في 30 سبتمبر/ أيلول 1985، وبعد سنوات قليلة من تأسيسه في مطلع الثمانينيات من القرن الـ 20، اختطف “حزب الله” اللبناني 4 دبلوماسيين سوفيت في بيروت، وطالب موسكو بالضغط على الحكومة السورية لمنع هجمات الميليشيات الموالية لسوريا على مواقع منافسة تابعة للميليشيات الموالية لإيران في مدينة طرابلس شمال لبنان، وهدد بإعدام الأسرى واحدًا تلو الآخر، وتفجير السفارة السوفيتية في بيروت وقتل جميع أفرادها في حال عدم الاستجابة لمطالبه.
في البداية، سعت موسكو إلى استخدام قواها الدبلوماسية الناعمة، وحاولت فتح قنوات اتصال دبلوماسية والتفاوض على إطلاق سراح المختطفين، لكن الهجمات لم تتوقف، وبعد أيام قليلة عُثر على جثة أحد الدبلوماسيين، وهو الموظف في القنصلية، أركادي كاتكوف، في ملعب بيروت، ما دفع موسكو إلى إرسال مجموعة “ألفا”، وهي فرقة عدائية من القوات الخاصة، تعمل كجزء من شبكة التجسُّس وفريق مكافحة الإرهاب.
اختلف ردّ الاستخبارات السوفيتية (KGB) باختلاف الراوي، وفي إحدى الروايات ردّت أجهزة الاستخبارات الروسية باختطاف أحد أقارب زعيم لم يذكر اسمه في جماعة “حزب الله” الموالية لإيران، قطّعت أصابعه وأعادتها إلى عائلته في مظاريف منفصلة، مع تحذير من أنه سيفقد أقاربه الآخرين بطريقة مماثلة إذا لم يتم إطلاق سراح الدبلوماسيين السوفيت الثلاثة المتبقين على الفور.
الروايات الأخرى من هذه القصة أكثر عدوانية، وتُجمِع على تبنّي الاستخبارات أساليب جديدة ووحشية للتعامل مع مَن تسميهم “الإرهابيين الذين يهاجمون المصالح السوفيتية في الشرق الأوسط”، وتتحدث إحداها عن تأمين الإفراج عن الدبلوماسيين السوفيت عن طريق إخصاء أحد أقارب زعيم شيعي لبناني متطرف، وإطلاق النار على رأسه، وإرسال الأعضاء المقطوعة إليه مصحوبة برسالة تعدُ بمصير مماثل لـ 11 أسيرًا آخرين، بحسب ما ذكر ماثيو ليفيت في كتابه “حزب الله: البصمة العالمية للحزب اللبناني” الذي نُشر عام 2013.
اختلفت التفاصيل، لكن التأثير كان واحدًا، وبدا حينها أن هذه هي الطريقة التي يعمل بها السوفيت، واللغة التي يفهمها “حزب الله”، ففي غضون أسابيع قليلة، وفي 30 أكتوبر/ تشرين الأول، انتهت محنة الدبلوماسيين الثلاثة بإطلاق سراحهم بسرعة، مقارنة بالعديد من الرهائن الآخرين المحتجزين في لبنان لشهور أو حتى سنوات، من بينهم 6 أمريكيين فُقدوا لمدة تصل إلى عامَين، الأمر الذي أكسب مجموعة “ألفا” سمعة دولية باعتبارها وحدة “شريرة” لمكافحة الإرهاب.
بعد عقود لم تكن العلاقات بين روسيا و”حزب الله” خلالها ودية دائمًا، تعمل موسكو اليوم على توسيع وجودها في الشرق الأوسط، خاصة مع جماعة “حزب الله” المصنّفة دوليًا على أنها “منظمة إرهابية”، بينما يتركز اهتمام العالم على الحرب التي تشنّها روسيا على أوكرانيا، وهو ما يثير الشكوك حول العلاقة الخفية بين شريكَين غريبَين، أحدهما دولة علمانية “ظاهريًّا” تسعى جاهدة للحفاظ على علاقات جيدة مع “إسرائيل”، وتربطها بدول الخليج التي يهيمن عليها السنّة علاقات على مختلف الأصعدة، والآخر جماعة شيعية مسلَّحة تتجاوز قوة الدولة اللبنانية، وتعلن تصميمها على تدمير “إسرائيل”.
من تقطيع الأصابع إلى المصافحة
لم تسِر العلاقات بين روسيا و”حزب الله” على وتيرة واحدة، رغم ذلك ترفض موسكو تصنيف “حزب الله” كـ”منظمة إرهابية”، متجاهلة حقيقة تصنيفه من قبل أقرب جيرانها في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2013، وعلى عكس “حزب الله”، الكيان الشيعي، كانت روسيا أول دولة أجنبية تدرج جماعة الإخوان المسلمين ضمن التنظيمات الإرهابية عام 2006.
