ترجمة وتحرير: نون بوست
كان القارب الأول الذي وجدناه عبارة عن هيكل من الألمنيوم يتمايل فوق المياه الزرقاء مثل شبح. تجندنا بكل ما لدينا من موارد وسترات نجاة بحلول غروب الشمس لإنقاذ كل من كان على متن ذلك القارب. مع ذلك، ألغى القبطان المهمة وبقينا نشاهد القارب يطفو. حيال هذا الشأن، قالت فيفيانا، وهي شابة من صقلية تتسم بالهدوء وتتمتع بخبرة سنوات عديدة في مجال إنقاذ المدنيين في البحر: “ليس لديهم محرك”. لأسباب سياسية، طلب أفراد الطاقم عدم ذكر ألقابهم. وأضافت “بالقرب من ليبيا، كان من الطبيعي أن ترى قوارب دون محركات، لأن خفر السواحل الليبي يستولي عليها لإعادة استخدامها. لم تكن هذه العادة منطقية حتى أتقنت سياسة الإنقاذ في البحر الأبيض المتوسط”.
وأوردت قائلة “لم يكن القارب يحمل علامة”. عندما تنقذ جماعات الإنقاذ قاربًا مليئًا بالأشخاص الذين ينجرفون شمالًا من ليبيا أو تونس، فإنهم يضعون علامةً عليه بالطلاء كشكل من أشكال حفظ السجلات. لكن الليبيين لا يفعلون ذلك لذا نعتقد أنه تم اعتراضه من قبل ما يسمى بخفر السواحل الليبي”.
تنتمي سفينتنا، “هيومانيتي 1″، إلى “إس أو إس هيومانيتي”، وهي منظمة غير حكومية مستقلة مقرها برلين. كنت أعمل على متن السفينة كصحفي. كتبت عن طرق التهريب في السابق، لكن عندما أبحرت مع البحرية الألمانية في سنة 2016، خرّب رجال الإنقاذ قوارب المهربين. أتذكر مشاهدة طوافة مطاطية تحترق على الماء مثل بقعة من النفط: أراد الألمان حرمان العصابات الليبية من فرصة إعادة استخدام المعدات.
سألت قائد السفينة جوش عندما سنحت لي الفرصة “لماذا يأخذ خفر السواحل المحركات؟ لماذا لا يكتفون بتدمير معدات المهربين؟”. ابتسم جوش الذي كان ينحدر من أصول ألمانيًة وهو رجل قوي البنية ذو شعر داكن، وكان يرتدي حلقة في شحمة أذنه ويشبه في مظهره القراصنة وقد عزف موسيقى البانك الألمانية على الجسر وأصر على أن يطلق عليه الطاقم اسم جوش لكنه كان يدير سفينة بحنكة وخبرة، “لهذا السبب علينا أن نقول ما يسمى بخفر السواحل الليبي. بشكل أساسي، الأشخاص الذين يبحرون بصفتهم خفر السواحل لكنهم إما يتعاونون بشكل مباشر مع الأشخاص الذين وضعوا هذه القوارب في الماء، أو لديهم اتصالات مع هؤلاء الأشخاص من خلال السوق السوداء. لذلك يريدون في بعض الأحيان إعادة استخدام هذه القوارب الخشبية أو المطاطية الرخيصة – وبالطبع المحركات، التي كان معظمها جديدا”. فأردفت قائلا: “هذه مسألة مثيرة للاهتمام”. فردّ جوش “نعم، إنه عمل تجاري”.
كان القارب الثاني الذي وجدناه مصنوعًا من الألياف الزجاجية وقد أضرم أحدهم النار فيه. في الصباح، شاهدنا سفينتين ليبيتين على بعد أميال تتحركان بسرعة إلى الجنوب في إشارة إلى أنهما تراقبان منطقة الدوريات الليبية التي لا يتجاوز طولها 24 ميلًا لأننا وقفنا خلفها. ولكن بحلول الساعة 9 صباحًا، كان الدخان البني يتصاعد من الأفق.
صعدت لرؤية ويلي، طبيب السفينة الذي كان يداوم لمدة ساعة على السطح العلوي. كان يحمل منظارا ويرتدي سترة ثقيلة في مواجهة الريح. وقال مشيرًا إلى عمود الدخان الذي يتصاعد هناك مثل السحابة: “لكن هذا القارب يحترق”. فسألته “من أحرقها؟”. فأجاب “لا نعرف”.
حلّقت طائرة مراقبة تسمى “سيبيرد” مباشرة فوق رؤوسنا لتفقد الحريق. كنا في منتصف نيسان/أبريل، وكان الطقس دافئًا. وقد سجل شهر نيسان/أبريل 2023 أرقاما قياسية للهجرة منذ سنة 2017، تجاوزت أربعة أضعاف ما سُجّل في نفس الشهر من سنة 2022. كان أحد أسباب ارتفاع أعداد المهاجرين غير النظاميين تنامي العنصرية في تونس لاسيما بعد الخطاب الشهير الذي ألقاه الرئيس التونسي قيس سعيّد عن الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى في آذار/ مارس، الذي أثار موجة من العنف العنصري وشجّع العمال المهاجرين على خوض غمار الهجرة غير النظامية.
