظهر بيانات الجهاز المركزي أن معدل التضخم السنوي في أسعار المستهلكين اقترب من أعلى مستوى له على الإطلاق، وعاود الارتفاع في مايو/أيار الماضي، وقفز إلى 33.7% على أساس سنوي مقابل 15.3% قبل عام، وعلى أساس شهري، ارتفع معدل التضخم بنسبة 2.7% خلال مايو/أيار الماضي، مقارنة بشهر أبريل/نيسان، وسط توقعات باستمرار موجات ارتفاع معدلات التضخم خلال الشهرين المقبلين.
كنتيجة حتمية لرفع معدل التضخم في أسعار السلع الغذائية، اضطرت 93% من الأسر إلى تخفيض استهلاكها من مصادر البروتين الحيواني (اللحوم والدواجن والأسماك)، مقابل زيادة استهلاك البقوليات بنسبة 11%، ما قد يؤدي إلى انخفاض جودة النظام الغذائي.
كما بلغ متوسط نصيب الفرد من اللحوم في مصر سنويًا 7.4 كيلوغرام، مقارنة بـ10.7 كيلوغرام عام 2017، هذا الفارق صب في صالح الدواجن واللحوم البيضاء التي ارتفع نصيب الفرد منها إلى نحو 15.2 كيلوغرام عام 2020 مقارنة بـ10 كيلوغرامات عام 2017، بحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
مع ذلك، قد يكون معدل الاستهلاك في طريقه للانخفاض إلى أرقام غير مسبوقة خلال الأشهر الأخيرة التي شهدت ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار اللحوم، إذ قفزت أسعار اللحوم والدواجن بأكثر من 20% خلال يناير/كانون الثاني الماضي، واستمرت الأسعار في الصعود في الشهر التالي حتى تضاعفت مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
منذ مطلع العام الحاليّ، وصل سعر الكيلوغرام من اللحم البقري في الأسواق المصرية إلى 350 جنيهًا، بينما ارتفعت تكلفة لحوم الإبل إلى 300 جنيه، بعدما توقفت تجارة الجِمال مع استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار وفقدان العملة المحلية معظم قيمتها على خلفية ضغوط الديون الخارجية وتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، ويقول التجار في مصر إنهم يكافحون لبيع الجمال قبل عيد الأضحى، وقد تضاعف سعرها مقارنة بالعام الماضي.
مع اقتراب عيد الأضحى، سجل سعر الكيلوغرام من اللحم البقري القائم (السعر قبل ذبح الماشية الحية وسلخها وبيعها في سوق التجزئة) نحو 145 جنيهًا مقابل 72 جنيهًا في 2022، وارتفع سعر الكيلوغرام من اللحم الجاموسي من 60 جنيهًا خلال عيد الأضحى الماضي إلى 125 جنيهًا، كذلك ارتفعت أسعار لحوم الضاني إلى 150 جنيهًا للكيلو القائم بعد أن سجلت من 85 جنيهًا، بسبب تناقص المعروض مقابل الطلب.
وكان لحرب السودان تداعيات سلبية على سوق اللحوم في مصر، فالسودان أحد أكبر موردي اللحوم والماشية الحية، ووصلت قيمة صادراته إلى 217 مليون دولار عام 2021، ووفقًا لبيانات وزارة الزراعة الأمريكية، اشترت مصر 110 آلاف رأس ماشية وأكثر من 11 ألف طن لحوم مجمدة مستوردة من السودان العام الماضي، لكن توقف صفقات البيع والشراء بالجنيه المصري والسوداني، أدى إلى عجز في المعروض بمصر، وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل كبير.
عسكرة اللحوم.. هل من منافس؟
بخلاف أسواق التجزئة ومحلات الجزارة، تتوزع “كعكة” سوق اللحوم بين 3 جهات حكومية: القوات المسلحة ووزارة الداخلية ووزارة الزراعة، تقول عنها صحيفة “أخبار اليوم” الحكومية إنها “ساهمت بشكل فعال في توافر اللحوم في الأسواق بأسعار مخفضة، ما جعلها وجهة مفضلة للمواطنين بدلًا من محلات الجزارة”.