وارتبط موقف موسكو من “حزب الله” بموقفها من طهران عندما أصبحت روسيا مصدر الأسلحة الرئيسي لإيران في فترة التسعينيات، في حين صنَّفت واشنطن “حزب الله” بجناحَيه العسكري والسياسي على أنه منظمة إرهابية عام 1995، واكتفت الكثير من الدول الأخرى بإدراج جناحه العسكري فقط على قائمة التنظيمات الإرهابية، وأبقت جناحه السياسي خارج دائرة العقوبات، حفاظًا على العلاقات مع لبنان.
أصبحت روسيا و”حزب الله” حيلفَين بعد طلب قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني السابق، قاسم سليماني، من بوتين ووزير الدفاع الروسي التدخل في الصراع السوري.
يصعب فكّ شفرة تطور موقف روسيا تجاه “حزب الله” والجماعات الشيعية الأخرى الموالية لإيران، دون فهم تطور علاقاتها مع إيران منذ ثورة عام 1979، عندما رفعت شعار “لا شرق ولا غرب”، وتعهّدت بعدم المفاضلة بين قطبَي العالم: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
لكن سياسة إيران تغيرت بعد حرب الخليج أو الحرب العراقية الإيرانية، وانتقلت من موقعها المعلن بعدم المفاضلة بين قطبَي العالم إلى التقارب التدريجي مع الاتحاد السوفيتي، وبحلول منتصف التسعينيات أصبحت روسيا مورّدًا للأسلحة إلى إيران، وداعمًا رئيسيًّا لبرنامجها النووي.
ومنذ واقعة اختطاف الدبلوماسيين السوفيت، قطعت العلاقات بين الطرفَين شوطًا طويلًا، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2011 وصل إلى سوريا وفد من “حزب الله” برئاسة النائب محمد رعد، رئيس الكتلة البرلمانية بـ”حزب الله”، والحليف المقرب للأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني، بدعوة من البرلمان الروسي، ولم يلتقِ وفده إلا بنائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، وجرى وقتها التعتيم على الزيارة.
كانت هذه السرية محل تقدير، لأن “حزب الله” كان يحاول قياس موقف روسيا من نقطتَين رئيسيتَين: الأولى هي مدى قبول موسكو “للخطوط الحمراء” بشأن التعاون مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي سعت للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005.
أما الثانية -وربما الأهم- سعى “حزب الله” إلى قياس مستوى دعم موسكو لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، وكانت دوافع روسيا في ذلك الوقت غير واضحة، لا سيما بالنظر إلى امتناع موسكو عن التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على ملف ليبيا.
في العام نفسه، زعمت روسيا أنه ليس لديها مصالح في سوريا، وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس لديه أي “علاقات خاصة” مع الأسد، بينما كان الخبراء الروس يفكّرون في إمكانية حدوث انقلاب “غير دموي” في البلاد ضد الأسد، حتى “حزب الله” لم يكن لديه رأي موحّد وصريح حول مدى الدعم الذي يجب أن يقدّمه للأسد.
بعد 4 سنوات على اللقاء الرسمي الأول، كانت زيارة “حزب الله” التالية أكثر انفتاحًا على أعين الجمهور، حيث وصل رعد مجددًا إلى موسكو في رحلة أكثر علنية، ووصف محادثاته التي استمرت 40 دقيقة مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بـ”المنفتحة والصريحة”، ربما كان هذا الوصف صحيحًا بالفعل، رغم وجود آراء عكس ذلك.
بالنظر إلى الفاصل الزمني بين الزيارتَين، من المنطقي فقط مقارنة دوافع زيارات الحركة لروسيا، خاصة بالنظر إلى عدم وجود اتصالات بين موسكو و”حزب الله” على الأراضي اللبنانية في الفترة الفاصلة، باستثناء زيارة المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ودول أفريقيا، ونائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف إلى لبنان في أبريل/ نيسان 2013، في محاولة روسية جادة لإقامة علاقات مع جميع القوى السياسية اللبنانية على اختلاف طوائفها.
كما جرت العادة، كان رعد حاضرًا خلال اجتماع عقده مع بوغدانوف، وكانت رسالة هذا الاجتماع إقامة علاقة سياسية مع إبراز وصول بوغدانوف إلى بيروت قادمًا من طهران، واحتل الملف السوري قسمًا كبيرًا من المحادثات التي ركزت أيضًا على إدانة ردّ الفعل الدولي حول تدخل إيران و”حزب الله” في سوريا.
