اعتاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ وصوله إلى قصر الإليزيه سنة 2017، اتهام روسيا بقيادة حملة ضد فرنسا في القارة الإفريقية بهدف ضرب صورتها هناك، والحط من مكانتها لدى الشعوب والقادة الأفارقة، لكن يبدو أن ماكرون نسي أشياء أخرى لها علاقة بهذا التراجع الكبير أو ربما تنساها.
صحيح أن روسيا لها دور كبير في تراجع النفوذ الفرنسي بإفريقيا، لكن ليس بتلك الدرجة التي يصورها ماكرون، ويظهر ذلك جليًا في شمال إفريقيا، فنفوذ فرنسا هناك في تراجع مستمر نتيجة أسباب عديدة، أغلبها لا دخل لموسكو بها.
سجل النفوذ الفرنسي في دول شمال إفريقيا خلال السنوات الأخيرة، تراجعًا كبيرًا لصالح دول أخرى، ورأينا ذلك في تونس والجزائر والمغرب أيضًا، رغم أن دول هذه المنطقة تعد امتدادًا تاريخيًا لفرنسا الاستعمارية، فما الذي يفسر ذلك؟
تراجع نفوذ فرنسا في تونس مقابل صعود إيطاليا
عرف النفوذ الفرنسي في تونس بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، تراجعًا كبيرًا، إذ تعرضت علاقاتها مع هذا البلد العربي لتقلبات عديدة، ومن أهم أسبابها صعود نخب جديدة للحكم غير محسوبة على دوائر النفوذ الفرنسي، ونعني بذلك حركة النهضة الإسلامية، إلى جانب تنامي علاقات تونس الاقتصادية مع شركاء جدد منافسين للنفوذ الفرنسي في المنطقة، على غرار تركيا.
لكن تغير الوضع بعد انقلاب يوليو/تموز 2021، إذ أبدت باريس ارتياحها لقرارات قيس سعيد، التي شملت حل البرلمان والحكومة وأغلب المؤسسات الدستورية وصياغة دستور جديدة والتضييق على الحريات والسيطرة على كل السلطات.
بدت فرنسا أكثر ارتياحًا في علاقاتها بتونس بعد انقلاب سعيد، مقارنة بالسنوات العشرة التي أعقبت الثورة، فقد قام سعيد بما عجز عنه غيره، وهو إقصاء حركة النهضة من المشهد السياسي في تونس، فباريس تعد النهضة سببًا في تراجع نفوذها هناك.
بلغ حجم التبادل التجاري بين الجزائر والصين نحو 14.6 مليار دولار في سنة 2021، بنمو قُدِر بنسبة 32.6%
توالت تصريحات ماكرون الداعمة لقيس سعيد، رغم التضييق الكبير على الحريات في تونس، حيث رأى مثلًا أن الاستفتاء على الدستور الجديد “خطوة مهمة” في مسار الانتقال السياسي، مع أن هذا الدستور يؤسس لنظام رئاسوي، كل السلطات تحت تصرف الرئيس.
حبل الود لم يدم طويلًا، فسعيد أدار ظهره لباريس، وظهر ذلك جليًا عند إقالة مديرة ديوانه نادية عكاشة المحسوبة على فرنسا، وتلويحه في أكثر من مرة بإمكانية بحث خيارات شراكة جديدة مع الصين أو روسيا أو دول أخرى، ذلك أن دعم باريس وغيرها من العواصم الأوروبية لبرنامجه الأحادي لم يكن كافيًا، كما يرى.
هدد سعيد وفريقه المحيط به بالتوجه نحو الشرق، لكن التوجه في الحقيقة كان نحو إيطاليا التي تقودها حكومة يمينية متطرفة أقرب لفكر الرئيس التونسي، وشهدنا في الأشهر الأخيرة الزيارات المتتالية للمسؤولين الإيطاليين لتونس على رأسهم رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني التي زارت سعيد مرتين في أسبوع واحد.
“ندفع في اتجاه اتفاق تونسي مع صندوق النقد يراعي الواقع في #تونس“.. #ميلوني تتحدث عن العلاقات التونسية مع أوروبا وحلول ملف الهجرة #إيطاليا pic.twitter.com/d56ZGBVTVX
— Tunigate – بوابة تونس (@Tunigate) June 6, 2023
غالبًا ما كان المسؤولون الفرنسيون يتحدثون عن تونس ويزورون هذا البلد، لكن ذلك لم يحصل منذ فترة، وتركوا مكانتهم للمسؤولين الإيطاليين الذين يقودون حملة داخل الاتحاد الأوروبي لتقديم مساعدات لتونس والضغط على صندوق النقد الدولي لمنح تونس القرض المعطل.
أغلب حديث الوزراء الإيطاليين في الأشهر الأخيرة، يتمحور حول تونس ليس حبًا بها، إنما دفاعًا عن مصالحهم في شمال إفريقيا والمنطقة الأوروبية أيضًا، والظهور في ثوب المدافع عن التكتل الأوروبي في وجه موجات الهجرة القادمة من تونس، مستغلة التخبط الفرنسي.
