في اليوم الثاني عشر من عدوان 2008، حوّل صاروخ إف-16 من الطيران الإسرائيلي منزل عائلة المواطن أكرم جمعة، شرقي القطاع، المكوّن من 4 طوابق إلى حفرة كبيرة، فلم يعثر بها على حجر أو أي شيء من أثاث البيت أو أوراقه الرسمية، تشردت العائلة المكونة من 25 فردًا في أنحاء متفرقة من قطاع غزة.
أدرك المواطن الخمسيني أن وراء الحفرة قاع آخر سيفاقم المأساة، حين وجد نفسه مضطرًا لاستئجار شقة لا تتجاوز الـ 90 مترًا، وحينما عجز عن دفع الإيجار انتقل ليتقاسم غرفتَين له ولعائلته إلى جانب شقيقه ووالدتهما، فلم يتم الإيفاء بالوعود بإعادة بناء منزله رغم مرور 15 عامًا، بحجّة أن “دوري بالبناء لم يحن للآن” وفق ما يقوله لـ”نون بوست”.
المواطن رباح أبو سويرح اختلفت ظروفه قليلًا، لكن الجرح ذاته، بعد عام 2017 توقفت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في غزة “الأونروا” عن دفع بدل إيجار للبيت الذي لجأ إليه هو وأسرته، بعدما تدمّر منزله بشكل كلّي في حرب 2014، ما عرّضه للإصابة بعدة جلطات، ومنذ تلك الفترة يسكن في خيمة مقامة في وسط منزله المدمّر لا تصلح للحياة الإنسانية.
ولا يتوانى المتضررون، من خلال تشكيل لجنة تطالب بحقوقهم، عن تنظيم الوقفات الاحتجاجية، والمطالبة بضرورة تنفيذ الوعود ودفع المستحقات المتراكمة من قبل الجهات المتعهّدة، أبرزها الأونروا في غزة.
يقول رئيس لجنة متضرري عدوان 2014، عبد الهادي مسلم، إن الأهالي المتضررين ممّن فقدوا منازلهم أو جزءًا منها، يعيشون ظروف معيشية صعبة للغاية، هذه المعاناة ليست وليدة اللحظة بل نتيجة تراكم 9 سنوات من الانتظار، الكثير منهم بلا مأوى، ويضطر العديد منهم اللجوء إلى تشييد الخيم، مشيرًا إلى أن بعضًا ممّن تمكنوا البناء مطلوبين لأجهزة الشرطة، نتيجة تراكم ديونهم عند أصحاب محلات بيع مواد البناء، حيث اضطروا للاستدانة وتصليح بيوتهم على أمل أن تقوم وكالة الأونروا بصرف المستحقات.
يضيف مسلم لـ”نون بوست” أن من لم يتمكن من إعادة ترميم منزله، لعدم توفر المال الكافي ومماطلة الأونروا بدفع التعويضات عن الأضرار، تزداد أزماته في فصلَي الصيف والشتاء حيث تنتشر الأمراض بين أطفاله، بفعل تسرُّب مياه الأمطار إلى داخل بيته، وانتشار الحشرات والقوارض والرطوبة في الحر الشديد.
ويفيد أن من بين المتضررين 350 هدمًا كليًّا، و9 آلاف و8 متضررين بشكل بليغ وجزئي أخذ دفعة واحدة من 30 إلى 50%، و7 آلاف و680 متضررًا لم يستلم أي دفعة بتاتًا، و42 ألف متضرر حصل على مبلغ تراوح من 100 إلى 1000 دولار لمرة واحدة، مؤكدًا على أن وكالة الأونروا تهرّبت وتنصّلت بشكل كامل من التزاماتها اتجاه متضرري عدوان 2014.
توالي الحروب ثم تزايد الأعباء
ضاعف توالي الحروب والتصعيدات العسكرية الإسرائيلية التي تعرّض لها قطاع غزة المحاصر طوال أعوام 2008 و2012 و2014، والعدوان الدموي في مناسبات متكررة آخرها أيار/ مايو 2021، من مآسي الفلسطينيين وتشريد الآلاف منهم، وتزايدت أعباء ملفّ إعادة الإعمار في قطاع غزة، إذ تسبّبت الحروب في تدمير الكثير من الوحدات السكنية بشكل كلّي.
بلغة الأرقام، حرب 2008 دمّرت 11 ألفًا و122 منزلًا، منها 2627 دمارًا كليًّا و8 آلاف و495 دمارًا جزئيًّا، ما أدى إلى تشريد سكانها وتشتُّتهم بين منازل الأقرباء أو الأصدقاء، أو اللجوء إلى المدارس، أو إنشاء خيام على أنقاض المنازل.
أما الحرب الأكثر امتدادًا ودمارًا عام 2014، كان يقارب 100 ألف مهجر فلسطيني بلا مأوى، حين تدمّر 17 ألفًا و132 منزلًا، منها 2456 مدمرًا كليًّا و14 ألفًا و132 مدمرًا جزئيًّا، ورغم مرور 9 سنوات على انتهاء الحرب التي استمرت 51 يومًا، لا يزال معظم السكان التي دُمّرت منازلهم يقيمون في بيوت مستأجرة، لعدم حصولهم حتى اللحظة على أموال الدعم اللازمة لإعادة البناء.
كما نزح 75 ألف فلسطيني من مناطقهم خلال عدوان 2021، ورغم أن ثمة تسارعًا ملحوظًا في وتيرة إعمار المنازل التي دُمّرت في هذا العدوان، إلّا أن الطريق لا يزال متعثّرًا أمام مئات البيوت التي هُدمت في حروب سابقة، ناهيك عن عشرات الأبراج السكنية التي قُصفت بشكل كامل وتضمّ وحدات سكنية ضخمة لم يُطرح موضوعها على الطاولة أساسًا.
جهود واتفاقيات إعادة الإعمار
بعد انتهاء العدوان عام 2014، انعقد في العاصمة المصرية القاهرة مؤتمر “إعادة إعمار قطاع غزة”، برعاية مصرية نرويجية، ورئاسة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، حيث شارك في المؤتمر أكثر من 50 دولة و20 منظمة إقليمية ودولية، لإعادة تأهيل قطاع غزة وتعمير ما دمّرته “إسرائيل”، وتوفير الدعم المالي.
رغم الحماسة الكبيرة التي برزت في مؤتمر القاهرة، حيث تمَّ التقدّم بتعهدات كثيرة لإعادة إعمار غزة، لم يتم الوفاء بجزء كبير منها، ومن أصل مبلغ 5.4 مليارات دولار التي تمَّ التعهُّد به في المؤتمر، تمَّ تخصيص أكثر من نصفه لمشاريع إعادة إعمار غزة، لكن لم يتم تسديد سوى 51% منه، أما المانحون الدوليون فاتّسموا بالبطء في إرسال الأموال التي التزموا بها، ولم يصل معظمها في الحقيقة.
ولذا، اضطر الغزيون إلى الاعتماد على المساكن المؤقتة طوال تلك السنوات، وسط ارتفاع معدلات البطالة وتراجع الخدمات في مجالات الكهرباء والمياه النظيفة وإدارة النفايات، وفقًا لدراسة نشرها معهد “بروكينغز” في هذا الصدد.
الدور القطري هو الوحيد الذي كان بارزًا، حيث تعهّدت قطر بتقديم مليار دولار لجهود إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان الإسرائيلي، حتى بلغت مساهمات قطر حوالي 20 مليونًا و941 ألفًا و136 دولارًا عام 2015، بعد ذلك توالت المنح القطرية السنوية الصغيرة مثل منحة دعم كهرباء غزة، ومنحة حرب عام 2014، ومنحة مكافأة موظفي غزة، ومنحة الإغاثة الإنسانية العاجلة.
وبعد سنوات، أطلقت الأمم المتحدة حملة طارئة بمبلغ 95 مليون دولار عند انتهاء عدوان 2021، كما خصّصت 22.5 مليون دولار من المساعدات لتقديم الإغاثة وإيصال الخدمات الأساسية إلى الناس، مثل الرعاية الصحية والمياه.
فيما عكفت العديد من الدول على الإعلان عن تعهُّدات مالية لدعم جهود إعادة الإعمار في غزة، بما في ذلك مصر وقطر -وعد كل منهما بتقديم 500 مليون دولار مساعدات-، علاوة على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا.
على اختلاف كل الجهود التي بُذلت في سياق مؤتمرات الدعم والمنح لأجل إعادة إعمار قطاع غزة، برعاية ثلاثية تشمل الأمم المتحدة ومصر والسلطة الفلسطينية، إلا أن الإنجازات ما زالت محدودة لا تتناسب مع حجم الدمار، ولا أهمية إعادة البناء بالنسبة إلى الأسر المتضررة.
فجوات تطبيقية ومالية
في أحدث الإحصائيات، قال وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان في غزة، جواد الأغا، قبل أسابيع إن هناك 1980 حالة هدم كلي لمنازل لم يتم إعادة إعمارها حتى اللحظة، منذ العدوان الإسرائيلي على القطاع 2008 حتى عام 2023، بإجمالي 97.5 مليون دولار.
وأشار خلال لقاء إعلامي إلى أن عامَي 2018 و2019 شهدا موجات تصعيدية متلاحقة على القطاع خلفت 273 حالة هدم كلي، وأكثر من 3400 حالة أضرار جزئية، وأن الفجوة المتبقية 212 حالة هدم كلّي لم تتم إعادة إعمارها، و3 آلاف حالة ضرر جزئي لم يتم إصلاحها.
وحول ملف الإعمار الخاص بعدوان 2014، بيّن الأغا أنه تم هدم 11 ألف وحدة سكنية كليًّا خلال هذا العدوان، و162 ألف وحدة سكنية تضررت بشكل جزئي، وكانت نسبة الإنجاز هذه هي الأكبر، وأوضح أن الفجوة المتبقية بلغت 781 حالة هدم كلي، بتكلفة تتجاوز 34 مليون دولار، وأكثر من 59 ألف حالة ضرر جزئي بتكلفة 79 مليون دولار.
وأشار وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان في غزة إلى أن ملف إعادة إعمار القطاع يواجه مشكلتَين أساسيتَين تعيقان عمليات الإعمار، الأولى تتمثل في القيود الإسرائيلية، والثانية تتمثل في عدم إيفاء المانحين بما عليهم من التزامات مالية، مشيرًا إلى أن التحدي الكبير متمثل بتجفيف الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، التمويل الخاص بوكالة الأونروا، والذي أثّر بشكل كبير على آلية الإعمار.
أداة سياسية أيضًا
من جانبه، يقول الصحفي والمحلل السياسي يوسف فارس إن السلوك الإسرائيلي في قصف المنازل الفلسطينية خلال الحروب، هدفه رفع كلفة المقاومة والضغط على الحاضنة الشعبية لها، فالقصف عام 2014 الذي طال أحياء واسعة في بيت حانون والشجاعية والتفاح والدرج والزنة لم يكن له دواعٍ عسكرية، بل هدفه إيلام الناس وصناعة حالة من النقمة على المقاومة، وبالتالي عملية إعادة الإعمار تُقرأ في السياق ذاته على أنها ليست أداة أو جهة رحيمة، بل هي أداة سياسية أيضًا للضغط على حاضنة المقاومة.
واستعان فارس في حواره مع “نون بوست” بالحديث عن خطة روبرت سيري، وهي خطة أممية تمَّ التوصل إليها عام 2015، بعد اتفاق بين حكومة الاحتلال والسلطة الفلسطينية لإدخال مواد البناء إلى غزة، تشمل آلية لمراقبة ضمان عدم استخدام مواد البناء التي سيتم توريدها إلى القطاع لأغراض أخرى بخلاف عملية الإعمار، في إشارة إلى استخدامها من قبل فصائل فلسطينية في تشييد الأنفاق، والتي قوبلت برفض فصائلي وشعبي آنذاك.
وأضاف: “في حرب 2014 حينما وُضعت خطة روبرت سيري الذي وافقت عليها السلطة الفلسطينية ورفضتها الفصائل، كانت خطة شديدة التعقيد تتضمن الرقابة على مواد البناء ودخولها، فالعائلات التي تنوي إصلاح منازلها تخضع لنظام رقابة إسرائيلية بدواعي استخدام الأسمنت ومواد البناء لأغراض المقاومة”.
وأشار المحلل السياسي إلى أن “إطالة أمد عملية إعادة الإعمار كانت واحدة من أهم الثغرات في اتفاقية سيري، بهدف نقل الهمّ الشعبي من المقاومة إلى ما ستقوده هذه المقاومة على الحاضنة من تبعات، بالتالي عملية الإعمار منذ بدايتها كانت أداة سياسية تحقق أغراضًا أمنية”، مضيفًا: “معركة القدس عام 2021 تسبّبت في دمار تقريًبا ربع ما نتج عنه عدوان 2014، فكان الغرض في معركة سيف القدس إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر”.
وخلص فارس بالقول إن عملية الإعمار تتعثر دائمًا ولا تمضي بطرق سلسة وسهلة، لأن الجهات الداعمة لها ليست حرة في قرارها، فهي ليست جهات صديقة بالمعنى الوجداني للمقاومة، بل هي جهات سياسية تحتكم للقرار والمحددات الأمريكية والإسرائيلية في تمرير الدعم.
قيود إسرائيلية وعراقيل أخرى
في سؤالنا: لماذا تسير عملية إعمار غزة منذ عام 2014 لليوم بشكل بطيء؟ تجيب المحللة السياسية رهام عودة قائلةً إن القيود الإسرائيلية على دخول مواد البناء المتعلقة بإعادة إعمار قطاع غزة، وبسبب الشروط الإسرائيلية والدولية المتمثلة بتوفير ضمانات سياسية وأمنية بإبعاد حركة حماس عن الإشراف على عملية إعادة الإعمار بغزة، وربط العملية بهدنة طويلة الأمد مع “إسرائيل” لتسريع إعادة الإعمار.
هذا إلى جانب أسباب أخرى متعلقة بالانقسام السياسي الفلسطيني، حيث هناك شروط دولية بضرورة أن تشرف السلطة الفلسطينية في رام الله على عملية الإعمار، لكن بسبب الانقسام الفلسطيني هناك خلافات سياسية في هذا الملف بين السلطة في رام الله والحكومة بغزة، ما يعرقل عملية الإعمار.
وعن تعهُّدات المانحين، تضيف عودة لـ”نون بوست” أنه حتى الآن مصر وقطر هما الدولتين الأكثر التزامًا في عملية إعادة الإعمار، حيث نرى على أرض الواقع مشاريع إعمار مصرية بدأت تنجَز في قطاع غزة، كما تأتي المنحة القطرية الشهرية كجزء من تعهُّدات قطر لدعم صمود الغزيين، وهناك في الأفق بعض المشاريع القطرية القادمة.
أما بالنسبة إلى تعهّدات الدول الأوروبية والتعهّدات الأمريكية نحو إعمار غزة فقد تمَّ ربطها بمدى استقرار الوضع السياسي والأمني بقطاع غزة، ومدى إمكانية إشراف السلطة الفلسطينية ومؤسسات الأمم المتحدة على عملية إعادة الإعمار دون تدخل حركة حماس بغزة، وذلك ضمن سياق الشروط الإسرائيلية التي تفرض هذه المعادلة وتربط عملية الإعمار بهدنة طويلة الأمد.
وتشير عودة إلى أن تأخُّر ومماطلة إعادة الإعمار أحدثا توترات أمنية، كانت من ضمن الأسباب التي أدّت إلى بعض التصعيدات على حدود غزة، كما أثّرا سلبيًّا على الملف الاقتصادي، لأنه لم يتم تعويض أصحاب المصانع والمنشآت التجارية التي تمَّ تدميرها عام 2014 وما بعدها عن خسائرهم، ما أغلق ذلك أبواب رزق الفلسطينيين ودمّر سبل عيشهم، وزاد من نسبة البطالة في صفوف الحرفيين والتجار.
ووفق حديث المختصة بالشأن السياسي رهام عودة، فاقمت عملية تأخير الإعمار من الأزمة الإنسانية في غزة، فحتى هذا العام ما زال عدد كبير من العائلات التي تدمّرت بيوتها أثناء حرب 2014 تسكن في بيوت بالإيجار، ولم يتم إعادة إعمار سوى عدد محدود من البيوت المدمرة.
هذا إلى جانب التدمير في البنية التحتية من شبكات المياه والكهرباء والاتصالات، والتي ما زالت تحتاج إلى إنهاء كامل لما دمّره الاحتلال على امتداد سنوات الحروب والتصعيدات العسكرية الإسرائيلية مع المقاومة الفلسطينية في غزة.