يبدو أن موسكو قررت منذ ذلك الحين لعب دور في الشرق الأوسط، عبر بناء جبهة اجتماعية واسعة بدعوى حماية جميع الأقليات، وهو ما يؤكده مؤتمر هام كانت موسكو تخطط لعقده في بيروت في أبريل/ نيسان، لكنه تأجّل لأسباب فنية، وسعت لتغيير عنوانه من “حماية المسيحيين في الشرق الأوسط” إلى “حماية الأقليات في الشرق الأوسط”.
من وجهة نظر روسية، تشمل الأقليات التي تحدثت عن حمايتها الشيعة والعلويين والإسماعيليين والدروز والمسيحيين بكل طوائفهم واليهود، وبالتالي يمكنها خوض معارك للقضاء على السلفية الجهادية التي تهدد أمنها القومي، بدلًا من الاضطرار إلى محاربة من تسمّيهم “الجهاديين” داخل حدودها وفي دول الاتحاد السوفيتي السابقة، التي أصبحت تمثل الفناء الخلفي لروسيا.
روسيا لها أيضًا حصتها الخاصة في لبنان، وتسعى إلى زيادة نفوذها من خلال أدوات القوة الناعمة، وعبر نشر المشاريع الاقتصادية السياسية التي تنفّذها شركتا Rosneft وNovatek، ومع ذلك، كما هو الحال عادةً مع روسيا، فإن كل هذه المشاريع تهدف إلى تعزيز موقف موسكو على خلفية ضعف المنافسة، وليس أكثر من ذلك بكثير.
تقارُب في مصلحة النظام السوري
في صيف عام 2015، أصبحت روسيا و”حزب الله” حيلفَين بعد طلب قائد قوات فيلق القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني السابق، قاسم سليماني، من بوتين ووزير الدفاع الروسي -خلال لقاء جمعهم في موسكو رغم حظر السفر المفروض من قبل الأمم المتحدة- التدخل في الصراع السوري.
وبعد أسابيع قليلة من هذا الاجتماع، شنّت موسكو حملة جوية قلبت طاولة الحرب لصالح نظام الأسد، ومنذ ذلك الحين شهد الصراع ولادة التحالف الروسي مع “حزب الله”، حيث قاتلت قواتهما جنبًا إلى جنب في تحالف مع نظام الأسد.
وفي ذروة الحرب السورية عام 2015، تدفّقت الأسلحة الروسية إلى سوريا، وكشفت الصور المتداولة أن أعدادًا كبيرة من الأسلحة الخفيفة الروسية الصنع، وعلى رأسها AKS-74U، وجدت طريقها ليس فقط إلى القوات الموالية للنظام السوري، لكن إلى المقاتلين المدعومين من “حزب الله” في المنطقة، الذين لا تزال هذه البندقية منقوشة على عَلَمهم حتى اليوم.
بمباركة روسيا، أصبحت AKS-74U التي طورها السوفيت بعد الحرب العالمية الثانية، الدعامة الأساسية لمختلف الفصائل المتناحرة في الأراضي السورية، وهو ما يثير التساؤل حول ما إذا كانت موسكو تقدّم عن عمد الدعم العسكري لـ”حزب الله”، فبحسب الباحثة في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”، آنا يورشيفسكايا، “كلما زاد عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، كان ذلك أفضل لروسيا التي تريد زيادة مبيعاتها من الأسلحة”.
لكن الباحث في معهد واشنطن للأبحاث فيليب سميث، يرى أن روسيا لم تكن على علم بمكان انتهاء أسلحتها التي زوّدت بها القوات الموالية للأسد والقوات المدعومة من إيران، وبحسب قوله لم تكن هذه المرة الأولى التي يتغاضى فيها الروس عن عمليات نقل الأسلحة في المنطقة على ما يبدو.
فمنذ عام 2006، وجدت أسلحة مضادة للدبابات روسية الصنع، مثل قاذفة القنابل RPG29، طريقها إلى مقاتلي “حزب الله” الذين يستخدمونها في عمليات معقّدة ضد الدبابات الأمريكية في العراق.
منذ ذلك الوقت، وصلت العلاقات بين موسكو و”حزب الله” إلى “مستوى الدماء المشتركة التي أُريقت ضد الإرهاب بسوريا”، بحسب وصف مسؤول العلاقات الخارجية في “حزب الله”، بإرسال “حزب الله” المزيد من المقاتلين رغم خسارته عددًا من مقاتليه بعد التدخل الروسي، بينما أكّد الروس علنًا أن “حزب الله” “قوة مشروعة وليس منظمة إرهابية”.