تراجع في الجزائر مقابل صعود إيطالي صيني روسي
النشاط الإيطالي لم يتطور في تونس فقط، إنما شمل الجزائر أيضًا، فقد زارت جورجيا ميلوني، الجزائر في يناير/كانون الثاني الماضي، وخلال هذه الزيارة وقعت الجزائر وإيطاليا، 5 مذكرات “شراكة وتعاون” في عدة قطاعات اقتصادية واجتماعية، وفي يوليو/تموز الماضي زار رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراغي الجزائر، ووقع البلدان عقودًا تسمح بزيادة كميات الغاز الجزائري نحو إيطاليا.
نتيجة ذلك، حقق التبادل التجاري بين البلدين نقلة نوعية، حيث بلغ 16 مليار دولار في العام 2022، بعدما كان 8 مليارات دولار فقط عام 2021، ما يعد “مؤشرًا عى التقارب والمقاربات التي اعتمدناها لبلوغ ديناميكية متصاعدة في مجالات التعاون المتعددة”، وفق الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون.
فضلًا عن إيطاليا، شهدت علاقات الجزائر مع الصين تطورًا كبيرًا، لتشمل عدة جوانب منها التبادلات التجارية والاستثمارات في قطاعات الصناعة والطاقة والتعدين والبناء، نتيجة ذلك تمكنت بكين من انتزاع صدارة المصدرين إلى الجزائر من فرنسا التي احتكرتها لعشرات السنين، وتحولت بكين إلى الشريك التجاري الأول للجزائر التي تبحث عن تنويع شركائها التجاريين، والتخلص نهائيًا من التبعية الاقتصادية الفرنسية.
يرى المغرب أن فرنسا لم تدعمه صراحة في قضية الصحراء، مقابل الدعم الصريح لبعض الدول الأوروبية على غرار إسبانيا
بلغ حجم التبادل التجاري بين الجزائر والصين نحو 14.6 مليار دولار سنة 2021، بنمو قُدِر بنسبة 32.6%، وفي سنة 2022، استوردت الصين ما حجمه 1.2 مليار دولار من السلع الجزائرية معظمها مواد طاقية كالنفط والغاز ومعادن مثل خام الحديد.
أما في خصوص الاستثمارات، فقد استثمرت الصين في الجزائر في الفترة بين 2005 و2020، ما يقدر بـ23.85 مليار دولار، وتركزت هذه الاستثمارات في قطاعي النقل والعقارات، إذ بَنتْ الشركات الصينية مشاريع بنية تحتية رئيسة مثل الطريق السيار شرق-غرب والمسجد الكبير في الجزائر العاصمة، كما استثمرت الصين في قطاع الطاقة.
أيضًا فتحت الجزائر أبوابها لروسيا التي وصلها الرئيس تبون قبل يومين في زيارة دولة تستمر لثلاثة أيام، ومن المنتظر أن يختتم الزيارة بتوقيع اتفاقية تعاون إستراتيجي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، من شأنها تطوير العلاقات بين البلدين.
وترتبط الجزائر وموسكو بعلاقات متينة قائمة وشراكة وثيقة منذ الاستقلال، سواء على المستوى الاقتصادي مع تبادلات تجارية بأكثر من 3 مليارات دولار، أم على المستوى السياسي والإستراتيجي، خاصة أن روسيا أكبر مورد للسلاح لأكبر بلد إفريقي من حيث المساحة.
#الجزائر تعيد إدراج مقطع محذوف إلى نشيدها الوطني يأتي على ذكر #فرنسا بصيغة يتوعد فيها ثوار الجزائر باريس pic.twitter.com/DbOpi7r3qL
— قناة الجزيرة (@AJArabic) June 11, 2023
كما يرتبط البلدان بعلاقات قوية في خصوص ملف الطاقة، حيث تنسق الجزائر مع روسيا في إطار منتدى الدول المصدرة للغاز، وفي اجتماعات الدول المصدرة للنفط “أوبك بلاس”، وتوجد شراكات عديدة بين شركتي “غازبروم” الروسية و”سوناطراك” الجزائرية.
وما يدلل على عمق العلاقات بين البلدين، رفض الدبلوماسيين الجزائريين الانضمام إلى جانب الولايات المتحدة وإدانة موسكو في جلسة الأمم المتحدة المنعقدة مارس/آذار 2022، في علاقة بالحرب في أوكرانيا رغم التزامهم التاريخي بمبادئ سيادة الدول.
تطورت علاقات الجزائر مع إيطاليا والصين وروسيا، في مقابل تراجعها مع فرنسا، ونفهم ذلك من خلال تراجع المبادلات التجارية بين البلدين، والتضييق على الشركات الفرنسية العاملة في الجزائر، فضلًا عن التأجيلات المتكررة لزيارة مرتقبة للرئيس تبون إلى باريس، وقرار السلطات الجزائرية إعادة مقطع من نشيدها الوطني يحمل عبارات تتوعد مستعمرها السابق، فرنسا، بـ”الحساب” بعد أن حذفته قبل عقود.
