لم تتردد الأرملة أسماء الطاحش – 46 عامًا -، التي تسكن مدينة الأتارب غربي حلب، في تزويج ابنة أخيها المتوفي رغم عدم تجاوزها سن الـ14 عامًا، سعيًا منها للحد من حال معيشتها المتردي، وجعل حياتها الاجتماعية والعاطفية أكثر استقرارًا، على حد قولها.
تقول الطاحش متحدثة لـ”نون بوست” إن بعد وفاة زوجها في ريف حلب الجنوبي إثر قصف جوي للنظام السوري منذ 6 سنوات، ورحيل والديها منذ 3 سنوات نتيجة تقدمهم بالعمر، وزواج أخوتها الأربع الذين يسكنون مدينة حلب الخاضعة لسيطرة النظام السوري، لم يتبق إلا هي وولديها التوأم – عمار وياسر (14 عامًا) -، وأولاد أخيها الذين تخلت عنهم والدتهم رغبةً منها بالزواج، لتصبح الكفيلة الوحيدة لهؤلاء الأطفال.
تؤكد الطاحش أن منزل والدها الذي تسكن فيه لم يعد يحتمل أفراد العائلة، فقد بدأت ابنتا أخيها (قمر 14 عامًا وأميرة 12 عامًا) تكتمل بنيتهما الجسدية، الأمر الذي جعلها أمام مسؤولية كبيرة في كيفية حمايتهما وتأمين مستلزماتهما من الثياب ومتطلبات الحياة، وسط انعدام لأي عمل من أفراد عائلتها واعتمادهم على المساعدات الغذائية الشهرية والمالية المتقطعة.
وأوضحت أن ابنتي أخيها تشعران بالنقص في تأمين أبسط حقوقهن وهي ارتداء ثياب جميلة أو امتلاكهنّ هاتف محمول أو حتى تصفح الإنترنت أو مشاهدة التلفاز، لعجزهم عن تركيب شبكة إنترنت وتأمين ساعة كهربائية تبلغ تكلفتها 50 دولارًا أمريكيًا، فضلًا عن انقطاعهن عن الدراسة بداعي الحرب والنزوح، فكان الزواج “فرصة للخلاص من المعاناة”، وفق قولها.
دفعت الحرب في سوريا الكثير من الأهالي لتزويج أبنائهم وبناتهم في سن مبكرة لأسباب عدة، أهمها الواقع الأمني السيئ والنزوح والعادات والتقاليد، إضافة لغياب التوعية وتراجع التعليم، وفقًا للأمم المتحدة.
وترى الطاحش أن قرارها لم يكن سيئًا بعد أن ظهرت نتائجه، حين بدت مظاهر النعمة على قمر بلباسها الجديد وهاتفها المحمول والدراجة النارية التي تأتي بها مع زوجها لزيارتهم.
تسترسل الطاحش وهي تلوح بيدها مبتسمة “لقد أصبح لدى قمر منزلًا وصار بوسعها أن تعطي ثيابها التي لا ترغب بها إلى أختها أميرة، فضلًا عن أنها باتت سندًا – بعد زواجها – لأختها الصغيرة”.
الجانب المر
لكن زاوية الموضوع مختلفة تمامًا عند قمر التي تزوجت من الشاب محمد الرامي – 18 عامًا – الذي يعاني من اعتلال عصبي في الدماغ، فقد وصفت علاقتها بزوجها بـ”الصعبة والمتعثرة”، فهو شديد العصبية والصراخ، “أكابر على حياتي بالصبر معه حتى لا أغدو مطلقة ولم أتجاوز الخامسة عشرة من عمري” بحسب قمر.
تبلغ قمر اليوم، السادسة عشر من عمرها وتقول: “أعدّ نفسي محظوظة، لأنني تزوجت في هذه السن، فمعظم صديقاتي في الحي تزوجن بهذه السن، إذ يقولون لكل فتاة تجاوزت الـ18 ولم تتزوج بعد، كلمة عانس أو فاتك القطار”.
