منذ اليوم الأول من شهر ذي الحجة، تصدح مكبرات الصوت في شوارع قطاع غزة بتكبيرات العيد ليل نهار، لتقاطعها أصوات الأضاحي (عجول وخراف) من داخل المنازل التي يحرص أصحابها على اقتناء الأضحية ورعايتها قبل العيد بأيام، عدا عن رائحة الكعك التي تفوح من البيوت ليل نهار.
ويبدو أن عيد الأضحى هذه المرة سيكون مميزًا بالنسبة إلى الفلسطينيين في غزة بعد عقد ونصف من احتفالهم به عن بُعد، فلن يضطر الابن المغترب من إرسال المال لشراء الذبيحة وتوزيعها على الأقارب وفقراء الحي، بل سيكون حاضرًا لشرائها وتوزيعها بنفسه.
كل شيء في بلد محاصر لا تتجاوز مساحته الـ 365 كيلومترًا مثير للاهتمام، فما هي طقوس أهله المحاصرين؟ وكيف يوفّرون حاجاتهم؟ وهل ما زالوا رغم الظروف الاقتصادية السيّئة يحافظون على عاداتهم المتوارثة في الأعياد؟.
توديع الحجاج وتجهيز كعك العيد والسماقية
في الأيام الأولى من ذي الحجة، يبدأ الغزيون بتوديع من حالفهم الحظ في قرعة وزارة الأوقاف لتأدية مناسك أداء الحج، فالأولوية دومًا لكبار السن أو المرضى، لكن هناك عددًا من الشباب الذين خرجوا بصحبة والدينهم.
ولمراسم سفرهم طقوس متوارثة يحرص عليها الغزيون، حيث يجتمع أهل الحاج والجيران والأصدقاء قبل موعد سفر الحجاج بعدة أيام، لوداعه ومسامحته وتوصية بالدعاء والسلام على الرسول، وعند العودة يستقبَل الحجاج بالفرح والغناء (التحنين) وإقامة الولائم، حيث يعرَف بيت الحاج من عبارات الوداع المنقوشة على جدران باب بيته، وكذلك أحبال الزينة الممتدة في شارعه.
كما يتمسّك الكثير من الفلسطينيين بصيام 9 أيام من ذي الحجة التي تسبق العيد، وبمجرد تناولهم الإفطار يوم عرفة تبدأ التهاني والتبريكات فيما بينهم. وقبل أيام قليلة من عيد الأضحى، تفوح البيوت الغزية برائحة الكعك والمعمول بأشكال وألوان مختلفة، حيث تبدأ تخرج الأطباق التي يتناولها الجيران فيما بينهم، وتتردد عبارة “لا تطبخوا أول يوم بالعيد، أمي طابخة سماقية”.
ويحرص أهالي القطاع لقربهم من ساحل البحر المتوسط، تناول الفسيخ والرنجة، أو كبدة وكلاوي الأضحية حال كان أصحاب البيت لديهم ذبيحة.
وقبل العيد بأيام، تحرص النساء على عادة ورثنها من الأمهات والحموات، وهي تعزيل البيت (تنظيفه وشراء بعض أواني الضيافة الجديدة) لاستقبال الضيوف، بالإضافة إلى تعليق الزينة الحديثة من دمى للخراف مصنوعة من الصوف، أو مجسّم للكعبة صغير، فتلك الأجواء تصنَع لترسيخها في عقول الصغار وتشجيعهم على صوم الـ 9 أيام من ذي الحجة.
في حي الشيخ رضوان وسط مدينة غزة، تجتمع السيدة أم رامي البردويل برفقة بناتها الخمسة، لتجهيز صواني الكعك والمعمول، وسط معمعة الصغار الذين يحاولون المساعدة لكنها تنهرهم، فهي تريد أن تنجز سريعًا.
تقول لـ”نون بوست” إنها تصنع الكعك برفقة بناتها وزوجات أبنائها، فهي تتعمّد هذه اللمة كما اعتادت وهي صغيرة حين كانت تجتمع والدتها ونساء الحارة لمساعدة بعضهن في تجهيزه، فكانت تذهب إلى الفرّان برفقة شقيقها تحمل على رأسها صواني الكعك والمعمول.
وذكرت أنها تخبز كميات كبيرة من الكعك والمعمول وبمذاقات مختلفة (العجوة والمكسرات)، وتوزّع كمية كبيرة على الجيران والأقارب، معلقة: “أحاول ترسيخ هذه العادة لدى بناتي، وقبل العيد أيضًا أستقبل الكثير من الكعك من الجيران فيصبح لدي الكثير”.
وتحكي أنها تحاول صنع ذكريات بسيطة للأحفاد، عبر ممارسة طقوس قديمة بلمسات تواكب الزمن وما يرضي الصغار، حيث تطلب منهم توزيع الحلويات والكعك على الجيران، وتصحبهم لصلاة العيد وتوزيع القهوة والمعمول على نساء المسجد.
الحلوى بعد زيادة الأسعار
لا تقتصر تجهيزات عيد الأضحى على الكعك والمعمول، فتتزيّن طاولات الاستقبال بالمكسرات والشوكولاتة والحلقوم بمختلف أنواعه، خاصة البلجيكي والتركي، وبأسعار متفاوتة قد يصل سعر الكيلو الواحد إلى 30 دولارًا وأكثر، وهناك نوعيات ما بين دولارَين إلى 3 دولارات.
لكن هناك نوعًا سعره زهيد وهو “جامين”، مصنوع من الكراميل ويحرص الأهالي على جلبه ليس لأن مذاقه مميز فقط، بل يربطهم بذكريات الأعياد قديمًا، فهو بالكاد نوع الشوكولاتة الوحيد وقتها الذي كانت تتزين فيه طاولات استقبال الغزيين.
أما الأسواق فلها حكاية مختلفة، ففي العادة تزدحم وقت المواسم وتحديدًا الأعياد، وتنتشر البسطات الشعبية في كل الأسواق، سواء العادية أو التي تتوسط الأحياء الراقية.
ومع أن الزحمة في كل مكان، إلا أن حركة المشترين تزداد وقت وصول الحوالات المالية من الأبناء والأقارب، فتنعش الجيوب لشراء الملابس وتجهيز العيديات.
ورغم إغراق الأسواق الغزية بالبضائع التركية أو المحلية، إلا أن الأسعار كما يصفها المواطنون “نار”، بفعل الضرائب التي فرضتها حكومة غزة قبل شهور قليلة على بعض الملابس كالجينز، ما دفع التجار إلى استغلال ذلك وتعويض خسائرهم وأكثر من المشترين.
السماقية والمشاوي والفتّة الغزاوية
ليلة العيد تجهّز النساء أطباق السماقية، وهي أكلة شعبية تعدّ في الأعياد والأفراح وحتى المآتم، فقد توارثتها الأمهات عن الجدّات، ويحاولن تعليمها للفتيات الصغيرات ليحفظن عادةً يقبل عليها الصغير قبل الكبير.
وما يساعد على إعدادها أن مكوناتها ثابتة وتتوفر في كل البيوت الغزاوية، فهي تصنَع من اللحم والسلق والسماق والفلفل الحار، لكن كل سيدة تصنعها بطريقتها المميزة، وتتفنّن في طريقة تقديمها مع الخبز البيتي والمخللات الشهية التي تصنَع في البيت أيضًا.
وما يدفع النساء إلى إعدادها بعيدًا عن مذاقها المميز، أنها سهلة وتوفر عليهن الطبخ وقت العيد، كونه يمكن حفظها خارج الثلاجة دون أن تفسد.
ويوم العيد وبعد الذبح تفوح روائح الشواء واللحوم، فغالبًا الغداء يكون الفتة الغزاوية، بينما العشاء غالبًا المشاوي وتحديدًا الكباب، فتجد الغزيين في طوابير عند اللحّام طيلة أيام العيد أو على الأسطح، فغالبيتهم يفضّلون طهي كل ما لديهم من لحوم، ليس لحرمانهم منها رغم سعرها المرتفع، بل خشية أن تتلف بفعل انقطاع التيار الكهربائي بشكل يومي في القطاع، خاصة وقت فصل الصيف.