صعود إسرائيلي إسباني في المغرب
تكرر نفس الأمر في المغرب، فبعد أن كانت الرباط مفتوحة لمسؤولي الإليزيه، شهدت العلاقات بين البلدين في الفترة الأخيرة توترًا كبيرًا، ظهر ذلك في إعلان جمعية رجال الأعمال المغاربة إرجاء زيارة كان من المنتظر أن يجريها رئيس نظيرتها الفرنسية إلى المملكة وذلك بسبب الجفاء الدبلوماسي بين البلدين.
وكان من المرتقب أن يزور دو بيزيو المملكة في 26 يونيو/حزيران المقبل ويرافقه وفد من رجال الأعمال الفرنسيين، للتباحث بشأن فرص استثمارات وتعاون اقتصادي بين البلدين، وفق ما أفادت صحيفة “ليكونوميست” المغربية في وقت سابق.
وإلى الآن لم يعلن عن تعيين سفير مغربي في باريس، وذلك منذ إنهاء مهام السفير السابق محمد بنشعبون مطلع العام الحاليّ، وجاء ذلك تزامنًا مع تبني البرلمان الأوروبي في يناير/كانون الثاني الماضي توصية غير ملزمة، تنتقد أوضاع حرية التعبير في المملكة، واتهمت الرباط باريس بالوقوف وراء هذه التوصية.
يذكر أن الخطاب الدبلوماسي المغربي، عرف تحولًا بعد الحصول على الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء ودعم الولايات المتحدة الأمريكية الصريح لحل ضمن السيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية، وهو ما دفع الرباط إلى مطالبة شركائها بمواقف أكثر تقدمًا بما يتلاءم مع الوضعية الجديدة ويتناسب وطبيعة المصالح المشتركة والموقف المنتظر.
منذ تولي ماكرون السلطة، لم تهدأ الاحتجاجات في أغلب المدن الفرنسية، مناهضة لقرارات الرئيس خاصة المتعلقة بنظام التقاعد
يرى المغرب أن فرنسا لم تدعمه صراحة في قضية الصحراء، مقابل الدعم الصريح لبعض الدول الأوروبية على غرار إسبانيا، ما جعل العلاقات بين باريس والرباط تتوتر، في انتظار إعلان باريس موقفها من القضية الأبرز للمغاربة.
شهدت علاقات المغرب مع فرنسا تراجعًا مقابل صعود علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي، فوفق ناصر بوريطة، وزير الخارجية المغربي، أسهم التطبيع في رفع المبادلات التجارية بين المغرب والإسرائيليين بنسبة 160%.
وأوضح بوريطة أن العلاقات الثنائية مع “إسرائيل” تتحسن على جميع المستويات، والمغرب قد استقبل أكثر من 12 زيارة لمسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى، وزيادة بمقدار 5 أضعاف في عدد السياح الإسرائيليين خلال العامين الماضيين.
كما تحسنت العلاقات المغربية الإسبانية بعد إعلان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز تأييد بلاده لاقتراح الحكم الذاتي الذي يطرحه المغرب حلًا وحيدًا للنزاع في الصحراء الغربية، وأعقب ذلك زيارة تاريخية لسانشيز للرباط، استمرت يومين، وخلالها تم توقيع أكثر من 20 اتفاقًا بين الجانبين، بما يشمل خط ائتمان بقيمة 800 مليون يورو لتعزيز الاستثمار في المغرب.
مغرب الامس ليس هو مغرب اليوم
راديو فرنسا الدولي RFI: #المغرب يلغي زيارة رئيس منظمة أرباب العمل الفرنسيين.
الملك #محمد_السادس:
“إن ملف #الصحراء_المغربية هو النظارة التي ينظر بها #المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح و البسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، و نجاعة الشراكات” pic.twitter.com/ochdAGUdYW
— Leɛyun 🇲🇦 ۞ (@5_ersito) June 15, 2023
نفهم من هنا أن باريس فقدت مكانتها في دول شمال إفريقيا لصالح دول أخرى، كانت تتحين الفرصة لنسج خيوطها في هذه المنطقة الإستراتيجية جنوب القارة الأوروبية، مستغلة ضعف ماكرون الغارق في المشاكل الداخلية.
منذ تولي ماكرون السلطة، لم تهدأ الاحتجاجات في أغلب المدن الفرنسية، مناهضة لقرارات الرئيس خاصة المتعلقة بنظام التقاعد، ما أثر على شعبيته التي تراجعت إلى أدنى مستوياتها، وظهر ذلك في الانتخابات التشريعية التي فقد فيها حزب ماكرون الأغلبية، ما اضطره للتلاعب بالدستور لتمرير العديد من القوانين.
من شأن هذا الأمر أن يؤثر على مكانة فرنسا في القارة الإفريقية، فهذا النفوذ آخذ في الانحسار شيئًا فشيئًا، في مقابل صعود قوى إقليمية أخرى على غرار روسيا والصين وتركيا، قوى استغلت الفراغ ومدت خيوطها هناك.