لعل آخر ما تخيّلته أميرة، 25 عامًا، بنت رجل الأعمال المعروف، أن تقضي أيام الأعياد على الطريق بين سجن الزقازيق، حيث زوجها المعتقل، وبيتها الذي يبعد عنه أكثر من 120 كيلومترًا.
للعيد الرابع على التوالي، تقضي الزوجة الشابة التي لم تنعم بزواجها أكثر من عامَين ونصف، ليلةَ العيد وهي تعدّ الطعام الذي يحبه زوجها لتقديمه له خلال زيارة أول أيام العيد، حيث تمكث منذ عشاء يوم الوقفة وحتى فجر العيد وهي تحضّر الزاد المطلوب، طعام وحلوى وبعض الهدايا.
“لا يمكن أن أشعر بالعيد إلا حين أسمع منه شخصيًّا عبارة “كل سنة وأنت طيبة”، هنا فقط يكون العيد قد بدأ”، بهذه الكلمات بدأت الفتاة الشابة حديثها الذي تخنقه أوجاع الألم والحسرة على زهرة شباب زوجها التي تذبل بين جدران سجن وسوط جلّاد، وزهرة شبابها هي الأخرى وهي تقضي أجمل أيام عمرها متنقلة بين سجن وآخر، لهثًا خلف شاب لا يعرف أحد جريمته حتى اليوم.
مرارة السجن لم تعد حكرًا على من هم خلف القضبان الحديدية والجدران الأسمنتية فحسب، بل إن ذوي هؤلاء يشاركونهم الألم والوجع، معاناة لم يتذوق علقمها سوى من عايشها، حيث الثواني التي ترتدي ثوب السنين، والألم الذي يحتاج إلى أعمار وأعمار حتى يلتئم.
وفي الوقت الذي ينعم فيه الجميع -وهو المعتاد والمنطقي- بفرحة العيد، وممارسة طقوسه الاحتفالية، هناك من يقضي تلك الأيام على أسرّة الوجع والحسرة، كل أحلامهم رؤية ذويهم المعتقلين، لا مشكلة لديهم في دفع الغالي والنفيس، وقطع مئات الكيلومترات ولو على الأقدام، لأجل أن يعطّروا أعينهم وأيديهم بنظراتهم ولمساتهم ولو عبر الأسلاك الشائكة.
أكثر من 60 ألف أسرة تستقبل العيد بين وجعَين، وجع فراق الأهل داخل السجون، ووجع الوصول إليهم والالتقاء بهم، وبين الوجعَين رحلة طويلة من الإهانة وهدر الكرامة واغتيال الإنسانية، يدفع ثمنها وطن بأكمله، يقضي على خيرة شبابه داخل كهوف مظلمة ومقابر متحركة.
رحلة من المعاناة
“تبدأ رحلة المعاناة مع مغرب يوم الوقفة، حيث إعلان حالة الطوارئ في البيت، محاولة منا لإضفاء البهجة على المنزل والأطفال بصفة عامة، ولمَ لا ونحن سنلتقي الابن والحبيب صبيحة اليوم التالي؟”، تشرح فاطمة استعداداتها كأمّ ذاهبة لقضاء أول أيام العيد إلى جوار ولدها المعتقل.
وتضيف فاطمة لـ”نون بوست”: “لا أستطيع وصف الحالة التي يكون عليها البيت ليلة العيد، مزيج بين الفرحة والحسرة، الأمل والألم، المنحة والمحنة، نتحرك بخطوات متسارعة لتجهيز الطعام الذي يحبه ولدي عبد الرحمن، فهو يحب المحشي واللحوم المحمّرة، كما أن زملاءه في السجن يحبون طعامي الذي اعتادوا عليه خلال العامَين الماضيَين”.
وتتابع: “نسهر أنا وزوجته أميرة طيلة الليل نجهّز الطعام والحلوى التي يحبها من يد زوجته، وبعض المشروبات الباردة الأخرى، بجانب مستلزمات النظافة الشخصية كالصابون وماكينة حلاقة ومعجون أسنان، وغير ذلك من الأشياء التي في الغالب يرفضون إدخالها له”.
وما أن يشقشق ضوء الفجر، وينتهي البيت من أداء الصلاة، يتحرك الركب، وتشدّ الرحال إلى سجن الزقازيق العمومي، تذهب الأم والزوجة وحدهما برفقة سيارة يملكها جار لهما، وصديق ابنهما المعتقل، ويستغرق الطريق أكثر من 100 كيلومتر من المنزل حتى السجن، معظمها طرق غير ممهّدة، بين الزراعي والترابي وصولًا إلى الطريق الممهّد على مشارف مدينة الزقازيق.
وتصل السيارة في الغالب في تمام الساعة السابعة صباحًا، ليجدوا ساحة الانتظار الخاصة بالسجن أمام البوابة الرئيسية مكتظة بمئات الزوار من كافة الأعمار، كلهم جاؤوا ليقضوا أول أيام العيد برفقة ذويهم المحبوسين، جنائي كان أو سياسي.
“لا يمكننا التأخر عن الساعة التاسعة صباحًا وإلا لن يسمحوا لنا بالدخول”، تقول زوجة عبد الرحمن التي بدا عليها التأثر، وهي تحكي عن أصعب محطة في رحلة المعاناة من بوابة السجن الرئيسية وحتى مكان الزيارة.