أصبحت القوات المسلحة منافسًا فرض نفسه على السوق المحلي، بعد إنشاء الشركة الوطنية للإنتاج الحيواني عام 2020، وهي ذراع اقتصادية تتبع لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة
الظهور العلني الأول للقوات المسلحة في هذا القطاع بدأ عام 2014، بالتزامن مع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم بعد الإطاحة بالرئيس المدني الراحل محمد مرسي، مانحًا جنرالات الجيش الضوء الأخضر للتوغل في الاقتصاد المصري بصورة جعلت خبراء اقتصاديين يقولون إن سيطرة الجيش وصلت إلى ما بين 50 و60% من الاقتصاد في حين يحسبها السيسي نسبة لا تتجاوز 2% من اقتصاد البلاد.
منذ ذلك الحين، لم تعد المنافسة على بيع لحوم الأضاحي قاصرة على تجار الماشية الذين تفاجأوا بمنافذ القوات المسلحة تخوض معهم معركة “عيد الأضحى” بعد استعداداتهم المتواصلة على مدار العام بالأعلاف لحيواناتهم وعرضها مذبوحة على أبواب محلات الجزارة، لكن فرحة المواطنين بمنافذ اللحوم المخفضة قابلها التجار بخسائر كبيرة.
في تقرير مصور نشره موقع “المصري اليوم“، اشتكى المواطنون من غياب المنافسة العادلة بعد طرح الجيش لحوم بأسعار تقل بنسبة تصل إلى 30% عن سعر السوق، مع عدم وجود اختلاف بين أنواع اللحوم المطروحة، وأرجع البعض السبب إلى ارتفاع أسعار الأعلاف من ناحية وتربية المواشي بالمجان في مزارع الجيش من ناحية أخرى.
بعد سنوات أصبحت القوات المسلحة منافسًا فرض نفسه على السوق المحلي، فقد تأسست الشركة الوطنية للإنتاج الحيواني في عام 2020، وهي ذراع اقتصادية تتبع لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، أحد أجهزة وزارة الدفاع، وتعمل في مجال تربية الأبقار وصناعة اللحوم وإنتاج الألبان، وتضم 22 مجمعًا متكاملًا في 9 محافظات مختلفة ما بين مزارع تربية الماشية ومصانع لإنتاج الألبان والأعلاف ومشتقاتها.
في حوار أجرته صحيفة “الأهرام التعاوني” مع رئيس مجلس إدارة الشركة السابق اللواء فايز أباظة، في مايو/أيار 2021، بدت نوايا المنافسة مع القطاع الخاص واضحة، حين تحدث عن قدرة الشركة على تحقيق عملية الإغراق للسوق، مشيرًا إلى قدرة الشركة على “إنقاذ المصريين من الاحتكار والجشع”، في حين ادعى خلفه الدكتور محمد عيسى، خلال افتتاح السيسي مشروعات الإنتاج الحيواني بمدينة السادات بمحافظة المنوفية، أن الشركة عملت على “تدبير رؤوس الماشية وتوزيعها على صغار المربين”.
توالى بعد ذلك الحديث المعلن عن مشروعات الجيش في قطاع الإنتاج الحيواني بدعوى “تخفيف العبء عن كاهل المواطنين”، وفي يونيو/حزيران 2022، أُعلن عن تشغيل مجمعات للإنتاج الحيواني في 4 محافظات، بإجمالي أكثر من مئة ألف رأس ماشية وإنشاء مجازر آلية متكاملة وصالات مصنعات اللحوم لتغطية الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك.
رغم ذلك، تضاعفت أسعار اللحوم خلال الفترة بين الإعلان عن هذه المشروعات التي قيل إنها “تلبي الاحتياجات المحلية”، وحتى اقتراب عيد الأضحى للعام 2023، وتزايدت التوقعات بتفاقم الأزمة التي انتهت بانخفاض عدد الأضاحي مع عزوف الفلاحين عن تربية المواشي.
وفقًا لشعبة القصابين باتحاد الغرف التجارية، تراجعت طلبات شراء الأضاحي بنحو 80%، ولم يعد الكثيرون قادرين على تحمل تكاليفها، واضطر بعض المضحين إلى مشاركة آخرين في الأضحية الواحدة أو الاكتفاء بكيلو أو اثنين من اللحوم، كما انخفض إنتاج اللحوم المحلية ليصل إلى 40% بدلًا من 60%، فيما ارتفعت نسبة الاستيراد الخارجي إلى 60%، ما يزيد معاناة المصريين من ارتفاع السلع والمواد الغذائية.