قبل أيام قليلة، وصل هشام أبو صالح (45 عامًا) من أمريكا إلى قطاع غزة بصحبة زوجته وأولاده الثلاثة بعد غياب 17 عامًا، بعدما كسر حاجز الخوف من أن يعلق في بلده بسبب معبر رفح الفاصل بين غزة ومصر ويسافر عبره الغزيون، لكن ما شجّعه هو شقيقه الذي قضى شهر رمضان وعيد الفطر حين جاء من روسيا مع عائلته، كما يقول لـ”نون بوست”.
يقول إن أول شيء طلبه من أمه قبل وصوله إلى البيت هو تجهيز السماقية التي بقيَ يشتهيها لسنوات طويلة، رغم محاولات تطبيقها حيث يقيم لكن ليست كما تصنعها أمه، مضيفًا: “هذه المرة كل الطقوس التي كان إخواني يرسلونها بفيديو عبر واتساب سأشاركهم فيها، عدا عن أني اصطحبت أبنائي إلى البسطات الشعبية لشراء الملابس كما كنت أفعل وأنا صغير”.
ويخبر أبو صالح أنه سيحرص على أن يكون أولاده برفقته خلال زيارات العيد، ليتعرّفوا إلى العائلة والعيدية وكل الطقوس التي حُرموا منها في الخارج، رغم قيام الجاليات العربية والإسلامية بالاحتفال بالأعياد في أوروبا وأمريكا، إلا أنها ليست كما بين الأهل والأصدقاء وفي بلده.
كما تتجهّز مطاعم غزة لاستقبال المواطنين، فهي بالأعياد تكتظّ بهم، ما يدفع القائمين على المطاعم إلى تحضير كميات أكبر من الطعام والولائم، والتجهيز مسبقًا لاستيعاب الأعداد الكبيرة من الزبائن.
الأضاحي وشحذ السكاكين
من المعروف أن سعر الأضاحي في فلسطين الأعلى تقريبًا على مستوى الوطن العربي، فكيف لو كانت الأسعار لا تتناسب مع رواتب موظفين بالكاد تسدّ رمقهم، لكن مع ذلك يحافظون على أداء تلك الشعيرة، وما يسهّل عليهم ذلك هو توفُّرها بالتقسيط لتصل إلى 600 دولار حصة العجل.
وفي أوقات كثيرة، العوائل التي تضحّي لديها أبناء يعيشون في الخارج، يرسلون المال لشراء الذبائح، لكن هذا العام الوضع مختلف، حيث العشرات من المغتربين عادوا للاحتفال بعيد الأضحى مع أسرهم بعد غياب طويل.
بكل التفاصيل يشارك المغتربون بالاستعداد لاستقبال العيد، لدرجة أنهم يحفظون طريق من يشحذ السكاكين لتقطيع اللحوم بسهولة، فأصحاب تلك المحال بالكاد يأتون بقوتهم بالأيام العادية، لكن ينتظرون عيد الأضحى لسدّ احتياجاتهم وشراء مستلزمات العيد.
يقول كمال يونس الذي شارك بحصة عجل مع إخوانه: “وأخيرًا سأكون حاضرًا وسط عائلتي لتوزيع الذبيحة على الأهل والجيران، بدلًا من الفيديوهات التي كانت ترسَل لي عبر واتساب، ودومًا كنت أشعر بالحسرة بسبب الحواجز وصعوبة الوصول للاحتفال معهم”.
وتابع: “لأول مرة سيأتي أبنائي لصلاة العيد مع جدهم وأعمامهم، وسيفهمون معنى التزاور وصلة الأرحام، وسيلهون في الشارع على المراجيح الشعبية البسيطة، فكل شيء كنت أعيشه في صغري سيجرّبه أبنائي، وسيكون لهم ذكرى تربطهم بالأقارب”.
ويحكي أن أكثر مشهد أفرحه حين شاهد ابنته التي لم تتجاوز الـ 10 أعوام وهي تشارك جدّتها في إعداد الكعك، فتلك التفاصيل لا يحسّ بقيمتها من يعيشها بخلاف من يرحل ويبقى متلهّفًا لأبسطها.
وبعد أن ينهي أهالي القطاع تجهيزات استقبال عيد الأضحى، يبدأون بشراء زينة جديدة والهدايا التي سيقدمها الحجاج للمهنئين بعودتهم من السعودية، عدا عن حجز فِرَق المديح النبوي.