وفي مايو/ أيار 2020، أصرَّ سفير روسيا في لبنان على أن “حزب الله” منظمة تحارب الإرهاب، وبحسب ما ورد في 13 أبريل/ نيسان 2021، بدأ “حزب الله” يفكر بفتح مكتب تمثيلي في موسكو، قبل أن يزور لافروف إيران في الشهر ذاته، وينتقد العقوبات الأوروبية على إيران.
في العام التالي، وبعد فترة وجيزة من الغزو الروسي لأوكرانيا، دعم “حزب الله” موسكو، وتحدثت تقارير عن إرساله مقاتلين لأوكرانيا للقتال إلى جانب القوات الروسية، في المقابل سيُسمح لـ”حزب الله” بشراء أسلحة من شركة الدفاع الروسية المملوكة للدولة Almaz-Antey، الأمر الذي نفاه “حزب الله” واعتبره نصر الله “أكاذيب ليس لها أي أساس من الصحة”.
حسن نصرالله ترك حدوده مع إسرائيل وذهب للبحث عن طريق القدس في اوكرانيا
— عمر مدنيه (@Omar_Madaniah) March 18, 2022
روسيا و”حزب الله” وبينهما “إسرائيل”.. السير على الحبال دون السقوط
أسهم الملف السوري في دعم العلاقات الروسية مع إيران و”حزب الله”، ووصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وكانت علاقة موسكو بـ”حزب الله” نتيجة ثانوية لذلك، لكن التعامل مع الحزب بقيَ حذرًا لعلاقة الكرملين مع “إسرائيل” التي تأمل أن تظل هذه العلاقات محدودة النطاق.
في الواقع، لم تحقّق موسكو آمال تل أبيب في كثير من المناسبات، ومنها ما حدث في 14 مارس/ آذار 2021، عشية الذكرى العاشرة للثورة السورية، حين سار وفد من “حزب الله” بهدوء إلى مبنى وزارة الخارجية الروسية في موسكو، في شاحنة متوسطة الحجم من دون حرّاس شخصيين، في زيارة تستغرق 4 أيام (من 14 إلى 17 مارس/ آذار)، وهي الزيارة الدبلوماسية الرسمية الثانية فقط لوفد من “حزب الله” إلى روسيا خلال عقد من الزمن.
على عكس المرة الأولى، مدّدت وزارة الخارجية الروسية الدعوة، واستقبل لافروف وفد “حزب الله” الذي يرأسه رعد في زيارة علنية، وأجرى الوفد محادثات منفصلة مع نائب وزير الخارجية الروسي، وممثلين عن مجلس الدوما ومجلس الاتحاد، والممثل الرئاسي الخاص للشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف، والسفير الإيراني لدى روسيا كاظم جلالي.
عكست تركيبة وفد “حزب الله” الطبيعة السياسية للزيارة، فقد مثّل الوفد الحرس القديم أو الجيل المؤسّس للجناح السياسي للحزب، وضمَّ رئيس العلاقات الخارجية في “حزب الله” الوزير السابق عمار الموسوي، ومساعده للشؤون الدولية أحمد مهنا، والمستشار الإعلامي أحمد الحاج علي.
بمصادفة غريبة، تزامنت زيارة وفد “حزب الله” لروسيا مع زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي السابق جابي أشكنازي، الذي وصل موسكو في 17 مارس/ آذار، علاوة على ذلك عُقدت محادثات “حزب الله” مع لافروف في اليوم نفسه الذي التقى فيه نائبان لوزير الخارجية الروسي، أوليغ سيرومولوتوف وسيرجي ريابكوف، نائب المدير العام للشؤون الاستراتيجية بوزارة الخارجية الإسرائيلية جوشوا زرقا، لذا بدت سلسلة الاجتماعات هذه أكثر من مجرد مصادفة، وجعلت الموقف الروسي بين “الضدَّين” غريبًا.
وتعكس الاجتماعات المتزامنة بين “عدوَّين لدودَين” في موسكو كيف تستعرض روسيا عضلاتها الدبلوماسية، وتشير إلى أن “حزب الله” في مقدمة 3 قضايا رئيسية في منطقة الشرق الأوسط: العمليات العسكرية في سوريا، والتوترات مع “إسرائيل”، وتعقيدات السياسة اللبنانية.
تحوّل طهران ثمن النفط إلى شركة Promsyrioimport الروسية بدلًا من النظام السوري، ما يسمح لموسكو بالتهرب من العقوبات الغربية على دمشق.
لا شكّ أن أي اتصالات رسمية بين موسكو و”حزب الله” تثير ضجة، لكن المشكلة ليست فقط في مكانة الحركة التي تعتبرها دول كثيرة، بما فيها “إسرائيل”، إرهابية، إنما في طبيعة علاقات “حزب الله” بالدبلوماسيين والمسؤولين الأمنيين وأجهزة المخابرات الروسية.
على سبيل المثال، كان سيرومولوتوف، الرئيس السابق لجهاز الأمن الفيدرالي لمكافحة التجسُّس الذي ترقّى إلى رتبة جنرال في الجيش، يشرف على إجراءات مكافحة الإرهاب.
المشكلة الأخرى تتعلق بالحرب السورية، فقد سئمت موسكو من الصراع، ومع ذلك ربما تحاول إضفاء الشرعية على نظام الأسد من خلال إثارة احتمال تراجع الوجود الإيراني في سوريا، رغم أن كلًّا من طهران و”حزب الله” يدركان أنهما راسخان في البلاد.
ورغم أن خطة موسكو لتحقيق السلام تفترض مسبقًا أن إيران و”حزب الله” سوف يجمّدان بطريقة ما نشاطهما في المنطقة، لا يزال الإسرائيليون يأملون في أن تتمكن روسيا من إجبار إيران وحلفائها على الانسحاب من سوريا، لكن أكثر ما استطاع الجيش الروسي تحقيقه حتى الآن هو انسحاب القوات الموالية لإيران من الحدود الإسرائيلية.
لم يكن الروس والإسرائيليون على توافق دائم، ففي سبتمبر/ أيلول 2018، وبعد حادثة إسقاط الدفاعات الجوية السورية، نتيجة لعملية عسكرية إسرائيلية في سوريا، طائرة استطلاع روسية من طراز Il-20M في سماء اللاذقية السورية، حاول المسؤولون الإسرائيليون –المتهمون بالمسؤولية عن الحادثة التي وصفتها وزارة الدفاع الروسية بـ”العمل العدواني والاستفزازي”- إقناع موسكو بأن إيران تختبئ وراء الجيش الروسي في سوريا لأغراضها الخاصة.
لم ترُدَّ روسيا رسميًّا على ذلك بأي شكل من الأشكال، مع استمرار التأكيد على فوائد التعاون مع إيران بشأن سوريا، وتعهّدت الجماعات الموالية لإيران في المقابل بتنفيذ الأوامر الصادرة من مقر العمليات المشتركة مع الروس، ومع ذلك تشعر موسكو بأنها ملزمة بمراقبة حركة الأسلحة من سوريا إلى لبنان، وتقييد تصرفات “حزب الله” في منطقة مطار دمشق وفي المحافظات الجنوبية الغربية.
في الآونة الأخيرة، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عن دوره في عرقلة حصول إيران على صفقة أسلحة كبيرة من روسيا، ومع ذلك، ورغم المناشدات الإسرائيلية، باعت روسيا صواريخ من النوع الذي أطلقه “حزب الله” على “إسرائيل” في حرب 2006.
وفي وقت لاحق، حصلت إيران وسوريا على أنظمة الدفاع الصاروخية إس-300 الروسية، كما دخلت منظومة الصواريخ المضادة للطائرات إس-400 حيز الخدمة في سوريا أيضًا عام 2015، وسط تجاهل للتحذيرات الإسرائيلية والأمريكية.
في أوقات أخرى، سارت الدبلوماسية الروسية في كلا الاتجاهَين، في محاولة للموازنة بين حليفَيها المتضادَّين، ففي أواخر عام 2015 بدأت في بناء منظومات دفاع جوي وصاروخي مضادة للطائرات في قواعدها في سوريا، بدعوى “منع خطف طائراتها ومقاتلاتها”، لكنها سمحت لـ”إسرائيل” بشنّ غارات جوية على أهداف غير روسية، ما أزعج كلًّا من دمشق وطهران خاصة بعد مقتل أحد مقاتلي “حزب الله” في يوليو/ تموز 2020، وأدّى ذلك في المقابل إلى اعتماد “إسرائيل” على روسيا.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2020، ألقى السفير الروسي في “إسرائيل”، أناتولي فيكتوروف، باللائمة على “إسرائيل” في زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط بدرجة أكبر من إيران، وحاول أيضًا إثبات صحّة المنظمات العسكرية السياسية المتحالفة مع طهران، وبالأخص “حزب الله” الذي كان ذات يوم قوة منافسة ثم تحوّل إلى حليف للكرملين في “محاربة الإرهاب”، ما دفع موسكو إلى اتخاذ خطوات لتهدئة الموقف حول تصريحات فيكتوروف.
ومع ذلك، فإن مثل هذا الخطاب -وليس أول تصريحات من هذا القبيل عن “حزب الله” صادرة عن دبلوماسيين روس- لا يُفسَّر فقط حسب تقدير سفير معيّن، بل من خلال تفاصيل الوجود الروسي في لبنان، ودور بيروت في الالتفاف على العقوبات المفروضة على دمشق.
الوجه الخفي للتعاون
منذ آخر زيارة قام بها رعد لروسيا، حدث الكثير على المستويَين السياسي والأمني، وشهدت السنوات القليلة الماضية قيام موسكو بتوازن دقيق لتوسيع نفوذها بهدوء إلى لبنان، فمن ناحية سعت إلى إنكار مشاركة “حزب الله” في تهريب المخدرات، وفي الوقت نفسه كان الجيش الروسي يقوم بمهام مشتركة مع وحدات “حزب الله”.
ومن الأمثلة على ذلك الاستيلاء على شرق حلب، حيث عملت القوات الخاصة الروسية ومقاتلو “حزب الله” جنبًا إلى جنب، ففي أواخر ديسمبر/ كانون الأول أظهر مقطع فيديو لعملية عسكرية بالقرب من حلب أحد المقاتلين الروس مرتديًا شارة “حزب الله”، وهذا يوحي بالسماح لجنود القوات الروسية بالتنكُّر في شكل مقاتلين من “حزب الله” في بعض العمليات، ودعم مقاتلي “حزب الله” على أساس مستمر.
بدورها، مُنحت وحدات “حزب الله” الإذن برفع الأعلام الروسية في معظم منشآتها ومقارها في عدة مناطق في محافظة حماة، بما في ذلك قرب المطار المحلي، وعند التقدم في محافظات إدلب وحمص وكذلك في الصحراء السورية، لتجنُّب الضربات الجوية الإسرائيلية أو الأمريكية، ومع ذلك لم يبدِ الروس اعتراضات خاصة على الضربات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف متحركة.
كذلك يُخفي النظام السوري قوافل ومقاتلي “حزب الله” والميليشيات الأخرى المتحالفة مع إيران على أنها مقاتلاته، وتلك خدعة في ساحة المعركة يبدو أنها محسوبة لمحاولة حماية الأهداف الإيرانية والمدعومة من إيران، بما في ذلك “حزب الله”، من الصواريخ الإسرائيلية، وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية.
على مدى السنوات القليلة الماضية، سعت موسكو إلى توسيع نفوذها ورفع دورها كصانع سلام مع تضاؤل دور الولايات المتحدة في المنطقة، لكن حربها على أوكرانيا طغت على زحفها نحو الشرق الأوسط، ولم يحظَ تعاونها مع “حزب الله” باهتمام كبير.
ومع ذلك، تكشف تصنيفات الحكومة الأمريكية المتعلقة بأنشطة التمويل غير المشروع، عن اتجاه متنامٍ في دعم أنشطة إيران و”حزب الله”، والتي لم تقتصر على المستوى المعزز من الدبلوماسية الناعمة.
لسنوات، لم يتجاوز التحالف الروسي مع “حزب الله” حدود النشاط العسكري في سوريا، لكن في عام 2018 انخرط الطرفان في أنشطة غير مسبوقة للتهرب من العقوبات، وأظهر التغيُّر الصارخ في النشاط بين “حزب الله” وموسكو أن تعاونهما قد تجاوز التحالف العسكري، وأصبح يحمل مكونًا اقتصاديًّا.
أشارت وزارة الخزانة الأمريكية إلى أن مخططات التهرب من العقوبات -التي كانت تموّل شبكة النفط التابعة لـ”حزب الله” وفيلق القدس- مدعومة من قبل المستويات العليا من الحكومة الروسية والأجهزة الاقتصادية التي تديرها الدولة.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، كشفت وزارة الخزانة الأمريكية مخطط تمويل إيراني معقدًا وغير مشروع تقوده روسيا و”حزب الله” وإيران، للتهرب من العقوبات على بيع النفط لدمشق، إذ تحوّل طهران ثمن النفط إلى شركة Promsyrioimport الروسية بدلًا من النظام السوري، ما يسمح لموسكو بالتهرب من العقوبات الغربية على دمشق.
تجري هذه العملية عن طريق المسؤول بـ”حزب الله” محمد جعفر قصير، المعروف باسمه الحركي “الحاج فادي”، ومسؤولين آخرين في “حزب الله”، بالتعاون مع عملاء إيرانيين وشركات روسية ومصرف سوريا المركزي.
وتستهدف تسهيل شحن ملايين البراميل من النفط الإيراني إلى نظام الأسد في سوريا، بينما لا تحوّل دمشق -ممثلة في البنك المركزي السوري- ثمن النفط لطهران مباشرة، بل تحوّله إلى “حزب الله” وحماس وفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني نيابة عن طهران.
في رسالة إلى مسؤول كبير في البنك المركزي الإيراني، أكّد قصير المعروف باسمه الحركي “الحاج فادي”، وشريكه السوري المقيم في روسيا محمد الشويكي، استلام 63 مليون دولار كجزء من مخطط لصالح “حزب الله”، ما استدعى تصنيفه من قبل وزارة الخزانة الأمريكية على أنه “قناة حاسمة” لتمويل “حزب الله”.
كذلك، ارتبط اسم قصير بشبكة أخرى لتحويل ملايين الدولارات من أموال النفط الإيراني من روسيا إلى طهران، بعد بيعه لشركات أوروبية عبر شركة RPP الروسية التي كان يديرها سابقًا رجل الأعمال الأفغاني كمال الدين غلام نابيزادا، وتمَّ تصنيفها في مايو/ أيار 2022، واستخدم قصير شركة مقرها لبنان لتسهيل هذه الصفقات النفطية لصالح فيلق القدس و”حزب الله”.
لم يتوقف دور قصير عند حد توفير الأموال لـ”حزب الله” عبر شبكات التهريب فحسب، بل يرأس “الوحدة 108“، وهي “وحدة “حزب الله” المسؤولة عن تسهيل نقل الأسلحة والتكنولوجيا وأنواع الدعم الأخرى من سوريا إلى لبنان”، وتُعرف اليوم بـ”الوحدة 4400″، وهي وحدة حساسة ومهمة، جعلت من قصير الشخص المثالي لتنسيق مخطط النفط مقابل الإرهاب الإيراني.
لقد كان قصير أيضًا خيارًا منطقيًّا لأنه جاء من عائلة “متفانية” في “حزب الله”، وهو أحد المقربين الموثوقين لنصر الله، ويُزعم أن شقيقه أحمد كان أول انتحاري للجماعة نفّذ هجومًا في نوفمبر/ تشرين الثاني 1982 على مقرّ للجيش الإسرائيلي، المعروف أيضًا باسم “كارثة صور”، بينما كان الآخر، حسن، صهر زعيم “حزب الله” حسن نصر الله.
وبغضّ النظر عن النَّسَب، فإن علاقة قصير الوثيقة مع قائد الحرس الثوري الإيراني آنذاك، قاسم سليماني، وبشار الأسد، وقائمة طويلة من العملاء الإيرانيين الرئيسيين الآخرين، جعلته الرجل المناسب للمنصب.
وتكشف المراجعة الدقيقة لتصنيفات وزارة الخزانة الأمريكية، أن التدخل الرسمي للحكومة الروسي يمثل أحد الجوانب البارزة لعائدات النفط الإيرانية، فضلًا عن دعمها للجماعات المسلحة بالوكالة التي تستمر في إدامة الصراع والمعاناة في جميع أنحاء المنطقة.
وفي آخر التصنيفات التي صدرت في مايو/ أيار 2022، أشارت الخزانة الأمريكية إلى أن مخططات التهرب من العقوبات -التي كانت تموّل شبكة النفط التابعة لـ”حزب الله” وفيلق القدس- مدعومة من قبل المستويات العليا من الحكومة الروسية والأجهزة الاقتصادية التي تديرها الدولة.
ومنذ عام 2021، بدأ من يعتبر بحسب تصنيف وزارة الخزانة الأمريكية المستشار المالي لـ”حزب الله”، حسن مقلد، تنسيق مشاريع وصفقات تجارية لصالح “حزب الله” مع روسيا، من أهمها مشاركة مسؤولين لبنانيين وروس عن كثب في مفاوضات لتكليف شركة Hydro Engineering and Construction، المدعومة من الحكومة الروسية، بإعادة بناء مصفاة الزهراني بمنطقة سيطرة “حزب الله” في جنوب لبنان، بقيمة 1.5 مليار دولار.
ورغم تصنيفه في يناير/ كانون الثاني 2023، لم تتوقف اجتماعات مقلد مع المسؤولين الروس، والتي كان آخرها في مارس/ آذار 2023، حيث التقى نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، ونائب وزير الدفاع ألكسندر فومين، وقال مقلد في سلسلة تغريدات عبر “تويتر” إنه ناقش مشاريع اقتصادية واستثمارية وإقامة رحلات جوية مباشرة بين لبنان وروسيا.
١/٤ التقى الخبير الاقتصادي الدكتور حسن مقلد قبل ظهر الجمعة في موسكو نائب وزير الدفاع الروسي الكسندر فومين.
كما التقى ظهرًا الممثل الخاص لرئيس الاتحاد الروسي للشرق الاوسط وافريقيا نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف. pic.twitter.com/jkr3eMmAlI
— Hassan Moukalled – حسن مقلد (@hasmokaled) March 31, 2023
ووفقًا لسجلّات الضرائب الروسية، فإن هذه الشركة مملوكة بالكامل لرجل الأعمال الروسي أندريه ميتزغر، إلا أنها مدعومة من الحكومة الروسية، وقد تأسّست قبل شهر واحد فقط من زيارة وفد “حزب الله” إلى موسكو التي ناقشت التعاون في المشاريع الاستثمارية، ما يفسّر مشاركة ميتزغر، في يونيو/ حزيران 2021، في وفد زار لبنان بالنيابة عن الحكومة الروسية، ومناقشة مشروع ارتبط بشركته خلال اجتماع جمع بين السفير الروسي في لبنان و”حزب الله” في بيروت في الشهر ذاته.
ولا تزال مشاركة “حزب الله” في مشروع مصفاة الزهراني غير واضحة، رغم إعلان حسن نصر الله اهتمامه بالمشروع الذي يؤمّن كل احتياجات لبنان من المشتقات النفطية، وتنديده بدور الولايات المتحدة في تعطيل المشروع، مشيرًا إلى أن “السفارة الأمريكية تمنع الرد اللبناني على العرض الروسي”، وقال في بيان: “لو كان “حزب الله” سيطر على قرارات الدولة اللبنانية، لكان العرض الروسي مقبولًا منذ عام ونصف، ولحل مشاكل نقص الطاقة”.
كما هو الحال بالنسبة إلى مسؤول “حزب الله” قصير، تخطّت مهام مقلد حدّ الجهود المبذولة لتنسيق الصفقات التجارية مع موسكو لصالح “حزب الله”، إلى العمل مع قصير للمساعدة في توفير الأسلحة لـ”حزب الله”، بحسب ما كشفت وزارة الخزانة الأمريكية.
سبق كل هؤلاء عبد النور شعلان، الملقّب بـ”المُيسِّر”، وهو رجل أعمال لبناني يمارس أعماله بشكل أساسي في سوريا، وتربطه علاقات وثيقة بشخصيات بارزة في “حزب الله”، وبفضل خبرته الطويلة في حيازة الأسلحة، لعب دورًا مركزيًّا في شراء الأسلحة وتهريبها لـ”حزب الله” وشركائه السوريين لمدة 15 عامًا على الأقل، بحسب بيان لوزارة الخزانة الأمريكية التي لم تصنّفه حتى يوليو/ تموز 2015.
تقرير جديد يكشف
عن شبكة مظلمة لـ
‘رجل سلاح #حزب_الله‘
رجل اعمال لبناني (علي عبد النور
شعلان الملقب بـ #الميسر) ذو علاقات
وثيقة مع (شبكة شراء أسلحة) التابعة لحزب الله،
أسس دروعًا تجارية جديدة لإخفاء نشاطه … –
** #تحقيق_ألما 👇https://t.co/eKcZW7E5he pic.twitter.com/yti88Srgq9
— Mr. NDB مستشار إعلامي (@jaaztime) June 18, 2021
منذ بداية الحرب السورية، تورّط شعلان في شبكة المشتريات والإمداد لـ”حزب الله”، ولعب دور الوسيط الرئيسي في صفقة شراء أسلحة شارك فيها “حزب الله” ومسؤولون سوريون وشركات من بيلاروسيا وروسيا وأوكرانيا.
وفي صفقة أخرى، حصل لصالح “حزب الله” على أطنان من مركّب أنهيدريد (Anhydride) الكيميائي المستخدم في صنع المتفجرات والمخدرات، كما ساعد “حزب الله” مرة أخرى في الحصول على أسلحة ومعدّات عسكرية أثناء تهريبها إلى سوريا.
في النهاية، تبقى القضايا الرئيسية التي توحّد روسيا وإيران و”حزب الله” هي المأزق السياسي في لبنان ومستقبل نظام الأسد الذي ظلَّ في السلطة، لكنه لا يستطيع السيطرة على الموارد النفطية والزراعية في شرق البلاد وحل مشكلة الاكتفاء الذاتي الاقتصادي.