تراجعت الأرقام في أيار/ مايو بسبب الطقس القاسي، لكنها ارتفعت مرة أخرى عندما هدأ الطقس. وفي وقت سابق من هذا الشهر، غرقت سفينة صيد كبيرة غير مستقرة من طبرق شرقي ليبيا قبالة سواحل اليونان وكان على متنها ما يصل إلى 750 مهاجرًا (من سوريا ومصر وفلسطين وباكستان).
تم تأكيد وفاة ما لا يقل عن 78 شخصًا لكن المئات ما زالوا في عداد المفقودين العديد منهم من النساء والأطفال. كان هذا الحادث البحري الأكثر مأساوية في المياه اليونانية منذ سنة 2015. تقع مسؤولية غرق هذا القارب على عاتق المهربين الذين أرسلوا القارب. وسيكون هناك تحقيق بشأن مدى مسؤولية خفر السواحل اليوناني، ولكن السؤال الأكثر جدية هو لماذا تشق هذه القوارب المياه العميقة؟ بعد سبع سنوات من وضع الاتحاد الأوروبي خطة لوقف تهريب البشر من خلال تمويل ما يسمى بخفر السواحل الليبي، لا يزال البحر الأبيض المتوسط مقبرة مائية.
كان القارب المصنوع من الألياف الزجاجية الذي رصدناه بالقرب من غرب ليبيا. في وقت لاحق من الصباح، أبلغت سيبرد عن وجود مجموعة من المهاجرين على سطح سفينة رأيناها – تسمى “الزاوية” ما يعني أننا شاهدنا اعتراضهم من قبل خفر السواحل. لابد أن الليبيين قد أسرعوا إلى القارب لإنقاذ اللاجئين قبل أن يغادروا منطقة دورياتهم. ومن المحتمل أيضًا أنهم صادروا المحرك وأضرموا النار في القارب. اتجهنا نحو المياه الدولية، وعندما اقتربنا منها، لاحظنا رائحة كريهة ناتجة عن احتراق الألياف الزجاجية. كان الهيكل قد ذاب لكن بقيت بضعة أضلاع هيكلية سليمة، لذلك كان يتمايل مثل لعبة غريبة الشكل على سطح الماء.
هناك منافسة شديدة بين سفن المنظمات غير الحكومية الأوروبية وخفر السواحل الليبي، ويمكن تفسير عدوان الليبيين من خلال الصفقة المربحة التي عقدوها مع أوروبا. مع ذلك، لا تعد أموال الاتحاد الأوروبي دليلا يفسر سلوكهم الغريب خارج منطقة الـ 24 ميلًا. عندما حاولت سفينة منظمة غير حكومية تدعى “أوشين فايكنغ” إنقاذ قارب مطاطي مليء بالمهاجرين في آذار/ مارس على بعد 37 ميلاً من ليبيا، اقتربت سفينة خفر السواحل الليبي “بشكل خطير” – وفقًا لبيان صادر عن منظمة “إس أو إس ميديترانيه” الإنسانية – وأطلقت طلقات تحذيرية على السفينة التي تحمل عمال المنظمات غير الحكومية في المياه الدولية. ثم تراجعوا، وعاد عشرات المهاجرين إلى المخيمات الليبية.
أخبرني قائد طائرة “سيبيرد” فيليكس فايس عن اعتراض غريب آخر في أيلول/سبتمبر الماضي، حين استولى الليبيون على قارب للمهاجرين داخل منطقة البحث والإنقاذ في مالطا، وشاهد فايس عملاء خفر السواحل الليبيين يصعدون إلى قارب التهريب ويدورون حوله. قال فايس: “اعتقدنا أنهم ربما كانوا يلهون ويستمتعون بوقتهم فقط. لذلك غادرنا المنطقة”.
لكن بعد يومين، وجدنا القارب نفسه. لقد كان قاربًا خشبيًا أزرق اللون مكتوب عليه [حروف] وأرقام محددة”. كانت حمولة جديدة من المهاجرين على متنه يتّجهون إلى جزيرة لامبيدوزا الواقعة في أقصى جنوب إيطاليا. أوضح فايس: “لذلك قام خفر السواحل الليبي، بالتأكيد، بسحب هذا القارب إلى ليبيا. ثم وقع القارب في أيدي المهربين [ليتم] إعادة استخدامه لتنظيم رحلة سريّة مجددا”. وأضاف “أعني – بالطبع، ربما أخرج خفر السواحل القارب للشاطئ، واستولى عليه المهربون من ساحة الخردة أو أي شيء آخر. لكن لنكن صادقين. من الواضح حقًا بالنسبة لي أنه كان هناك اتصال مكثف جدًا بين خفر السواحل والمهربين”.
يعتقد فايس أنه من خلال الدوران في الماء، “كانوا يختبرون المحركات. عندما يعثرون على قارب صالح لإعادة الاستخدام، يختبرون مدى فعاليته ويعيدونه إلى ليبيا”. يعتبر سلوك الليبيين مثيرا للسخرية بالنسبة العاملين في المنظمات غير الحكومية. في وقت لاحق من ذلك الأسبوع، جاءت سفينة خفر السواحل مسرعة على جانبنا الأيمن من المنطقة الليبية في الجنوب وكان الحراس قد رصدوا لون ستراتنا من خلال المناظير (كان رداء منظمة “إس أو إي هيومانيتي” باللونين الأصفر والأزرق اللامعين). عندما قمنا بضبط تردد الراديو الخاص بهم، ضحك مترجمنا العربي. قال: “إنهم يقولون، هذه منظمة عدونا!”.
ما بين 2012 و2014، قضيت 32 شهرًا كرهينة لدى قراصنة صوماليين. أنا أوروبي وأمريكي – أحمل جواز سفر ألماني وعشت لأكثر من عقد في برلين – وعندما عدت من الصومال، تزامنت الهجرة الجماعية للاجئين من أفغانستان وسوريا وأماكن أخرى مع بداية ولاية المستشارة أنجيلا ميركل. كان من الواضح لي، على الأقل، أن نموذج أعمال القرصنة لم يكن بعيدًا جدًا عن نموذج مهربي البشر. في سنة 2016، صرّح لاجئ صومالي مراهق لصحيفة إندبندنت بأن الحراس في معسكر اعتقال سوداني لم يطعموه شيئًا سوى البسكويت وعصير المانجو وهو في طريقه عبر شرق إفريقيا، وقد ذكرني ذلك بالطعام ذاته الذي قدمه إليّ القراصنة عندما كنت رهينة لديهم.
كتبت مقالا نشرته مجلة “بيزنس ويك” عن ممول قرصان صومالي أصبح قائدا في تجارة تهريب البشر عبر السودان. كان من السهل رؤية أوجه التشابه إذا لم تكن مشتتًا بالحكاية الشعبية المضللة التي تقول إن القراصنة كانوا مجرد صيادين محبطين. كان القراصنة الصوماليون ومهربو الصحراء الأفارقة مجرمين منظمين يحتاجون إلى بعض الأساسيات – الكلاشينكوف وسيارات الدفع الرباعي وإمدادات رخيصة من المواد الغذائية – وقد تكون الأرباح في كلتا الحالتين مذهلة.
لكن القصص من المعسكرات في ليبيا أسوأ من أي شيء رأيته أو عانيت منه في الصومال. يقضي المهاجرون شهورًا بل وحتى سنوات في مستودعات مكتظة دون حتى مراتب أو بطانيات من الإسفنج ويتقاتلون للاستحمام والحصول على مياه الشرب. تتبع طرق التهريب عبر شمال إفريقيا طرق الرقيق القديمة، وذلك وفقًا لجيسون باك، مؤلف كتاب “ليبيا والاضطراب العالمي الدائم”، كما أن قصص المهاجرين الذين أُجبروا على العمل كعبيد في ليبيا باتت شائعة.
صوّر فريق “سي إن إن” سوقًا للعبيد في سنة 2017 وكانت لقطات متقطعة لاثني عشر مهاجرًا من النيجر تم بيعهم بالمزاد العلني في ساحة ليبية ليلا. وقد كان أحد المهربين يقدم المهاجرين باللغة العربية قائلا: “أولاد أقوياء للعمل في المزرعة”. يتعين على النساء تنظيف المنازل أو العمل في الدعارة؛ ويعمل الرجال في المزارع أو مواقع البناء. تتطابق هذه القصص مع ما سمعته في صقلية عندما كتبت مقالتي.
تُكلّف كل رحلة على متن قارب مهترئ باتجاه أوروبا مئات أو حتى آلاف الدولارات، والسعر منفصل عن تكلفة السفر برًا عبر إفريقيا. وبالنسبة للعائلات البعيدة التي تتلقى مكالمات هاتفية مذعورة من أجزاء غير معروفة من العالم، فإن الأسعار ترقى إلى حدّ الفدية لتحرير أقاربهم من معسكرات الاعتقال اللاإنسانية وسيئة السمعة.
قامت إيطاليا والاتحاد الأوروبي بدفع عشرات الملايين من اليوروهات إلى خفر السواحل الليبي، الذي يملك أسطولًا قديمًا من السفن الإيطالية القديمة المأهولة برجال يحملون الكلاشينكوف يربطون علاقات مع الميليشيات المتحاربة على الشاطئ. لا نصنف هذه الجماعة من الجماعات المحايدة، مثل تحرّكات السفن التي رأيناها عندما كنا على متن سفينة هيومانيتي 1، كجهات منفذة لسياسة الاتحاد الأوروبي وإنما كذراع طويلة للمهربين على الأرض. قال باك: “لقد عمل خفر السواحل دائمًا مع الإيطاليين لردع المهاجرين”. بعضهم يأخذ نقودًا [للمساعدة] في تهريب المهاجرين، ثم يأخذون نقودًا لإعادتهم”. بعبارة أخرى، إن تجارة التهريب في البحر الأبيض المتوسط هي بمثابة آلة غسيل، حيث تعمل على إخراج الناس وإعادتهم من أجل جني الأرباح.
لكن الموقف التي يتخذه معظم الصحفيين الغربيين يتمحور حول استعانة الاتحاد الأوروبي ببساطة بما يسمى بالذراع القذرة لخفر السواحل الليبي، مما يعني أن الاتحاد الأوروبي يدفع لليبيين لضمان عدم سفر قوارب المهاجرين أبدًا حتى وسط البحر الأبيض المتوسط، حتى لا يتطلب الأمر إنقاذهم من قبل سفن على غرار هيومانيتي 1، ظنا منهم أن عمليات الاعتراض الليبية يمكن أن تقلل من الاتجار بالبشر. يدرك معظم الناس ذلك ويتجاهلونه، لأنه حتى قبل اثني عشر عامًا، قام الاتحاد الأوروبي بإسناد أعماله القذرة للزعيم الليبي السابق معمر القذافي، الذي استغل الخوف العنصري من المهاجرين في أوروبا للتفاوض بشأن حزم المساعدات المربحة لنفسه. لقد عمل على قمع المهربين، على الأقل قبل الإطاحة به خلال الربيع العربي من قبل غارات الناتو الجوية وشعبه.
في سنة 2017، عندما أعلنت إيطاليا والاتحاد الأوروبي عن حزم مساعدات ضخمة لخفر السواحل الليبي النشط، بدا الأمر وكأنه حلّ غير مناسب للرأي العام الأوروبي على غرار الحلول غير الفعالة الأخرى لظاهرة الهجرة المتفشية. فعلى سبيل المثال، تستعين الولايات المتحدة ببعض أذرعها القذرة ومسؤولين على الحدود الجنوبية للمكسيك. من غير المجدي الإيحاء أن سياسات الحدود لأي دولة عملاقة – مثل الولايات المتحدة وروسيا وتركيا والصين – هي إلى حد ما عنصرية أو فاسدة أو غير حساسة لاحتياجات الضعفاء. ذلك لا يبرر العنصرية أو السياسات وإنما يقلل من أهمية قضية الهجرة في ليبيا.
رصد القبطان جوش القارب الثالث بعد ظهر يوم هادئ في أواخر نيسان/أبريل. اختفى من على الرادار في غضون ساعة، لذلك انطلقنا في قوارب سريعة مطاطية ذات الهيكل الصلب. كانت قائدتنا أوليف شابًة بافارية خجولة تعمل في منظمة السلام الأخضر، حيث كانت هادئًة وغريبة الأطوار على متن السفين؛ ولكن خلف دواسة القارب كانت جسورة. كنا نسلك في جميع الاتجاهات، لكن المحيط كان مثل صحراء زرقاء، قفر وهائج. انطلقت أوليف نحو الأمواج المعتدلة، لكن لم يكن هناك ما يشير إلى وجود قارب سليم أو غير ذلك.
وبعد ثلاث ساعات استسلمنا، لكن مجرد ركوب قارب سريع يمثّل عملا شاقا. وبحلول المساء، كان كلا الفريقين على القاربين المطاطيين متعبين، وبعد العشاء، شعر البعض منا بدوار البحر بسبب الانتفاخ. وأعلن الكابتن جوش حوالي الساعة 9 مساءً أنه تلقى تحذيرا بوجود حالة استغاثة جديدة، وتوقع أن يصل في غضون ساعتين تقريبًا. وقال “من فضلكم خذوا قسطا من الراحة حتى ذلك الحين”.
كانت هذه الأنباء سيئة، إذ تعتبر عمليات الإنقاذ الليلية وعمليات الإنقاذ على نطاق واسع أو عمليات الإنقاذ “الفوضوية” خطيرة. كما أنه كان يتعارض مع غرائزي بصفتي راكب أمواج للاندفاع في الأمواج الهائجة والعالية بعد حلول الظلام. وقد كنت متعبًا، لذلك كنت آمل أن تنتهي حالة الاستغاثة، مثل المرة السابقة. غفوت لمدة ساعتين، وأيقظتنا فيفيانا حوالي الساعة 11 ليلا قائلة ” علينا أن نرتدي البدلة، لننطلق”.
ارتدينا سترات النجاة والخوذات وانتظرنا على سطح القوارب المطاطية. كانت الأمواج السوداء من جانب الميناء تضربنا. كان الجسر يحتوي على كشافين يصلان عبر الماء، وعندما صعدت إلى القارب المرتد، كان بإمكاني سماع صوت جوش عبر جهاز اللاسلكي وهو يقول “اتبع الضوء على جانب الميناء”، لكن أوليف انطلقت بسرعة مثل الضوء باتجاه العارضة اليمنى. كان هذا واحدًا من الارتباكات التي مررنا بها. (عرفت أوليف ما كانت تفعله؛ وكل ما يمكنني فعله في ذلك في الظلام الدامس كان التشبث).
وجد القارب المطاطي في المقدمة المهاجرين أولاً. وصلنا بعد 20 دقيقة وسمعنا جوقة من أصوات الرجال وهم يصرخون مثل مشجعي كرة القدم. وعلا صوت فيفيانا الرقيق وهي تقول “لا، توقفوا، لا تتقاتلوا” – ثم رأينا القارب، الذي كان عبارة عن هيكل مطاطي يبلغ طوله أقل من 30 قدمًا، مكتظا بالأفارقة، يتأرجح بشكل خطير فوق الأمواج التي يبلغ ارتفاعها مترين. انطلقنا وشاهدنا القارب المطاطي الرئيسي، ثم انفصلنا، إلى الأمام والخلف، بينما ألقى الفريق سترات النجاة. وكلما تحركنا في اتجاه الرياح نحو القارب، كنا نشتم رائحة أجسام كريهة ورائحة وقود.
قالت فيفيانا لاحقًا إن “الأمواج كانت تضرب القارب كثيرًا، وقد يكون هذا خطيرًا حقًا. وقد بدأ الناجون القتال في وقت ما لأن قاربنا أصبح بمثابة طوق للنجاة، وأراد الجميع الوصول إلى بر الأمان في الحال. أعتقد أنها غريزة البقاء”.
سرعان ما بدا أن كل الراكبين على القارب يرتدون سترة نجاة برتقالية: شاهدنا قاربًا آخر راسيا في الظلام. وانتقل الأشخاص الذين كانوا على متن قارب فيفيانا إلى القارب المطاطي الآخر، واحدًا تلو الآخر، وعندما وصل 10 أو 12 شخص إلى مقدمة القارب المطاطي، بدأت هتافات الصراخ والألم في الهدوء. ونقل القارب المطاطي الرئيسي حوالي 20 شخصًا إلى سفينة الإنقاذ “هيومانيتي 1” بينما بقينا ننتظر، على أمل ألا يسقط أحد في الماء.
كان ستيفي، على متن القارب المطاطي، وهو سائق مسعف من بلدة ألمانية صغيرة ويضع حلقة في أنفه وهو دائم التفكير. وكان ستيفي قصيرًا مقارنة بستيفان، وكانت وظيفته تقوم على ضمان الهدوء في القارب. صرخ قائلا “مرحبا هل تتحدثون الانجليزية؟” شعرت بالذعر والخوف. وإذا بحشد الراكبين على القارب يجيب “أجل”. حينها أردف قائلا “نحن هنا لمساعدتكم”. فأجاب الرجال “حسنًا”.
أوضح ستيفي “سنبقى هنا حتى يعود القارب السريع الآخر، وبعد ذلك سيتم إنقاذ المزيد منكم”. فقال كل الرجال “حسنا”. وتابع “قاربنا موجود هنا فقط لحالات الطوارئ. لذا من فضلكم اجلسوا وحافظوا على هدوئكم. ستتواصل عملية الإنقاذ قريبًا”. فأجاب الجميع “حسنا”. وجلس عدد قليل من الناس. كان الوضع لا يصدق. فقد نجح ستيفي بفضل مهاراته كمسعف في تهدئة الجميع.
عاد القارب المطاطي الرئيسي، وحمل 20 شخصًا آخر، وقبل أن يعود إلى السفينة، اصطدم بنا. كان الخوف يعصف بالقارب مثل الرياح أو الأمواج العاتية – عنصر آخر – فتصادم الناس، أو قُذفوا في البحر، وتصلبوا وارتبكوا، خلال هذه اللحظة المرعبة. ساعدهم ستيفي وألماني آخر يُدعى إنجا؛ واضطررت إلى تنظيمهم في مؤخرة القارب وإخبارهم بماذا يتشبثون.
سألت أحدهم “من أين أنت؟” فأجابني “من السودان. هل تعرف السودان؟”. فقلت له “أجل”. وبحلول ذلك الوقت، شعرت بالفخر للعملية التي قمنا بها في المياه المظلمة، وشعرت أن منزلي في الولايات المتحدة يشبه كوكبًا آخر. وقد سألني أحد السودانيين “من أين أنت؟” فأخبرته بأنني “من برلين”.
كان القارب يتسع لـ 69 شخصًا. وكان 68 رجلاً من نيجيريا ومالي والنيجر والسودان وإريتريا وغانا والسنغال وغينيا بيساو وغينيا. فقد أحدهم وعيه في القارب المطاطي الرئيسي واحتاج إلى المساعدة في القسم الطبي. ترنح عدد منهم على مؤخرة السفينة بعد ذلك، وبدوا ضائعين. لكن لم يسقط أحد في الماء ولم يغرق أحد.
كانت المرأة الوحيدة نيجيريةً تبلغ من العمر 19 سنة. اختفت في ملجأ النساء على متن السفينة لبضعة أيام، بحضور ممرضة التوليد، وهي أم من فيرمونت تدعى جايد. وقد أخبرتني أن الشابة أمضت حوالي سنة في ليبيا. وقالت جايد إنها “لا تتحدث كثيرا في الوقت الحالي”.
لم يكن هذا الأمر جيدًا، لكنني اخترت عدم التفكير في الأمر. في البداية، كان الجميع مصابين بدوار البحر. وقد زادت حالات الانتفاخ في الساعات والأيام التي تلت تطهير القارب، وعلى الطريق الطويل إلى رافينا بإيطاليا، قاومت السفينة الأمواج مثل حصان جامح. وخلال نوبات ساعة الفجر المغيّمة، اقترب مني الرجال، واحدًا تلو الآخر، لتناول أقراص الباراسيتامول أو أقراص “فومكس”. وخلاف ذلك، لم يكونوا يطالبون بشيء.
سألت الطبيب ويلي، عن الباراسيتامول، لأن الرجال قدموا عشرات الأسباب المختلفة وغير المؤكدة لحاجتهم إليه. وقلت له “لقد وفرنا كمية في اليوم الأول. وبمجرد أن سمعوا عن ذلك، أراد الجميع تناول بعض الباراسيتامول”. فقال لي “ربما أشعر فقط أنهم يتلقون العلاج الطبي. فقلت له “هل هذا يساعدهم؟” فابتسم قائلا “لا حرج مع العلاج الوهمي”.
وزّعنا بطانيات وأغطية للرأس ووجبات خفيفة بسيطة. كان لدينا مراحيض وحمامات على متن السفينة، بالإضافة إلى عبوات من الشاي الأسود. ولكن كان على الرجال أن يناموا على سطح السفينة الخشبي. كانت هذه الظروف أكثر راحة مقارنة بالمعسكرات الليبية ولكنها لم تكن مختلفة بشكل كبير.
قال نيجيري مرهق في منتصف العمر كان متيقظا وعيناه داكنتان ولحيته بيضاء اللون، إن “ليبيا بلد سيء”. وقال إن اسمه لوكي، أو على الأقل، هكذا فهمه معظمنا. فسألته قائلا “ما المدة التى مكثتها هناك؟”. فأجابني “سنتان”. سألته مجددا “هل اضطررت للعمل؟”. فتدخل صديقه إيمانويل قائلا “أنا لحام. كانوا يصطحبونني للقيام بأعمال اللحام”. فسألته “هل كنت تتلقى أجرا على ذلك؟”. فقال «لا، عندما أطلب أجرتي، كانوا يُشهرون مسدسا في وجهي”.
حدّق لوكي عبر سطح السفينة ولمس كتفي قائلا: “في ليبيا، إذا أردت أن تنام، فعليك النوم بعين واحدة وإبقاء الأخرى مفتوحة”. فسألته “ماذا أطعموك؟” فأجابني بالنفي. فسألته متعجبا “ألم يقدموا لك طعاما؟”. أجاب إيمانويل “لقد كانوا يضربونني. ثم يقومون بجلدي بأنبوب مثل ذلك”، مشيرا إلى أنبوب ملفوف على سطح السفينة.
قال لوكي إنه هرب من معتقل زوارة، لكنه لم يحدد كيفية صعوده إلى القارب. وقال إيمانويل إنه دفع 400 دينار ليبي، حوالي 80 دولار أمريكي، مقابل الرحلة. وتتقلب الأسعار اعتمادًا على الشخص، لكن المعدل المنخفض يلمح إلى مدى تقدير المهربين لفرصة نجاة القارب. التفت إلى لوكي وسألته “كيف يمكنك تهجئة اسمك؟” فأجاب “إل – يو – سي – كاي – واي”. فضحكت قائلا «فهمتك”.
أطلقت الشابة على نفسها اسم “هابيناس”. واخترع العديد من اللاجئين أسماء، لكن اسمها كان ترجمة من لغتها الأم “بيني”. تحسن مزاجها وحالتها خلال اليومين المقبلين، وسألتها جايد عما إذا كانت تريد التحدث إلى صحفي. قابلتني هابيناس على السطح الرئيسي للسفينة: كانت متفتحة، فصيحة اللسان وخجولة في البداية، لكنها سريعة الضحك. لقد كنت خائفًا من قصتها أكثر مما كانت عليه.
قالت إن إحدى صديقاتها عرضت عليها وظيفة في ليبيا، لذا شقت طريقها شمالاً على متن سلسلة من السيارات البرية المزدحمة. قالت “لكن عندما أتيت إلى ليبيا لأول مرة، لم تخبرني صديقتي هذه أنني سأعمل في الدعارة. أخبرتها أنني لا أستطيع القيام بهذا العمل. فطلبت مني دفع مليوني دينار”. فتعجّبت قائلا “مليونان؟”.
فأجابت “نعم. حوالي 400 ألف دولار. لذلك حاولت الهرب. وكان ذلك عندما صادفت الشرطة الليبية”، التي قالت إنها وضعتها في معسكر اعتقال. وتابعت قائلة “عندما كنت داخل السجن، تحرش بي الحراس، وأصبحت حاملاً”. كانت تعتقد أن طعام المخيم كان مليئًا بالأدوية المنومة لإبقاء اللاجئين خاضعين. وقد أجهضت بسبب المخدرات.
وأوضحت “عندما لاحظوا أنني لست على ما يرام، قرّروا إطلاق سراحي”. عاشت لفترة في حي الزاوية بالقرب من طرابلس. وقامت بمحاولة واحدة للعبور إلى أوروبا، لكن خفر السواحل الليبي اعترضها. وقالت “وصلت إلى ليبيا في قارب صغير سريع. وعندما جاؤوا، قالوا إنهم يريدون ضربنا وتفجير قاربنا، ويجب أن نموت جميعًا. لذلك توسلنا إليهم”. وعرض الليبيون اعتقالهم بدلاً من ذلك. وتكدس بعض الأشخاص على متن قارب خفر السواحل، بينما تم اصطحاب البقية على متن قارب مطاطي إلى الشاطئ.
هبطوا في زوارة. نقل خفر السواحل اللاجئين إلى “قسم الشرطة”، التي كانت تتعاون مع خفر السواحل. قامت الشرطة يتغريم كل شخص بـ 1000 دينار لمحاولة الهجرة غير الشرعية. وكان المقرضون، مثل سندات الكفالة، متاحين لتغطية التكلفة، وحصلت هابيناس على قرض. ولكن بعد ذلك احتاجت إلى وظيفة. وكان الليبيون هناك متعاونين أيضًا، لذلك وجدت وظيفة في تنظيف المنازل، دون مقابل بشكل أساسي، لتسديد ديونها. وقالت “كنت أعمل بجهد حتى تمكنت من تسديد القرض”.
في نيسان/ أبريل من السنة الجارية، بعد أن ادّخرت مبلغا لتغطية رسوم قارب آخر، وضع مهربو الزوارة هابيناس مع مجموعة من اللاجئين في هيكل قذر على شاطئ البحر – وهو ما وصفه مهاجر آخر بأنه “مرآب” – وانتظروا عدة أيام حتى هدوء الأمواج. وفي 20 نيسان/ أبريل، قبل الفجر، أمر المهربون أعضاء المجموعة بحمل زورق مطاطي عبر شاطئ صخري. (جرح رجل قدمه). وقدّم لهم المهربون بوصلة وهاتفا يعمل عبر القمر الصناعي وبعض الوقود. كانت الاتجاهات إلى لامبيدوزا غامضة، التي تقع على بعد حوالي 150 ميلًا بحريًا إلى الشمال الشرقي.
أمضوا 19 ساعة في الماء. لقد سلكوا الطريق الخاطئ – وقالت هابيناس “عدنا إلى اليابسة مرة أخرى” – لكنهم تمكنوا من تجاوز 70 ميلاً إلى الشمال الغربي قبل نفاد الوقود. أصيبوا بالانتفاخ بعد غروب الشمس. قالت هابيناس “عندما رأيتمونا يا رفاق، كانت المياه تتسرب من قاربنا. كان الماء يتسرب إلى الداخل. لقد تبللت البوصلة التي كنا نستخدمها، وكانت بطارية هاتفنا الذي يعمل بالأقمار الصناعية على وشك النفاذ”.
عندما شاهدوا أشعة كشاف السفينة، لم يكن لديهم أي وسيلة للتعريف بمكانهم. وقالت هابينيس “رأينا ضوءًا قادمًا من الخلف، وضوءًا آخر قادمًا من الأمام”. كان الضوء من الأمام تابعا للقارب المطاطي الرئيسي، وقد خمنت أنه لم يكن قاربًا ليبيًا عندما سمعت صوت فيفيانا.
لكن العواطف والصبر تلاشت على متن القارب، وكان الخوف العام من أن الليبيين قد أمسكوا بهم يبعث على الجنون. لذا فإن القارب المطاطي الرئيسي كان يمثل في البداية بريق أمل. أخبرتني فيفيانا “عندما رأونا، تدافعوا نحونا، وكان الجميع سعداء، وقاموا بمصافحتنا. لكن هذا أيضًا شكّل خطرا كبيرا من حيث استقرار القارب”.
بحلول الوقت الذي وصل فيه القارب المطاطي، تحول المشهد إلى شيء أكثر فوضوية. ظلّ الوضع خطيرًا لمدة ساعة على الأقل، وذكرني باللوحة الشهيرة التي رسمها الرسام تيودور جيريكو والتي تحمل اسم “طوافة قنديل البحر”، التي علقت في ذهني لأسابيع. عندما رست فرقاطة فرنسية تسمى “ميدوز” على ضفة رملية قبالة غرب إفريقيا في سنة 1816، غادر الضباط في قوارب النجاة، لكن الطبقات الفقيرة (من بينهم امرأة) نٌقلت على متن قارب مؤقت مزدحم. كانت هناك تقارير عن انتشار الجوع وأكل لحوم البشر، وقد نجا 15 شخصا فقط. كانت قصة “ميدوز” أكثر قسوة وفقرًا مما حدث في زوارة في 20 نيسان/ أبريل لكنها أصبحت فضيحة في فرنسا، وعلق رسم جيريكو في أذهان الفرنسيين في باريس بعد بضع سنوات.
تكمن وجهة نظري في أن حادثة 20 نيسان/ أبريل تحدث كل يوم على البحر الأبيض المتوسط – ولم يتم الإبلاغ عنها، ويتم تجنب وصفها – لأن أوروبا لم تسيطر على طرق الهجرة الخاصة بها. والفكرة القائلة إن دفع ملايين اليوروهات لخفر السواحل الليبي سيخمد بطريقة ما أدفاق الهجرة البشرية مزحة مريرة إن لم تكن أيضًا جريمة ضد الفطرة السليمة.
استغرق الأمر خمسة أيام للوصول إلى رافينا. فقد فرضت الحكومة الإيطالية قيودًا جديدة على سفن الإنقاذ هذه السنة لإبطاء تدفق المهاجرين، أحدها هو التخصيص المتعمد للموانئ البعيدة. كنا بالقرب من صقلية. تقع رافينا في أقصى الشمال بالقرب من البندقية. وكانت هذه السياسة نتاج حكومة رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، اليمينية المتطرفة الجديدة.
تخطط منظمة “إس أو إس هيومانيتي” لرفع دعوى احتجاجًا بحجة أن سياسة الموانئ البعيدة تتجاهل القانون الدولي. ولكن بعد سنوات من الهجرة غير المنضبطة، سئم الإيطاليون من تحمل عبء سياسات الهجرة المرقعة في أوروبا لدرجة أنهم انتخبوا رئيسة وزراء تتعاطف بشكل واضح مع الفاشية.
هل هناك طريقة أخرى لإدارة كل هذا؟ يبدو البحر الأبيض المتوسط الآن مثل خليج تايلاند في أواخر سبعينات القرن الماضي، عندما فرّ “الأشخاص على القوارب” من فيتنام بعد الحرب وبدأت الحكومة الشيوعية الجديدة في جمع أعدائها في معسكرات العمل بعد حرب فيتنام. أنفق الناس مئات أو آلاف الدولارات لركوب قوارب متهالكة ومكتظة متجهة إلى هونغ كونغ. وقام الرئيسان السابقان للولايات المتحدة، جيرالد فورد وجيمي كارتر، بوضع برنامج ضخم لإعادة التوطين في المنطقة برعاية الأمم المتحدة، الذي سمح لمواطني جنوب شرق آسيا بتقديم طلب لجوء من الخارج، دون الاضطرار إلى وضع أنفسهم تحت رحمة مهربي البشر. ويوجد حاليًا في الولايات المتحدة مجتمعات فيتنامية في كانساس، وكمبوديين في جنوب كاليفورنيا، ولاوسيين في تكساس، وما إلى ذلك.
أعلن الرئيس بايدن عن إنشاء سلسلة من “مراكز المعالجة” حول أمريكا اللاتينية لتنفيذ برنامج مشابه. ويمكن للاجئين بالقرب من هذه المراكز التعرف على عملية اللجوء مباشرة من المسؤولين الأمريكيين، بدلاً من مطاردة الأكاذيب والشائعات والوعود التي يتم نشرها على منصات التواصل الاجتماعي من خلال شبكات التهريب.
قال تيل رومينهول، رئيس العمليات في منظمة “إس أو إس هيومانيتي”، إن الكثير من الأشخاص الذين تم إنقاذهم من البحر الأبيض المتوسط ليس لديهم أدنى فكرة عن مدى جودة أو سوء فرص لجوئهم. وقال إن ما يزيد قليلاً عن 50 بالمئة ممن وصلوا في أوروبا بعد عمليات الإنقاذ هذه أُمروا بالعودة إلى بلدانهم الأصلية.
أوضح رومينهول “إذا مررت بهذه العملية في وطنك، وأخبرك أحدهم بأنك “لا تملك فرصة حاليا”، فقد تفكر مرتين قبل أن تطأ قدمك متن قارب. وفي الوقت الحالي، نرى الكثير من المتعلمين يفرون من هذه البلدان التي تحتاجهم. وأعتقد أن عملية اللجوء عن بُعد ستفتح إمكانية إعادة النظر”. وقد أعرب رومينهول عن رغبته في تسهيل نظام التأشيرة في أوروبا، لأن العديد من الجنسيات في إفريقيا غير مؤهلة للحصول على تأشيرات بسيطة
في الوقت الحالي، تكمن الحقيقة في أن الشخص الذي يريد الدراسة في أوروبا لا يمتلك في الأساس أي فرصة لطلب تأشيرة من أفريقيا، وعدد من الأشخاص الذين أنقذناهم من القارب – بما في ذلك مغني بوب من غانا، الذي رأينا مقاطع فيديو احترافية على صفحته على “إنستغرام” – كانوا ماهرين ومن اللاجئين الاقتصاديين المتعلمين الذين فقدوا ببساطة مصادر دخلهم. وكان من الممكن أن تكون عملية الحصول على تأشيرة أكثر ملاءمة من رحلة خطيرة سرية.
كان صباح يوم هبوطنا في رافينا باردًا ومغيّما، بينما كان الرجال يقومون بطي بطانياتهم ويستعدون للمغادرة، أقبل أحدهم إلي وسألني عما إذا كان بإمكاني “إيقاظ السيدة في الداخل”، أي هابيناس، لكنها كانت مستيقظة بالفعل. كان جميع اللاجئين متيقظين بشدة. كانوا يرتدون قبعات صوفية وأغطية للرأس لدرء البرد – ولم يشهد أي منهم طقسًا باهتًا مثل الربيع الإيطالي الشمالي – وكانت السفن الضخمة التي تتحرك داخل وخارج ميناء رافينا شيئًا جديدًا عليهم أيضًا.
كان الرصيف الخرساني في ميناء رافينا مزدحمًا بسيارات الشرطة، وسيارة الإسعاف، والصليب الأحمر، وخفر السواحل الإيطالي، والصحفيين، ومسؤولي الهجرة، ومسؤولي الميناء بالزي الرسمي. جاء أعضاء الصليب الأحمر لتوزيع الأقنعة وبدلات تايفك. وكان تشخيص الأفارقة لكوفيد سلبيا، لكنهم كانوا يسعلون بشدة. كما تم توزيع بطانيات الطوارئ المصنوعة من الألمنيوم الخفيف، وسرعان ما جلس الوافدون الجدد في صفوف تحت الإضاءة الخافتة. وسمح المسؤولون الإيطاليون الذين يحملون لوحات تسجيل لخمسة أشخاص بالنزول في كل مرة. قمنا بتوديعهم، وكان الأمر عاطفيًا، لأنه مثل معظم مجموعات الأشخاص المحاصرين في سفينة لفترة من الوقت، لن نلتقي مرة أخرى في نفس الموقف.
شاهدناهم يدخلون مبنى لإجراء فحوصات طبية – حاملين معهم مخاوف وطموحات وأحلام غير عقلانية وأمل ومعاناة مستحيلة. وتعتقد جايد أن هابيناس لديها فرصة قوية للجوء. ولكن 53 بالمئة منهم، إحصائيًا، سيُطالَبون بالعودة إلى وطنهم. تستمر آلية التهريب في التموج حتى على شواطئ أوروبا، ويبقى المهربون في ليبيا هم المستفيدين الوحيدين.
المصدر: فورين بوليسي