وأد ممنهَج للإنسانية
تقول أميرة: “منذ الوهلة الأولى التي نطأ فيها بأقدامنا السجن نسمع سبابًا جماعيًّا من أفراد الأمن المتواجدين، نعم الأعداد كبيرة وصعب السيطرة عليها، لكن لا يكون التعامل مع الأهالي بتلك الكيفية، فلا أستطيع وقف دموعي وهي تنزل مني بينما أنا أتعرض للإهانة، وأنا المعززة في بيت أهلي وزوجي”.
أما عن التجاوزات التي تحدث أثناء تفتيش السيدات عند الدخول فحدّث ولا حرج، تفتيش ذاتي أقرب إلى التحرش من قبل بعض أفراد الأمن غير المؤتمنين، ولا تستطيع المرأة أن تعترض وإلا ستُمنَع من الزيارة، ومن هنا ترضخ وتتجاوز هذا الأمر من أجل الظفر بلقاء الابن أو الزوج أو الأخ، هكذا تضيف الزوجة المكلومة.
ومن زاوية أخرى، هناك بعض أمناء الشرطة على الأبواب يرفضون دخول الأهالي دون رشوة، أو كما يسمّونها “عيدية”، فيضطر الجميع لتقديم العيديات قهرًا وظلمًا لأجل السماح لهم بالدخول، ولذا فقد تتجاوز كلفة الزيارة الواحدة أكثر من 3 آلاف جنيه، وفي العيد الأمر قد يكون مضاعفًا بسبب الازدحام وكثرة الزوار.
وعلى الظهيرة يكون اللقاء لمن كتب الله له ووفقه في الدخول والحصول على إذن الزيارة، حيث يلتقي المعتقل مع أهله من وراء سلك شائك، بينما القليل منهم من يُمنَح اللقاء مباشرة، وهم قلة على كل حال، ولم يسفر اللقاء عن نصف ساعة على أقصى تقدير، لكنها نصف ساعة بالعمر كله.
“ورغم كل تلك المعاناة والمشقة، والكلفة المادية والمعنوية، والإهانات النفسية المدمِّرة، إلا أن لقاء ابني عندي يساوي الحياة كلها، في لحظات أنسى كل ما تعرضت له، وفي كثير من المرات يرزقني الله بعسكري رحيم يرأف بحالي ويجلسني على كرسي منفصل ويرافقني حتى انتهاء الزيارة، لكن تبقى رؤية عبد الرحمن ولمس يديَه نعمتي الوحيدة الآن، وأملي الذي أدعوا الله ألا يفارقني أبدًا”، هكذا أنهت أم عبد الرحمن حديثها، محاولةً إخفاء دموعها التي غمرت وجنتَيها.
فرحة رغم الوجع
وعلى الجانب الآخر، يحاول المعتقلون رغم الألم الذي يعتصر جنباتهم، إدخال السرور والفرحة على نفوس ذويهم، فقد يحرمون من العلاج والتريُّض، ويعانون من الإهمال الطبي، ويفقدون أدنى حقوقهم التي كفلها لهم القانون طيلة العام، لكن في العيد ينسلخون مؤقتًا عن حالهم الممتد طيلة تلك الأشهر، لإيصال رسالة تفاؤل وأمل لمحبيهم من الأمهات والآباء والزوجات والأبناء.
كما يحرص عدد من المعتقلين كل عيد على توفير الهدايا والألعاب من أجل تقديمها للأبناء حين زيارتهم أول أيام العيد، حيث يصنعونها بطريقة بدائية من أوراق المناديل وصابون الغسيل والفلين والخرز والخيوط التي يتم تهريبها، بحسب شهادات بعضهم لـ”الجزيرة“، إضافة إلى شراء ألعاب بسيطة يبيعها لهم جنائيون استطاعوا إدخالها إلى السجن.
وفي الوقت ذاته يحاولون الظهور بمظهر لائق يتناسب والعيد، حيث ارتداء الملابس النظيفة التي يتم كيّها بطرق بدائية، بجانب الاهتمام بالنظافة الشخصية وحلاقة الذقن والشعر وقصّ الأظافر، فضلًا عن التعطُّر ببعض الأنواع المهرَّبة من الخارج، والتي في الغالب تكون مملوكة لمساجين جنائيين، فمن الصعب جدًّا أن يستطيع سجين سياسي تهريب أي من تلك المواد في ظل الرقابة المشددة عليهم مقارنة بغيرهم.
وهكذا لم يعد العيد ذاك اليوم المخصص للفرح والسعادة والسرور ولمّ شمل الأسرة، كما تقرّه الأديان والشرائع والقوانين، فهو لدى البعض مناسبة للوجع وحملة معاناة تضاف إلى معاناة العام كله، مناسبة جديدة لمزيد من الانتهاكات وفرصة سانحة لإخضاعهم للابتزاز المادي والروحي، لكن كل ذلك سرعان ما يتلاشى مع أول نظرة تلتقي فيها عين السجين وأهله، حينها تسقط كل الجرائم الإنسانية على أعتاب الأمل الضئيل الذي يحيا به الأهالي حتى اللقاء الجديد، وبين هذا وذاك سنوات تمرّ وأعمار تتلاشى والجريمة مجهولة.