ورغم تراجع أسعار الذرة الصفراء ونخالة القمح “الرَّدة” خلال الأسابيع الماضية، تشير التوقعات إلى أن سعر اللحوم سيتخطى حاجز الـ500 جنيه للكيلوغرام قبل عيد الأضحى، مع عجز المنتجين والجزارين عن مواجهة منافسين جدد محسوبين على الجهات الحكومية في السوق المحلي.
ومع مرور الوقت، أصبحت الساحة شبه فارغة أمام منافذ القوات المسلحة خاصة مع خروج الجزارين من السوق بعدما أُجبر العديد منهم على إغلاق محلاتهم، واضطر آخرون إلى ذبح إناث الحيوانات بسبب انخفاض أسعارها أو تقليل كميات اللحوم المتاحة للبيع بعد تراجع الاستهلاك، ما أدى إلى نقص المعروض وتفاقم أزمة ارتفاع أسعار اللحوم.
محمد سالم، جزار يعمل في هذه المهنة منذ أكثر من 15 عامًا، لكنه يواجه اليوم خطر التخلي عن مهنته التي ورثها عن والده بسبب قلة الإقبال على شراء لحوم الأضاحي، ما اضطره إلى خفض الكميات المعروضة للنصف تقريبًا، بسبب مواجهته منافسة شرسة، ويقول لـ”نون بوست” إنه فكَّر أكثر من مرة في الإغلاق لكنه تراجع على أمل تحسن الأوضاع، لكن وجود منافذ القوات المسلحة بالقرب منه قد يضطره لاتخاذ هذا القرار.
يجلس محمد أمام متجره في انتظار الزبائن، ويضيف: “أشترى كيلو اللحم القائم من “المدبح” بـ150 جنيهًا، وأبيعه بضعف هذا السعر، ومع ذلك، أواجه خسائر متزايدة مع انخفاض الطلب، وبسبب كمية المهدور بعد الذبح، وانخفاض وزن الذبيحة لفقدان جزء بسبب الرطوبة، فضلًا عن تحمل تكلفة الذبح والنقل والإيجار والعمالة والخدمات (الكهرباء والمياه) والضرائب، في حين لا يدفع غيري (في إشارة إلى شوادر الجيش والشرطة) هذه النفقات الإضافية”، مشيرًا إلى أنه يعرف الكثير من الجزَّارين الذين لم يصمدوا في مواجهة المنافذ المنافسة، واضطروا لإغلاق محلاتهم.
لا يختلف الوضع كثيرًا بالنسبة لمنافذ “أمان للمواد الغذائية” التابعة لوزارة الداخلية، التي دشنتها أواخر عام 2015، معلنة عن افتتاح 120 فرعًا في صورة مجتمعات استهلاكية، وتنتشر منافذها الثابتة وسياراتها المتنقلة في محافظات الجمهورية، حاملة شعار “كلنا واحد”، تعلوها عبارة “تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي”، وتنتشر في 3509 مواقع كما هو مبين على الموقع الرسمي لوزارة الداخلية، من بينها أكثر من ألف منفذ من منافذ أمان، مع إلحاق مكان لبيع اللحوم بجوار كل منفذ.
بحسب ما هو معلن، أصبحت الوزارة هي الأخرى تشارك القوات المسلحة فيما تسميه “محاربة جشع واحتكار التجَّار وتخفيف العبء عن البسطاء”، ولم تقصِّر وسائل الإعلام الحكومية والخاصة بالدعاية والإعلان عن خدماتها، التي يكرر مسؤولوها في كل مناسبة أنها “لا تهدف للربح”، ولا تؤثر على النشاط الأمني للوزارة، رغم الاعتراف بأن من يديرها ضباط شرطة سابقون بتمويل من صناديق ضباط الشرطة.
مع مرور الوقت، أصبح ما يُعرف بـ”بيزنس الداخلية الجديد” منافسًا لـ”إمبراطورية الجيش الاقتصادية”، وكلاهما يمارس نشاطه تحت شعار “الاستجابة لمطالب الرئيس لتخفيف العبء عن كاھل المواطن وتوفير السلع الأساسية بأسعار منخفضة”، لكنه يكشف عن فوضى دخول الأجهزة الأمنية الأسواق وغياب الأجهزة الرقابية التي تسيطر عليها الأجهزة الأمنية.
تسييس الأضحية.. أجهزة الدولة في مواجهة المواطن
انعكس هذا الوضع على صغار مربي المواشي الذين لم يتمكنوا من المنافسة أمام المنافذ الحكومية، خاصة منافذ القوات المسلحة، في حين يلجأ آخرون إلى تأجيل بيع ماشيتهم انتظارًا لمزيد من ارتفاع الأسعار.
وبحسب تصريحات نائب رئيس شعبة الجزارين بالغرفة التجارية بالقاهرة، فإن 70% من المربين امتنعوا عن تربية المواشي، و30% من القصابين (الجزَّارين) خرجوا من منظومة الإنتاج، خاصة بعد ارتفاع تكلفة الأعلاف بسبب نقص العملة الصعبة.
يعود انعدام عدالة المنافسة في جزء منه إلى تمتع الشرطة والجيش – الذي صار القوة الاقتصادية الأولى بلا منازع – بميزانية سرية وأعمال معفاة من الضرائب، بالإضافة إلى حصول الأجهزة الأمنية على خدمات مجانية تشمل الإعفاء من دفع ثمن إيجار أو ملكية الأرض التي يختارها بعناية، والحصول على عمالة رخيصة من خلال التجنيد الإجباري، بالإضافة إلى عدم دفع أي مقابل لاستهلاك الكهرباء أو المياه أو الغاز.
غياب الرقابة الحكومية زاد الأمور سوءًا، وأطلق العنان لسياسة الاحتكار في الأسواق المصرية التي تشهد انخفاضًا في العرض مقابل الطلب، حيث تفاوتت الأسعار من منطقة لأخرى، وتجاوز سعر الكيلوغرام من اللحوم 400 جنيه، ووصل سعر اللحوم عالية الجودة إلى 450 جنيهًا في بعض أحياء القاهرة غير الشعبية، خاصة بالمتاجر الكبرى.
وزارة التموين كان لديها مبرر لارتفاع أسعار اللحوم، وقالت على لسان مساعد أول وزير التموين إبراهيم عشماوي، في لقاء متلفز، إن السبب يعود إلى وجود مضاربات، بالإضافة إلى أن 92 تاجرًا – لم يسمهم – يتحكمون في أسعار السلع بالأسواق، وبدلاً من إلقاء اللوم على الجهات التي تحتكر السوق، حمَّل المستهلك المسؤولية كاملة، وجعله سببًا يدفع التاجر لرفع أسعار السلعة.
هذه الأسباب تختلف بالنسبة لوزارة الزراعة بحسب تصريحات مستشار وزير الزراعة والمشرف على ملف منافذ الوزارة سعيد صالح، الذي قال إن انخفاض أسعار اللحوم في منافذ وزارة الزراعة مقارنة بالأسواق الأخرى يعود إلى عدم وجود حلقات تسويقية أو تجار أو وسطاء، لكنه تناسى أن قضايا فساد الوزارة تصدرت عناوين خلال السنوات الأخيرة، وواجه الكثير من مسؤوليها اتهامات بـ”التربح والتزوير والاستيلاء على أراضي الدولة وإهدار المال العام”.
في الأثناء، تروج وسائل الإعلام المحلية لدور منافذ القوات المسلحة في حل الأزمة، من خلال طرح ما يزيد على 250 طنًا من اللحوم البلدية والمستوردة بشكل يومي بأسعار مخفضة، وتتحدث عن توفير أكثر من 900 سيارة متنقلة في جميع المحافظات لبيع اللحوم والسلع بأسعار أقل كثيرًا من سعر السوق.
وفي حين سجلت أسعار اللحوم ارتفاعات قياسية تجاوزت 100%، وصلت أسعار اللحوم البلدي في منافذ القوات المسلحة إلى 270 جنيهًا، بانخفاض بنسبة نحو 30% عن أسواق التجزئة، لكن النتيجة لم تختلف كثيرًا، فقد أدى ذلك بالعديد من المصريين إلى التخلي عن اللحوم في القائمة والبحث عن بدائل أخرى، مثل الأسماك والدواجن التي ارتفعت أسعارها أيضًا بأكثر من الضعف، ما زاد الضغط على المصريين، خاصة محدودي الدخل منهم.
وتدخل وزارة الزراعة المصرية على الخط من خلال مبادرة “خير مزارعنا لأهالينا”، التي تروَّج لتوفير اللحوم عبر منافذها التي وصل عددها إلى 245 منفذًا في مختلف المحافظات، بالإضافة إلى 32 منفذًا متنقلًا، بأسعار تقترب من أسعار منافذ القوات المسلحة، حيث وصل سعر كيلو اللحوم البلدي إلى 225 جنيهًا، وسعر كيلو اللحوم الضاني إلى 250 جنيهًا.
