شكلت العلاقات المصرية الإيرانية إحدى أبرز حالات التنافر الإستراتيجي في الشرق الأوسط، ولعل ما يميز هذا التنافر أنه مبني على أبعاد ومجالات متعددة، جعلت من مصر إحدى أبرز المعوقات الإستراتيجية في وجه خطط إيران الإقليمية، فإلى جانب البعد القومي والتاريخي، والمركزية الدينية – الأزهرية، تبرز الكاريزما السياسية والثقل العسكري لمصر كمحددات إستراتيجية في مسارات العلاقات التنافسية المصرية الإيرانية في جيوبوليتيك المنطقة، فمنذ عهد الأسرة البهلوية وحتى الوقت الحاضر، استقرت العلاقات المصرية الإيرانية على خاصية عدم الاستقرار، بسبب ارتباط هذه العلاقات بديناميات داخلية وخارجية متعددة، انعكست سلبًا وإيجابًا على مستقبل هذه العلاقات وتفاعلاتها.
خامنئي على خط الحوار المتبادل
منذ فبراير/شباط 2019 بدأت العلاقات المصرية الإيرانية تتجه شيئًا فشيئًا نحو الانفراج، سواء على مستوى اللقاءات الدبلوماسية أم على مستوى التصريحات الصحفية أم على مستوى المشاركة في المؤتمرات الدولية، والأهم الاستجابة المتبادلة للوساطة العراقية ومن ثم العُمانية.
ودون الخوض في تفاصيل هذه المسارات السياسية المتعددة، والأهم من ذلك التركيز على الأبعاد الإستراتيجية التي تقف خلف خطوات هذه التقارب، فإن النقطة التي يجب التوقف عندها هي التصريح الذي أدلى به المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في 29 مايو/أيار 2023، خلال لقائه بسلطان عُمان هيثم بن طارق آل سعيد، وقوله إن طهران ترحب بتحسين العلاقات الدبلوماسية مع مصر، وجاءت تصريحات خامنئي في الوقت الذي تتخذ فيه دول بالشرق الأوسط، بينها مصر، خطوات لتخفيف التوتر في المنطقة.
وفي هذا السياق، قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشورى الإيراني، عباس كلرو، إن التطور الشامل للتعاون بين إيران ومصر كدولتين إسلاميتين مهمتين يصب في مصلحة المنطقة، وجاءت تصريحات كلرو في لقاء جمعه برئيس مكتب رعاية مصالح مصر في طهران، هيثم جلال، حسبما ذكرت وكالة مهر الإيرانية للأنباء في وقت سابق، وقال المسؤول الإيراني إن التاريخ الحضاري والثقافي الطويل الأمد، لشعبي إيران ومصر، سيكون منبرًا مناسبًا لتوطيد العلاقات الودية والشاملة بين البلدين.
إن دخول خامنئي على خط التقارب المصري الإيراني، يعكس بشكل آخر اهتمامًا إيرانيًا واضحًا بأهمية تصفير العلاقة مع مصر، في مقابل ذلك لم يصدر عن القيادة المصرية أي تعليق على تصريحات خامنئي، فيما يبدو ترددًا مصريًا بعدم الانخراط المبكر في محادثات موسعة مع إيران، وترك الدبلوماسية السرية تأخذ حيزًا من العمل والتفاهم، حتى يتم الوصول إلى مرحلة الاستعداد المباشر للمضي قدمًا في هذه العلاقات، سواء على مستوى تبادل السفراء أم توسيع العلاقات الخارجية.
العلاقات بين مصر وإيران غير متوقفة، لكنها غير كاملة، وهناك حد أدنى من العلاقات دون مستوى السفراء
وإلى جانب زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى القاهرة يوم الثلاثاء الماضي، التي تأتي في جزء منها استكمال مسار الحوار في بغداد، كشفت مصادر عراقية في 5 مايو/أيار الماضي، عن عقد ممثلين عن الجانبين المصري والإيراني، لقاءً في بغداد، بوساطة تبنتها حكومة السوداني، تهدف إلى تكرار الوساطة العراقية بين السعودية وإيران، التي نجمت عنها 6 جولات من الحوار التمهيدي بين الجانبين.
وبحسب دبلوماسي مصري فإن القاهرة “منفتحة بدرجة أوسع مع محاولات الوساطة التي يقوم بها العراق وسلطنة عُمان”، مستدركًا “لكنها في الوقت ذاته لا تزال في مرحلة اختبار لجدية طهران، وما نقله مسؤولون إيرانيون خلال لقاءات سابقة، بشأن الرغبة في تهدئة الأجواء مع دول المنطقة”، واصفًا ما يحدث في الوقت الراهن بأنه “تجاوب حذر”.
مؤكدًا أن “ما يضاعف فرص التحسن في العلاقات وتطويرها هذه المرة، ما حدث من نقلة نوعية بين الرياض وطهران، وتوافقهما مؤخرًا، برعاية صينية، على استئناف العلاقات وتهدئة الأجواء المتوترة بينهما، خاصة أن القاهرة لطالما رهنت استجابتها للمحاولات الإيرانية، بموقف الدول الخليجية”.
تركيبة معقدة تحكم العلاقات بين البلدين
إن النقطة التي تجدر الإشارة إليها هنا، هي أن التركيبة التي تحكم العلاقات المصرية الإيرانية تختلف بشكل أو بآخر عن تلك التي تحكم العلاقات السعودية الإيرانية، فالعلاقات بين مصر وإيران غير متوقفة، لكنها غير كاملة، وهناك حد أدنى من العلاقات دون مستوى السفراء، كما أن “إيران هي من قامت بقطع العلاقات مع مصر بعد معاهدة كامب ديفيد عام 1979″، وهذه الاتفاقية “فرضت على مصر تبعات جديدة وعلاقات مع أمريكا و”إسرائيل”، في إطار الشراكة الإستراتيجية المصرية الأمريكية، كما أن هناك علاقات سلام مع “إسرائيل” تفرض عليها تبعات أخرى”.
إن الحاجات المصرية لبناء علاقات هادئة مع إيران، قد تدفع هي الأخرى نحو مزيد من التقدم في مسار التوافق بين البلدين، فرغبة مصر في الحفاظ على الهدوء في قطاع غزة، في ضوء ارتباط طهران بعلاقات وثيقة مع العديد من الفصائل الفلسطينية المسلحة في القطاع، ومنها حركتا حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما، وفي الوقت نفسه فإن القاهرة يهمها الحفاظ على الاستقرار الأمني في القطاع، وعدم تصعيد الصراع العسكري مع “إسرائيل”، إضافة إلى دورها في ملف المصالحة الفلسطينية، وهذا يجعل مصر في حاجة إلى التواصل مع إيران، بشكل أو بآخر، في إطار السعي للحفاظ على الاستقرار في قطاع غزة، وعدم استخدامها كورقة إيرانية لمواجهة “إسرائيل”.
كما أن اهتمام مصر بأمن الملاحة في ظل التهديد الذي يمثله الحوثيون على أمن الملاحة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، لما لذلك من تأثير كبير على حركة الملاحة في قناة السويس، وبالنظر إلى علاقة إيران الوثيقة بالحوثيين في اليمن، الذين بمقدورهم التأثير سلبًا على الملاحة في البحر الأحمر، فإن هذا عامل آخر من العوامل التي يمكن أن تقرب بين القاهرة وطهران.
من بين الأسباب التي دفعت طهران إلى تحسين الاتصالات بمصر، هي احتواء التداعيات الإستراتيجية لاتفاقيات السلام بين “إسرائيل” وبعض دول الخليج العربية، والحد من انضمام دول أخرى إليها
فضلًا عن ذلك، ركزت أهداف إيران الخارجية في ظل رئاسة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي على سياسة الجوار، والتطلع إلى الشرق، والعلاقات مع الدول الإسلامية، كما سيسمح الارتباط بمصر لإيران بنفوذ أكبر في العالم العربي، وتوثيق العلاقات مع دول الجامعة العربية، لا سيما بالنظر إلى التأثير الاقتصادي الهائل للسعودية على مصر، لكن في الداخل الإيراني هنا رأي مغاير، إذ يعتقد بعض المتشددين أن إقامة علاقات مع مصر ستكون خيانة للقضية الفلسطينية، وقبولًا ضمنيًا لاتفاقات كامب ديفيد واستسلامًا للمطالب المصرية مثل تغيير اسم شارع خالد الإسلامبولي في طهران، ويعتقدون أنه في مقابل تغيير الاسم ، يجب على مصر أيضًا إزالة علم النظام السابق لمملكة إيران من قبر الشاه في جامع الرفاعي بالقاهرة، وإزالة اسم البهلوي من شوارع القاهرة في مصر.
يمكن القول بأن الاقتصاد هو حافز آخر لبدء العلاقات، إذ شهدت العملة الإيرانية انخفاضًا بمقدار 14 ضعفًا منذ انسحاب الولايات المتحدة من المحادثات النووية عام 2018، ويبلغ معدل التضخم نحو 50%، وفي مصر، بحلول نهاية السنة المالية 2020/2021، بلغ إجمالي ديون البلاد 392 مليار دولار، إذ بلغت صادرات إيران إلى مصر في عامي 2021 و2022 نحو 6.92 مليون دولار و5.08 مليون دولار على التوالي، وبلغت صادرات مصر إلى إيران ما يقارب 994 ألف دولار و1.42 مليون دولار على التوالي، إذ تسعى إيران إلى تجاوز العقوبات الأمريكية والتصدير إلى الدول المجاورة، ومصر فرصة جيدة جدًا لتصدير السلع الاستهلاكية، إلى جانب ما يمكن أن توفره المدخولات المالية للحركة السياحية بين البلدين.
وفيما يتعلق بالمخاوف الجيوسياسية الإقليمية، تعتبر إيران أن مصر لها تأثير كبير على السلام في الشرق الأوسط، ومن بين الأسباب التي دفعت طهران إلى تحسين الاتصالات مع مصر، هي احتواء التداعيات الإستراتيجية لاتفاقيات السلام بين “إسرائيل” وبعض دول الخليج العربية، والحد من انضمام دول أخرى إليها، إضافة إلى ذلك، فإن نفوذ الإيرانيين في العراق وبين الجماعات المسلحة التي تعمل هناك يضمن أمن الشركات المصرية داخل العراق، التي تتمركز في إطار الشراكة الثلاثية بين العراق والأردن ومصر.
كما تدعم مصر سوريا في عودة انضمامها إلى جامعة الدول العربية، وهو ما تريده القاهرة، ويعزز مشروع نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر سوريا من منظور أمني، فبعد خفض التصعيد الإقليمي بين تركيا وقطر والبحرين والسعودية والإمارات وإيران، أصبحت القاهرة وطهران جاهزتان لبدء فصل جديد، رغم الإرث الصعب لأكثر من أربعة عقود من المواجهة والتنافس، ومع ذلك، فإن بعض المخاوف الأمنية التي ترى في إعادة فتح العلاقات هذه تهديدًا، ما زالت تتحدى هذا التوافق.