تناضل اليافعة قمر هذا العام من أجل الاستمرار في تعليمها، لتساعد زوجها على تأمين مستلزمات حياتهما، مؤكدةً أنها مقبلةً بعد أيام على موعد تقديم امتحان الشهادة الأساسية “التاسع”، وتعود إلى حياتها، مع انتهاء الامتحانات، بعدها، ستبدأ بالتحضير للشهادة الثانوية، لتكمل دراستها الجامعية، وتصبح معلمةً، كما قالت، مشيرةً إلى أن طموحها قد يتحقق يومًا ما، بعد أن كان حلمًا منذ صغرها، وفق قولها.
تشبه قمر حياتها الزوجية بـ”قصة الكفاح”، وأن “إرضاء الزوج يعني أن أحصل على ما أريد من أمنيات حُرمت منها في بيت جدي وعمتي أسماء”، وفق وصفها.
دوامة من المشكلات
يُشير تقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، إلى أن زواج الأطفال يعد انتهاكًا لحقوق الإنسان، فيما يؤكد التقرير أن أحد أهم أسبابه الفقر وانعدام المساواة بين الجنسين، كما يهدد هذا الزواج أرواح وصحة الفتيات، ويقيد آفاق مستقبلهن.
وخلال سنوات الحرب الـ12 زادت معدلات الفقر وبات ملايين السوريين يعيشون في خيام على حدود سوريا، حيث تتفاقم ظاهرة زواج القاصرات في مخيمات النزوح في شمال سوريا.
تمنع السيدة فاطمة الرواي النازحة من مدينة تلبيسة بريف حمص وتسكن في مخيم “الأمل” قرب الحدود التركية، بناتها من أن يذهبن إلى المدرسة بحكم أن المدارس بعيدة، وتؤكد في حديثها لـ”نون بوست” أن أكبر همها تأمين متطلبات الحياة الأساسية، مشيرةً إلى أنها زوجت ابنتها سعاد البالغة من العمر 17 عامًا العام الماضي، لأن الرجل الذي تقدم لها ميسور الحال، بهدف مساعدتها على الابتعاد عن الحياة داخل هذه الخيام التي لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء.
وتلجأ الكثير من العائلات أو تضطر لتزويج بناتها في سن صغيرة، لـ”تأمين مستقبلهن” في ظل الحرب، فازدادت نسبة زواج القاصرات في مخيمات النزوح بشكل كبير.
مخاطر الزواج المبكر
يؤكد الطبيب محمد الفيصل أن زواج الفتاة تحت سن الـ20 يتسبب بأمراض جسدية كثيرة أهمها سوء التغذية ونقص الوزن بعد الولادة، وتأخر النمو البدني عن أقرانهن، بالاضافة إلى اضطرابات في الدورة الشهرية وتأخر حدوث الحمل.
يكمل الفيصل حديثه لـ”نون بوست” قائلًا: “وفي حال حدوث الحمل، فإن ذلك يؤدي لازدياد نسبة الاختلاطات المرافقة مثل الإقياءات الحملية والإجهاض، وكذلك الولادة القيصرية، كما تسهل إصابتهنّ بالأمراض والالتهابات التناسلية، الأمر الذي قد يتطور إلى أمراض خطيرة بمرور الوقت”.
ويؤكد أن معظم من يقبلون على الزواج في شمال سوريا، لا يجرون التحاليل المخبرية المطلوبة منهم، فضلًا على أنهم لا يراعون عدم نضوج جسد الفتاة واكتمال نموها قبل الزواج.
أمّا الأثار النفسية التي قد تترتب على زواج تلك الفتيات، تستشهد المرشدة الاجتماعية أمينة الصاوي بقصة “قمر” التي رويناها لها، بأن هذه الفتاة تكابرعلى نفسها اليوم في إرضاء زوجها لتحقيق ما حرمت منه في أثناء عزوبتها، وهو علميًا “ضغط نفسي”، مسترسلةً بقولها: “معظم هؤلاء الفتيات يأخذن فكرة الزواج على أنه مرحلةً يجب تحقيقها لا أكثر، دون النظر إلى خطورة الأمر، ما يُخلف أزمات نفسية كثيرة”.
وتذكر الصاوي تلك المشكلات في صعوبة استيعاب فكرة الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المسؤولية، خاصةً في حالة الحمل، فمن غير المنطقي أن تربي طفلة طفلها، وفي حال عدم فهمها للأمر أو عدم تحملها فقد يتسبب الأمر بالطلاق.
خلال إعداد هذا التقرير التقينا بالشيخ عبد الوهاب طلحة الذي أكد لنا أنه لا يمضي يوم إلّا وتسجل حالة طلاق بسبب قلة فرص العمل وانشغال الرجال بزوجاتهن والفقر، بالإضافة إلى عدم قدرة هؤلاء الشبان على الالتزام بمسؤولية المنزل وتأمين متطلباته.
ما الحلول؟
يرى الناشط والمدرب في مؤسسة بدائل عبد الإله الرمضان أن توعية العوائل بمخاطر هذا الزواج أنسب الخيارات، وفق قوله، بالإضافة إلى ملء جدران المؤسسات والمرافق العامة بمنشورات تُحذر من هذا الأمر، كما دعا إلى تنظيم جلسات توعوية في المدارس لتوعية جميع طلاب العلم بخطورة هذه الظاهرة ونتائجها.
فيما يؤكد الباحث السوري أحمد مظهر سعدو، في حديثه لـ”نون بوست”، أن ظاهرة زواج القاصرات حالة اجتماعية قديمة وليست وليدة اليوم، لافتًا إلى أن هذه الظاهرة منتشرة بكثرة في المجتمعات الريفية السورية ويفعلونها منذ مدة طويلة، لكن اليوم ومع ازدياد حالات العوز المعيشي وقلة الحيلة وفقدان الأب المعيل نتيجة المقتلة الأسدية المستمرة فإن هناك الكثير ممن يدفع باتجاه تفشي هذه الظاهرة.
ويرى سعدو أن موضوع الوعي الصحي وإشاعته بين الناس مع الوعي الاجتماعي إضافة إلى العمل على رفع المستوى المعيشي الذي يعاني منه السوريون، يمكن أن يحقق بعض الانفراجة في سياقات حل هذه المشكلة أو الإقلال منها.
وشدّد الباحث على ضرورة إعادة تأهيل الأنساق المجتمعية بما يتناسب مع العصر الحديث، بالإضافة إلى زيادة التوعية الدينية التي تحض على عدم زواج القاصرات، عسى أن يساهم كل ذلك في إعادة إنتاج مجتمع سوري جديد يدرك مدى خطورة زواج القاصرات على المجتمع برمته وانعكاسات ذلك على الأسرة السورية بشكل عام، إذ لا يمكن لطفلة أن تربي طفلة أصغر منها بأي حال من الأحوال.
أما الناشط رامي بكور فيرى أن الحلول تتركز على الاهتمام بالجانب التعليمي للأطفال، بالإضافة إلى النظر في حال الأسر الفقيرة وتأمين احتياجاتهم وتعدد المدارس المجانية في مخيمات الشمال السوري، الذي يشهد تفاقمًا لهذه الظاهرة، من أجل توعيتهم منذ نعومة أظافرهم بمخاطر هذه القضية.
لكن الناشط في المركز المدني بالأتارب جميل العفان يرى أن الحالة التعليمية ليس لها تأثير، لأن كثيرًا من المتزوجين لا يتبنون ثقافتهم التي يتلقونها في حياتهم الزوجية، بل تحكمهم العادات والتقاليد، لافتًا إلى أن الحد من هذه الظاهرة يعود لمنظمات المجتمع المدني التي قد تحد من زواج القاصرات، من خلال رفع السوية الفكرية والثقافية للعائلات، والتوعية بمخاطر هذا الزواج.
يشار إلى أن الحرب في سوريا فاقمت هذه الظاهرة لأسباب عدة، بحيث ارتفعت نسبة عدد الزيجات المعقودة لقاصرات من 7 إلى 30% عام 2015، بحسب تقرير أعده المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية.