فشلت الجلسة الثانية عشرة التي عقدها المجلس النيابي اللبناني يوم الأربعاء 14 يونيو/ حزيران في انتخاب رئيس جديد للبنان، بعد مرور قرابة 7 أشهر ونصف على الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى.
ودخل لبنان بعد هذه الجلسة في مرحلة جديدة لم تظهر معالمها بعد بشكل واضح، إنْ لناحية فرص الخروج من حالة الانسداد والجمود التي تؤثّر سلبًا على الواقع الاقتصادي والحياتي المتردّي أصلًا، أو لناحية اشتداد الأزمة وانزلاق البلد نحو المجهول الذي قد يكون الكيان اللبناني أحد ضحاياه.
المسار الدستوري للانتخاب
ينصّ الدستور اللبناني في مادته رقم 73 على انتخاب رئيس للجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس بشهر على الأقل وشهرَين على الأكثر، غير أن ذلك لم يحصل مع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال عون في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2022، علمًا أن المجلس النيابي عقد أولى جلساته لهذه الغاية في 29 سبتمبر/ أيلول 2022، لكنها فشلت في انتخاب الرئيس.
كما ينصّ الدستور اللبناني في المادة 49 على أن انتخاب رئيس الجمهورية يكون بالثلثَين في الدورة الأولى، ويُكتفى بالأغلبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي.
وهنا نشأ نقاش حول تفسير هذه المادة المبهمة التي لم تشر صراحة إلى النصاب الدستوري لانعقاد جلسة الانتخاب، كما أنها بقيت غامضة لناحية الحديث عن الاكتفاء بالأغلبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي.
فهناك من فسّر المادة على أن الاقتراع والنصاب في دورة الاقتراع الأولى هو الثلثان، أما فيما عداها من دورات اقتراع فإن النصاب والاقتراع ليسا بحاجة إلى الثلثَين، بل يُكتفى بالأغلبية المطلقة (65 نائبًا)، وكذلك بالنسبة إلى احتساب الثلثَين في أول جلسة يعقدها المجلس النيابي لانتخاب الرئيس وليس كل جلسة.
هذا بخلاف تفسير دستوري آخر اشترط نصاب الثلثَين لانعقاد المجلس للانتخاب، واشترط الحصول في كل جلسة انتخاب في الدورة الأولى على الثلثَين والاكتفاء في الدورة التي تليها في الجلسة نفسها بالأغلبية المطلقة، وليس في جلسة منفصلة.
والحقيقة أن العُرف المعمول به في لبنان في تاريخ انتخاب رؤساء الجمهوريات، كان نصاب الثلثَين أو أكثر من أعضاء المجلس النيابي، نظرًا إلى أن معظم رؤساء الجمهورية الذين سبقوا أتوا إلى كرسي الرئاسة الأولى بالتوافق.
في الاثنتي عشرة جلسة السابقة، والتي فشلت جميعها بانتخاب رئيس، كانت الدورة الأولى من كل جلسة تنعقد بنصاب أكثر من الثلثَين، غير أن أيًّا من المرشحين لم يحصل على أصوات الثلثَين في كل الدورات الأولى من كل الجلسات.
أما الدورة الثانية من كل الجلسات فلم تنعقد، بالنظر إلى انسحاب الكثير من النوّاب منها وتعطيل نصابها، على اعتبار أن ذلك جزءًا من اللعبة الديمقراطية المعمول بها، بغضّ النظر عمّا يلحقه ذلك من أذى بمصالح البلاد والعباد.
أسباب فشل الجلسة الثانية عشرة
فشلت الجلسة الثانية عشرة التي انعقدت يوم الأربعاء في 14 يونيو/ حزيران في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تمامًا كما حصل في الجلسات السابقة، غير أنّ هذه الجلسة شهدت انقسامًا جديدًا ومن نوع مختلف هذه المرة أظهر تحالفات جديدة في المجلس النيابي، ومسرحًا جديدًا في الساحة السياسية قد يشكّل مدخلًا للبنان إلى مرحلة جديدة قد تكون مختلفة جذريًّا.
فالجلسة الثانية عشرة برز فيها مرشحان رئيسيان، أحدهما النائب والوزير السابق سليمان فرنجية، وهو مدعوم من الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) بشكل أساسي، ومن بعض النواب الآخرين المقرّبين أو المحسوبين كحلفاء للنظام السوري، وقد أعطى هذا التحالف للمرشح فرنجية 51 صوتًا من أصوات النواب (27 نائبًا شيعيًّا، وبعض النواب المسيحيين المقربين من فرنجية، وبعض النواب السنّة المقربين من النظام السوري).
في المقابل، برز اسم الوزير السابق جهاد أزعور، بعد تقاطع أغلب القوى المسيحية على تبنّي ترشيحه ودعمه في معركة الانتخابات الرئاسية، واصطفت خلف المرشح أزعور كتل القوات اللبنانية، التيار الوطني الحر، الكتائب اللبنانية (كلّها قوى مسيحية)، إضافة إلى كتلة اللقاء الديمقراطي التي يتزعّمها تيمور جنبلاط نجل الزعيم الدرزي الوطني وليد جنبلاط، فضلًا عن مستقلين أو ينتمون إلى قوى التغيير، وقد تحصّل المرشح أزعور على 59 صوتًا لم تكن كافية لإعلانه فائزًا بالانتخابات.
في مقابل هذا الاصطفاف الذي أخذ منحى طائفيًّا بين الشيعة والمسيحيين، وفي مقابل هذين الفريقَين فضّل بعض النواب، وأغلبهم من المسلمين السنّة، الاقتراع لخيار ثالث خارج الاصطفاف، عبّروا عنه إما بالاقتراع لما سمّوه “لبنان الجديد” وإما لأسماء غير مطروحة لرئاسة الجمهورية، وقد انحاز إلى هذا الخيار الثالث قرابة 18 نائبًا.
الدورة الأولى من الجلسة الثانية عشرة أظهرت بعد فرز الأصوات هذه الأرقام، ما حدا بنواب الثنائي الشيعي (أمل وحزب الله) وحلفائه إلى الانسحاب من القاعة العامة لمجلس النواب، وتعطيل نصاب الدورة الثانية من الجلسة الثانية عشرة، وبالتالي إفشال انعقادها خوفًا من حصول المرشح جهاد أزعور على أكثر من 65 صوتًا فيها فيما لو انعقدت، وبذلك يصبح فائزًا بالرئاسة اللبنانية.
تحالفات جديدة.. مشهد سياسي جديد
معركة رئاسة الجمهورية في لبنان هذه المرة أخذت بُعدًا مهمًّا داخليًّا وخارجيًّا، على الصعيد الداخلي فإن أول ضحايا هذه المعركة هو التحالف الذي كان قائمًا بين “حزب الله” والتيار الوطني الحر، حيث شكّل التيار مظلّة مسيحية لـ”حزب الله” منذ التوقيع على تفاهم مار مخايل عام 2006، وقد استمر هذا التفاهم طيلة الفترة السابقة، خاصة عندما كان ميشال عون رئيسًا للجمهورية، وغطّى التيار الوطني الحر من خلال هذا التفاهم تدخّل “حزب الله” في سوريا وانخراطه بالحرب هناك.
أما اليوم فقد اصطف كل من الفريقَين في مواجهة الآخر، لقد انحاز التيار الوطني الحر إلى جانب القوى المسيحية الأخرى (القوات اللبنانية والكتائب)، منسجمًا ومتناغمًا إلى حدّ كبير مع البيئة المسيحية التي لم تعد تحتمل الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى.
وتعتبر أنّ المسؤول عن هذا بشكل أساسي هو “حزب الله”الذي يتبنّى ترشيح سليمان فرنجية، وهو غير مقبول بشكل واسع في البيئة المسيحية، إذ تقتصر شعبيته وحضوره على منطقة محصورة في قضاء زغرتا في شمال لبنان، ولا يحظى بكتلة نيابية مسيحية وازنة في المجلس النيابي.
على الجانب الآخر يتمتّع منافسوه سمير جعجع وجبران باسيل بتأييد وحضور مسيحيَّين واضحَين، وتجدر الإشارة إلى أن رئيس الجمهورية في لبنان بموجب العرف الدستوري هو من المسيحيين الموارنة.
كما أن تحالف الزعيم الدرزي، وليد جنبلاط، ورئيس البرلمان، رئيس حركة أمل نبيه برّي، قد اهتزّ أيضًا، رغم أنه تحالف تاريخي قديم، فقد اصطفّ كل منهما مقابل الآخر في هذه المعركة الرئاسية، لكن أغلب الظن أن براغماتية الرجلَين كفيلة بإعادة نسج ووصل ما انقطع بينهما.
أما في المشهد السياسي العام، فقد أظهرت نتائج الجلسة الثانية عشرة أنّ الثنائي الشيعي بات محاصرًا ومعزولًا في الداخل اللبناني إلى حدّ ما، وعاجزًا عن فرض رؤيته وإرادته كما كان يحصل من قبل، فهو رغم الجهد ومحاولات الإقناع التي بذلها بل ربما الضغط بأكثر من طريقة، لم يستطع أن يحشد لمرشحه سليمان فرنجية أكثر من 51 صوتًا من أصل 128 نائبًا، وهذا الرقم بكل تأكيد سيتراجع فيما لو انعقدت في الغد جلسة أخرى للانتخاب.
لكن ذلك قد يدفع هذا الفريق إلى ممارسة بعض فائض القوة الذي يتمتّع به، كما حصل في مرات سابقة، من أجل الخروج من العزلة وإنهاء حالة الجمود السياسي والقفز بالبلد إلى مربع آخر، غير أن أي خطوة من هذا القبيل تحمل معها الكثير من المخاطر، خاصة أن الناس في لبنان تعيش حالة من فقدان الأمل الذي قد يدفعها إلى الانخراط في الفوضى على قاعدة “عليّ وعلى أعدائي”، ما قد يجعل الجميع ينخرطون في الفوضى ويكتوون بنارها، وهو ما يهدد الكيان اللبناني برمّته.
في المشهد السياسي العام بدا المسلمون السنّة الحالة الأضعف والأقل تأثيرًا في الساحة السياسية، حيث تشتّتت أصوات نوابهم (27 نائبًا) بين المرشحَين الاثنين والخيار الثالث، وهو ما يعكس حالة الإحباط التي يعيشونها والتي يتحدث عنها البعض ويرفضها البعض الآخر، وهي في الحقيقة فقدانهم للعمق العربي الإسلامي الذي كان يمثّل بالنسبة إليهم مصدر قوة تضاف إلى قوة حضورهم وتأثيرهم في لبنان.
تبقى مسألة، وهي أن العامل الخارجي المتمثل بالقوى الإقليمية وعلى رأسها إيران، والدولية وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، يمثل فاعلًا أساسيًّا ومحرّكًا في الاستحقاق الرئاسي اللبناني، وإن لم يكن هذا العامل ظاهرًا للعيان أو في متناول الصورة، لكنه يعبّر عن نفسه من خلال القوى الداخلية اللبنانية التي تحجز لنفسها مقاعد في المجلس النيابي اللبناني.
هذا العامل الخارجي يكاد يكون هو الفاعل الحقيقي في المشهد اللبناني واستحقاقاته، ويبدو أن المجلس النيابي والقوى اللبنانية ينتظران ويستجديان توافقًا وتفاهمًا بين القوى الإقليمية والدولية من أجل إنتاج صيغة حلّ في لبنان، ولا ندري إن سيكون هذا التوافق أو التفاهم أو التسوية قريبًا أم بعيدًا مرتبطًا ببقية الأحداث التي تجري على المسرح العالمي.