مقارنة بمنافذ الجهات الحكومية السابقة ومحلات الجزارة الخاصة، تنخفض أسعار اللحوم بمنافذ وزارة التموين والجمعيات الاستهلاكية، لأنها تبيع في الغالب اللحوم المستوردة والمجمدة غير الطازجة، لكن هذه اللحوم ليست من النوع الذي يفضِّله المصريون عادة مقارنة باللحوم البلدي الطازجة، وتتجه معظمها نحو الفنادق والمطاعم، رغم ذلك، تجاوز سعرها 200 جنيه للكيلوغرام بعدما كانت لأعوام ملاذًا للفقراء الذين لا يقدرون على شراء اللحوم البلدي.
ورغم بعدها عن الأضواء، تتشارك وزارة التموين مع الأجهزة الأمنية في تحقيق عائد من “بيزنس اللحوم”، ففي عام 2015، تعاقدت الوزارة على صفقة وُصفت بـ”التارخية” بين مصر والسودان بقيمة 800 مليار دولار، شملت 800 ألف رأس ماشية تورَّد لمدة 3 سنوات من خلال شركات الجيش والمخابرات، وتطرح للبيع بسعر50 جنيهًا للكيلوغرام في فروع المجمعات الاستهلاكية التابعة للوزارة.
ورغم توقعات أصحاب محال الجزارة بانخفاض الأسعار البلدي في السوق الحر بنسبة 5% بعد صفقة اللحوم السودانية، رفعت الحكومة سعر هذه اللحوم بزيادة وصلت إلى 140%، حيث وصل سعر الكيلوغرام إلى 85 جنيهًا، دون أن ترفع الدولة المصدرة السعر، لتتربح الأجهزة الأمنية بمباركة الحكومة مبالغ طائلة على حساب المواطن.
وتأبى وزارة الأوقاف أن تترك المواطن دون مشاركته محنته، إذ أجبرت أئمة المساجد على جمع وتوزيع صكوك الأضاحي لتجنب النقل إلى منطقة نائية، لكن سرعان ما نفى وزير الأوقاف مختار جمعة ما تردد، معتبرًا أنه “أمر تطوعي” من بعض الأئمة، لكن بعض المصادر تؤكد أن الضغوط موجودة لكنها ليست مكتوبة.
في عام 2021، حددت الوزارة العدد المطلوب تحقيقه من كل مديرية، واستخدمت في سبيل ذلك أسلوب التهديد والوعيد ضد الأئمة وعمال المساجد لإجبارهم على تحصيل أموال الصكوك من خلال إقناع المواطنين بالمشاركة في المشروع لتحقيق نسبة معينة، كما أُجبر الموظفون في المديريات على دفع 150 جنيهًا ثمن الصك، مع وعد بحصول المديرية الأعلى مبيعًا للصكوك على مكافأة مالية أعلنت عنها الوزارة، ووعيد بتوقيع جزاءات على العمال والأئمة، ونقلهم إلى أماكن بعيدة في حال امتناعهم عن القيام بذلك.
وفي ظل غلاء أسعار صكوك الأضاحي، التي غيَّرتها الوزارة هذا العام لتكون بقيمة 5 آلاف جنيه للحوم المستوردة و8 آلاف جنيه للحوم البلدي، أثار الإعلان عن “صك أضحية” بقيمة 2500 جنيه حالة من الجدل، بسبب عدم تناسب القيمة المعلنة مع موجة ارتفاع الأسعار الحالية التي تصل بـ”الصك” إلى 4 أضعاف هذا المبلغ، بل أجاز رئيس القطاع الديني بالوزارة، هشام عبد العزيز، مشاركة أفراد الأسرة أو الأصدقاء في صك الأضحية.
وأطلقت الوزارة حملتها الإعلانية في مختلف وسائل الإعلام لجمع المال لصالح صكوك الأضاحى، وأعلنت عن حسابات بـ4 بنوك (البنك المركزي وبنك مصر والبنك الأهلي والبنك الزراعي المصري) بالإضافة إلى البريد المصري وخدمة فوري أو من خلال مندوبي وزارة الأوقاف من خلال حملة “اشتريه وأنت في بيتك”، متناسية أن ملايين الأسر محرومة من الأضحية هذا العام بسبب الأسعار الجنونية.