لساعات قليلة، هبطت جورجيا ميلوني في تونس لمقابلة الدكتاتور قيس سعيد. وبعد حوالي أسبوع؛ عادت رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتطرفة، جالبة معها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس الوزراء الهولندي مارك روته، والتقطوا صورًا مليئة بالابتسامات بينما كان سعيّد ينفث دخان سيجارته مسرورا، بعد مؤتمر صحفي من دون صحفيين.
ما الذي أتوا للحديث عنه؟
ليس تجريف مضيفهم للمؤسسات الديمقراطية في بلاده، ولا المحاكمات السياسية أو القائمة المتزايدة من المعارضين في السجون. كان البند الوحيد على جدول الأعمال هو الهجرة؛ صداع أوروبا المزمن. حيث عُرض على سعيد 105 ملايين يورو، مقابل تحويل بلاده إلى مركز احتجاز ضخم في الهواء الطلق لشعبه والمهاجرين الأفارقة الذين يمرون عبره.
بعبارة أخرى؛ كل ما فعلته أوروبا هو تبني نهج اليمين المتطرف تجاه تونس. طالما أن حاكمها المستبد يُبقي قوارب المهاجرين بعيدة، يمكنه أن يفعل ما يشاء باسم السيادة الوطنية.
وهذا الأسبوع؛ رحب الرئيس ماكرون بالدكتاتور التونسي الجديد بذراعين مفتوحين في قمة ميثاق التمويل العالمي الجديد في باريس التي تعقد يومي الخميس والجمعة 22-23 حزيران/يونيو.
في غضون ذلك؛ تغرق البلاد في هاوية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتداخلة. في وقت سابق من هذا الشهر؛ خفضت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني التصنيف الافتراضي لمصدر العملة الأجنبية طويل الأجل (IDR) لتونس من “CCC +” إلى “CCC-“، مما يشير إلى انحدارها الكارثي نحو الإفلاس. لكن هذه التحذيرات لا تعني الكثير لقيس سعيد، المنشغل بتكديس السلطات لا غير.
الخطاب الشعبوي
سعيِّد؛ بعد عامين من التذرع بحالة الاستثناء، وحل البرلمان بشكل غير قانوني، ووضع دستور جديد مفصل حسب الطلب، في طريقه إلى استبدال التحول الديمقراطي الذي مكنه من الوصول إلى السلطة، باستعادة الديكتاتورية. تستهدف مؤسسات سيادة القانون – مثل القضاء – وتُستغل في مواجهة الخصوم والنقاد السياسيين. ويُستخدم قانون جديد للجرائم الإلكترونية وقوانين مكافحة الإرهاب لقمع الأصوات الحرة للصحفيين والمحامين والنشطاء وحتى المواطنين العاديين.
كان رد النظام الوحيد على الأزمة الاقتصادية المتفاقمة الانخراط في خطاب شعبوي قائم على صراع مانوي بين “الشعب” وعدد كبير من الأعداء، داخليين أو خارجيين، سواء كانوا من النخب السياسية والنقابات أو المهاجرين أو المؤسسات المالية الدولية.
يرى المزيد والمزيد من التونسيين أن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ، فحوالي 80 بالمئة قاطعوا الاستفتاء العام على الدستور الجديد الذي قدمه سعيد، وصاغه بمفرده ليحل محل دستور 2014 الذي قبله أكثر من 90 بالمئة من نواب الشعب، وكذلك الانتخابات التشريعية الأخيرة، الذي شارك فيها 11 بالمئة فقط من التونسيين رافضين البرلمان الذي يخلو من أي سلطة رقابية، وغير الممثل لشعبنا.
إن الغضب الشعبي واضح، وهناك شعور متنام بأن تجاوزات سعيد الاستبدادية لم تؤد إلا إلى تفاقم الأزمات دون معالجتها بجدية على الإطلاق، رغم تركيز كل السلطة بين يديه.
الطغاة المولعين باستعراض عضلاتهم على شعوبهم، هم نمور من ورق، والاستقرار الذي يدعون أنهم يجلبونه مجرد واجهة، للأسف. إنه قشرة هشة مغلفة بالكثير من العنف والقمع
يرد النظام على الانتقادات والغضب الشعبي بتصعيد القمع والترهيب، بمعنى أن “فسحة الديمقراطية التي استمرت 10 سنوات قد انتهت”. تحشد موارد الدولة لمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي وملاحقة أي صوت يرتفع لانتقاد السلطة، ويواجه الديمقراطيون التونسيون حملة واسعة من الاعتقالات التعسفية والمحاكمات ذات الدوافع السياسية والشيطنة والتهديدات. ومن ذلك الحكم على والدي راشد الغنوشي بالسجن لمدة عام واعتقال العديد من القادة السياسيين ونشطاء المجتمع المدني، في استغلال لقانون مكافحة الإرهاب بهدف شيطنة كل صوت معارض وتصفيته.
لكن رغم القمع المتزايد؛ ترتفع الأصوات المنتقدة لهذا الانقلاب على الديمقراطية متحدية قوانين الطوارئ والدولة البوليسية والأمنية المدمرة لمكاسب الحرية التي عرفها التونسيون منذ الثورة.
لن يقدر القمع على القضاء على شرعية العمل لاستعادة سلطة القانون في تونس؛ بل سيعزز آليات مقاومة الظلم ويوحد المدافعين عن الديمقراطية. خط التمايز الرئيسي اليوم هو بين أولئك الذين يدعمون استعادة الديكتاتورية والذين يعملون لاسترداد الديموقراطية بتنوعهم.
اليوم، يقود سعيد البلاد إلى مسارات رجعية تحرك أخطر مختزنات المجتمع، عبر إطلاق العنان لخطاب الكراهية الذي يسعى إلى تقسيم المجتمع إلى “وطنيين” و”خونة”.
إذا كان من درس يمكن تعلمه من الربيع العربي، فهو أن الطغاة المولعين باستعراض عضلاتهم على شعوبهم، هم نمور من ورق، والاستقرار الذي يدعون أنهم يجلبونه مجرد واجهة، للأسف. إنه قشرة هشة مغلفة بالكثير من العنف والقمع، وأقصر طريق للانفجار والفوضى، والبؤس واليأس، ولأعداد أكبر، لا أقل من المهاجرين.