ترجمة حفصة جودة
بعد منتصف ليل يوم 14 يونيو/ حزيران، غرق زورق يحمل 750 شخصًا بينهم العديد من الأطفال قبالة ساحل بيلوس في اليونان، والآن بعد عدة أسابيع ما زال معظم ركابه مفقودين، أما الـ 100 الناجين فعالقين في مخيم مالاكاسا في اليونان، حيث الحريات المحدودة وانعدام المساعدة النفسية.
قبل غرق المركب بفترة، تحديدًا منذ الساعة 9:47 صباح يوم 13 يونيو/ حزيران، كان الزورق شديد الازدحام تحت مراقبة وكالة أمن حدود الاتحاد الأوروبي “فرونتكس”.
في بيان أصدرته الوكالة عن غرق المركب، قالت “إنها مصدومة وحزينة بسبب الأحداث المأساوية التي وقعت عند ساحل اليونان”، لكنها رفضت تحمُّل اللوم على ما حدث.
قالت “فرونتكس” إنها زودت السلطات اليونانية بالمعلومات حول حالة الزورق وسرعته فورًا، بعد أن حددت موقعه داخل منطقة البحث والإنقاذ اليونانية في المياه الدولية، لكنها لم تعلق على سبب امتناع خفر السواحل اليوناني أو سفينة “فرونتكس” عن إنقاذ الزورق فورًا، بل حاولت إلقاء اللوم على المهربين لفقدان مئات الأرواح.
وقالت “فرونتكس”: “إن المهربين يعبثون مرة أخرى بأرواح البشر، إننا نشعر بالأسف لعائلات الضحايا”.
ما فعله خفر السواحل اليوناني برفضه الصريح إنقاذ الزورق يخضع للتحقيق الآن، لكن هناك أيضًا تساؤلات حول دور “فرونتكس” من عدمه في عملية الإنقاذ، فقد اعترفت أنها راقبت القارب المنكوب لمدة ساعات قبل أن يغرق في الماء.
تعدّ “فرونتكس” من أفضل الوكالات تمويلًا في الاتحاد الأوروبي بميزانية وصلت إلى 823 مليون دولار عام 2022، ومع ذلك كما قال تقرير هيومن رايتس ووتش عام 2021، فشلت مرارًا وتكرارًا في حماية الناس من انتهاكات حقوق الإنسان على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي.
تفضّل “فرونتكس” استخدام كلمة “عودة” بدلًا من “ترحيل” عندما نتحدث عن عشرات آلاف الناس الذين تخرجهم من أراضي الاتحاد الأوروبي كل عام.
في يوم المأساة، وبينما كان الناس على الزورق يرسلون استغاثات يائسة لهاتف الطوارئ (Alarm Phone)، كنت مع مجموعة من الباحثين والصحفيين في مقرات “فرونتكس” بمدينة وارسو في بولندا، كانت الزيارة جزءًا من ندوة Border in Focus، والذي نظمته ZEIT-Stiftung Ebelin und Gerd Bucerius في هامبورغ ضمن برنامج المنحة الدراسية Beyond Borders.
بعد دخول المبنى الزجاجي الطويل حيث تقع وكالة “فرونتكس”، ذهبنا إلى غرفة اجتماعات في الطابق الـ 14 لمقابلة ممثلي “فرونتكس”.
لاحقًا علمنا أن غرفة العمليات التي كان المديرون التنفيذيون في “فرونتكس” يراقبون منها مأساة البحر المتوسط، تقع تحت الغرفة التي كنا فيها بعدة أدوار، كان مضيفونا على الأغلب يعلمون بالأمر، ومع ذلك خلال الاجتماع الذي امتدَّ ساعتَين لم يذكروا أبدًا الكارثة الجارية.
بدلًا من ذلك، أخبرونا عن العديد من المفاهيم الخاطئة لدى الناس بشأن الوكالة، والتي ترجع إلى قلة البحث والفهم.
قال مضيفونا أيضًا إن الكثير من الناس (ومن بينهم أفراد في تلك الغرفة) يستخدمون المصطلحات الخاطئة عندما يتحدثون عن أنشطة “فرونتكس”، بسبب قلة معرفتهم أو جهلهم بشكل عام.
فعلى سبيل المثال، قيل لنا إننا يجب أن نستخدم كلمة “عودة” بدلًا من “ترحيل” عندما نتحدث عن عشرات آلاف الناس الذين تخرجهم “فرونتكس” من أراضي الاتحاد الأوروبي كل عام.
قيل لنا أيضًا إننا يجب ألّا نقول إن عملاء “فرونتكس” فوق القانون، بسبب وجود اتفاقات لحمايتهم من المحاكمة في أي دول خارج الاتحاد الأوروبي، فقد قال المضيف موضّحًا إن المحاكم الأوروبية أفضل بكثير من محاكم الدول الأخرى، وذلك قبل أن يقدّم لنا محاضرة عن المعايير الأوروبية وحقوق الإنسان.
كان عرض الوكالة بأكمله يدور حول المقولة المأثورة للبطل الخارق في “مارفل”، الرجل العنكبوت: “مع القوة العظمى تأتي المسؤوليات العظيمة”، حيث قرر أحد مسؤولي “فرونتكس” الحديث عن جميع مناقب المنظمة المفترضة، مكررًا هذا الشعار عدة مرات خلال هذا الاجتماع القصير.
تستطيع “فرونتكس” التواجد بسهولة في تلك المناطق وحماية الناس الذين يذهبون هناك، لكنها اختارت ألّا تفعل شيئًا.
بالطبع، لا يوجد ما يشير إلى أن “فرونتكس” تبذل أي جهد حقيقي، لاستخدام تلك القوة التي تملكها مع عشرات آلاف المستضعفين بكل مسؤولية.
في الحقيقة، عندما كنا نستمع إلى حديث ممثلي “فرونتكس” المتهكم عن المفاهيم الخاطئة، وكلامهم المنمّق عن القوة والمسؤولية، كان البحر المتوسط يبتلع الناس ببطء، وربما لم يكونوا الأشخاص الوحيدين الذين يموتون تحت نظر الوكالة.
على سبيل المثال، أثناء اجتماعنا في وارسو، نشرت ناشطة في صربيا -حيث تنشط الوكالة بشدة- منشورًا على فيسبوك عن مقتل شخص مجهول -يُفترض أنه لاجئ- على قضبان القطار، قرب الحدود الصربية مع بلغاريا.
وفقًا للناشطة الصربية ووسائل الإعلام، فإنه حدث شائع، وقد قالوا إن السلطات كثيرًا ما تجد جثثًا في تلك المنطقة الحدودية وتدفنهم بشكل مجهول دون أن تحاول حتى اكتشاف هويتهم، تستطيع “فرونتكس” التواجد بسهولة في تلك المناطق وحماية الناس الذين يذهبون هناك، لكنها اختارت ألا تفعل شيئًا.
في يوم 13 يونيو/ حزيران أيضًا، وبينما كان الزورق يغرق ببطء قبالة السواحل اليونانية تحت مراقبة عملاء “فرونتكس”، دُفن رجل أفغاني في مدينة توزلا البوسنية، كان الرجل قد مات أثناء محاولته عبور النهر الذي يفصل البوسنة عن كرواتيا، وقد حظيَ بجنازة فقط لأن شقيقه نجا من الحادث ووجد جثته، بمساعدة المتطوعين من كلا البلدَين.
لكن الكثيرين الذين فقدوا حياتهم أثناء محاولة عبور النهر لم يكونوا محظوظين، حيث تمتلئ القرى الحدودية للبوسنة بمقابر مجهولة للأشخاص الذين ماتوا أثناء محاولتهم العثور على حياة أفضل وأكثر أمانًا في الاتحاد الأوروبي.
لم يتحدث ممثلو “فرونتكس” عن أي من تلك المآسي أثناء الاجتماع، فبينما كانوا يتحدثون عن القوة والمسؤولية، لم يهتموا بمناقشة المسؤوليات العظمى للوكالة تجاه الأشخاص الذين تحاول بكل قوة إبعادهم عن حدود الاتحاد الأوروبي.
إذا بدأت وكالة أمن الحدود العظيمة بتطبيق مواعظها، واستخدام قوتها بمسؤولية، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتحول إلى جنة حقيقية لكل المحتاجين.
تملك “فرونتكس” -والحكومات التي تمولها- أدوات هائلة، إذا اُستخدمت بمسؤولية فيمكنها أن تمنع تحول البحر المتوسط إلى مقبرة جماعية لهؤلاء المحرومين من الدخول الآمن إلى الاتحاد الأوروبي.
إذا كانوا يؤمنون بالمسؤولية، فإن مئات الملايين التي تنفقها الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على بناء الجدران والمراقبة وتحويل أوروبا إلى حصن منيع، كانوا لينفقوها للمساعدة على إنشاء عالم يستطيع الجميع أن يعيشوا فيه آمنين وبكرامة.
إذا كانوا يؤمنون بالمسؤولية، فبدلًا من تقديم المزيد والمزيد من الإجراءات المروعة لردع الأشخاص غير المرغوب فيهم من الوصول إلى الاتحاد الأوروبي، كانوا سيركزون على إنقاذ الأرواح.
إذا كانوا يؤمنون بالمسؤولية، فبدلًا من دفع اللاجئين إلى المواقف الخطيرة أو تركهم يغرقون في عرض البحر أو يضيعون في الغابات، كانوا سيعملون على إنهاء تلك الظروف التي تجبر هؤلاء الناس على القيام بتلك الرحلات الخطيرة في المقام الأول.
لكن للأسف، هؤلاء الأشخاص في موقع السلطة لا نية لديهم للتصرف بمسؤولية، لقد أصبح تجريم الهجرة أمرًا طبيعيًّا، والقتال المستمر ضد من يطلقون عليهم “غير شرعيين” و”إرهابيين محتملين” و”مغتصبين”، مجرد مبرر للمزيد من تحصين الاتحاد الأوروبي.
لا حاجة لأن يتم الأمر بهذه الطريقة، فإذا بدأت وكالة أمن الحدود العظيمة بتطبيق مواعظها، واستخدام قوتها بمسؤولية، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتحول إلى جنة حقيقية لكل المحتاجين، ومكان تصبح لأرواح البشر فيه قيمة أكبر من الحدود والوثائق وأعداد الهجرة المتدنية.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية