ترجمة وتحرير: نون بوست
هل افتعل طفلك نوبة غضب وأنت لا تعرفين كيف يسعك التعامل مع سلوكه؟ هل من المقبول وضع حدود لسلوكه بإرساله إلى غرفة نومه؟ مع اقتراب فصل الصيف، لا يزال علماء النفس والأسر منقسمين حول هذه الأسئلة، مما يعيد إحياء الجدل حول القيود أو التربية التي تستبعد العقوبات فيما يعرف بـ “التربية الإيجابية”.
لا أحد يُعارض حقيقة أن التربية يجب أن تخلو من كل أشكال العنف الجسدي والنفسي. ولا تزال وحشية القرون الماضية محفورة في الأذهان، بدءًا من إجبار الطفل على ارتداء قبعة الغبي وصولًا إلى الحبس الانفرادي، ونطاق الممارسات العقابية القاسية لا حصر له تقريبًا، كما يتضح من قاموس “السوط والصفع” الذي تم نشره مؤخرًا. مع ذلك، فإن حظر العنف يختلف عن إدانة السلطة. للإكراه فضائله وكذلك العقاب. ومن المدهش في هذا الجدل أن نرى كيف يُزيف غالبًا التاريخ التعليمي أو حتى يُنسى ببساطة.
مدارس خالية من القيود: تاريخ يوتوبيا فاشلة
كانت المدارس الخالية من الإكراه والعقاب موجودةً بالفعل وذلك من إطار تجربة أساتذة الأقران في هامبورغ في عشرينيات القرن الماضي. كتب المعلم السويسري جاكوب روبرت شميد، الذي يروي هذه التجربة المذهلة في كتابه “المعلم الرفيق والتعليم التحرري”، أنه “منذ الأيام الأولى، أخبر المعلمون تلاميذهم أنه لن يكون هناك المزيد من العقوبات أو، في الواقع، لم يعد هناك حديث عن المحظورات أو أي قواعد قد تعيقهم استخدام حريتهم الكاملة”. اعتقد معلمو هامبورغ أن الحرية فقط، التي يعني بها غياب القيود، هي التي يمكن أن تفتح بوابة تُفجّر مواهب الطفل ومهاراته.
جسّدت هذه التجربة، في أكثر أشكالها راديكاليةً، يوتيوببا فضاء تعليمي خالٍ من جميع أشكال القيود لتنتهي بفشل ذريع ومرير خاصة لهؤلاء الأساتذة المبتكرين الذين أظهروا حماسًا غير مألوف لأكثر من عشر سنوات لهذه التجربة. وفقًا لشميد، كان على كورت زيدلر، أحد أشهر مشجعي الحركة، أن يعترف بكل أسف بأنه “أينما سمح الناس لأنفسهم أن يسترشدوا بثقة غير محدودة في تربية الأطفال، في تعزيز قوة إرادتهم، ومثابرتهم، وضمان غرائزهم وتسامح الأفراد لتكوين مجتمع […]، رأينا تشكل عصابات من الأطفال المشاغبين … “.
لذلك دعونا لا نخطئ، يحتاج الأطفال إلى التوجيه والإكراه في بعض الأحيان. وفي محاضراته التمهيدية الجديدة حول التحليل النفسي، أوضح فرويد بوضوح أن الوظيفة الأولى للتربية هي تعليم الطفل “التحكم في غرائزه. من المستحيل إعطاؤه الحريّة لتنفيذ جميع غرائزه دون قيود”. وبالتالي “ينبغي أن تشمل التربية التثبيط والحظر والمنع”. تتطلب مهمة تربية الطفل قبل كل شيء التشجيع والدعم والتقدير، لكن لا يمكن أن يحدث ذلك دون حظر بعض السلوكيات.
الأثر التربوي للعقاب
غالبًا ما يشير مناصرو ما أحب أن أسميه أيديولوجية “لا هذا ولا ذاك” (لا إكراه ولا عقاب) إلى الخبرات التعليمية التي – على عكس ما قد يقولون – لم تحظر العقوبة أبدًا. افتتح تولستوي في سنة 1859 لبضع سنوات قصيرة مدرسة في ياسنايا بوليانا تعد من النماذج التي لجأت في الواقع إلى الإقصاء والحرمان.
افتتحت الطبيبة والمعلمة الإيطالية ماريا مونتيسوري مدرسة تُعرف باسم كازا ديل بامبيني تضم أطفالًا صغارًا، وتذكر في قواعدها الداخلية لسنة 1913 أن الأطفال “العنيدين” و”القذرين” سيتم طردهم من المدرسة. استخدمت العقوبات في سمرهيل، المدرسة التي تأسست في سنة 1921 من قبل المعلم الاسكتلندي ألكسندر نيل، والتي كان من المفترض أن تكون مكانًا يكرس مبادئ الحرية. في تلك المدرسة، يُفرض على الأطفال غرامات وتنبيهات وأعمال منزلية من قبل أقرانهم إذا خالفوا القواعد في إطار محكمة شكلية.
بشكل عام، غالبا ما تكون المدارس التي ادعت أنها خالية من أي عقوبات مدارس استقبلت أعدادًا صغيرة أو حتى مختارة من التلاميذ، مما يتعارض مع مبدأ الضيافة. كما أنها أخفت ممارساتها العقابية وراء ما يسمى بالعقوبات “الطبيعية”. وهي مدارس حُرم منها الكبار من حق عقاب الأطفال، كما كان الحال في سمرهيل.
لا تأتي وجهات النظر المبتكرة من أولئك الذين حاولوا استنزاف حقيقة إيجابية العقوبات، بل تأتي من أولئك الذين ركزوا على إضفاء معنى تعليمي عليها. على وجه الخصوص، يُظهر التاريخ أن العقوبة التعليمية لها دائمًا هدف ثلاثي: إعادة التأكيد على قاعدة مشتركة، وإنشاء طفل مسؤول، وإدراك الطفل لحدوده.
تتمحور العقوبة التعليمية حول تعليق أحد حقوق الطفل وتضييق الخناق على مجال الاحتمالات والفرص المتاحة له؛ فعلى سبيل المثال: “لن أتحدث إليك مرة أخرى لأنك كنت تقول أشياء غير جيدة طوال فترة الظهيرة”؛ “سأتوقف عن مساعدتك لأنك لا تفعل ما يفترض أن تفعله، فأنت لا تلتزم بالقواعد”.
دعونا نتوقف عن التفكير في العقوبة على أنها بمثابة تكفير عن ذنب مرتكب. فليس الهدف من العقوبات إيذاء الطفل وإنما دفعه ليتعظ من أخطائه. يمكن أيضًا، في ظل ظروف معينة، أن تتخذ العقوبات شكلًا إصلاحيا: “أنت دائمًا ما تزعج بول الصغير: ستريه الآن كيف تتصرف عندما تصبح شخصا بالغا، وستساعده في واجبه المنزلي حتى نهاية الأسبوع”. ويتضمن إصلاح السلوك القيام بعمل إيجابي لصالح شخص ما.
قواعد وقيود وضمان الحقوق
ظهرت مؤخرًا عقيدة “لا هذا ولا ذاك” مع انتشار مبادئ التربية الإيجابية. حسب دينيس جيفر، أستاذ التربية في جامعة لافال كيبيك، فإن ما يحدث أننا نبدأ بإسكات الأصوات وتغيير المسميات والتلاعب بالكلمات، حيث يصبح المعلم مدربًا أو مسيّرًا؛ تصبح القاعدة هي السلوك المتوقع، والعقوبة هي النتيجة لذلك.
دعونا نواجه الحقيقة: المعلم هو من يُعلّم، والقاعدة تظل قاعدة. ربما يجدر بنا أن نتذكر أن فكرة القاعدة لها ثلاثة أبعاد:
-القاعدة تعني النظام: القاعدة هي شيء يتكرر بشكل منتظم، بمعنى أنه يمكن التنبؤ به؛
-مشتق من المفهوم اللاتيني “ريغيري” ( التي تعني توجيه)، والقاعدة تقيد سلوك الطفل؛
-وأخيرًا وليس آخرًا، ضمان الحقوق. لا تعني التربية ابتكار حيل لإخفاء القواعد الاجتماعية في ظل القيود الطبيعية المفترضة، كما يقترح فيلسوف التنوير الفرنسي جان جاك روسو في إيميل. وتتمثل التربية في نقل الطفل من المفهوم الديني اليوناني للقاعدة “ثميس“، إلى المفهوم القانوني “نوموس”.
تعتبر التصورات الأولى دائما دينية. ينظر الطفل إلى القاعدة حتمًا على أنها سلطة متعالية وغير قابلة للتغيير توضع لكبح جماح خططه ورغباته. وباعتبارها مثيرة للإعجاب والرهبة في الوقت ذاته، تشجع القواعد، بشكل متناقض، الطفل على التلاعب بها وتجاوزها.
يشمل النضج الانفتاح على مفهوم قانوني له ثلاث خصائص مختلفة للغاية. يفهم الأطفال أنه يمكنهم المشاركة في بناء القاعدة. صحيح أن القاعدة تكتسب بمجرد تطويرها شكلاً من أشكال السلطة المفروضة على الطفل، لكن هذه السلطة يمكن تغييرها أو تحسينها أو تكييفها. وينظر إلى القواعد على أنها حلقة وصل أكثر من مجرد قيد. فهي تربطنا من خلال مطالبة الجميع بالواجبات ذاتها وتضمن لنا الحقوق ذاتها. ويتمحور جوهر العمل التربوي حول إدماج كل طفل في هذه العلاقة السلمية والذكية مع القواعد والأنظمة.
المصدر: الكونفرسايشين