لطالما بقيت العاصمة السودانية الخرطوم آمنة ومستقرة نسبيًّا لسنوات طويلة، عدا بعض التوترات المتقطعة، مثل التي جرت إبّان أحداث الشغب التي تلت مقتل جون قرنق زعيم الحركة الشعبية والنائب الأول لرئيس الجمهورية عام 2005، والتي خلّفت نحو 42 قتيلًا، ثم أحداث هجوم حركة العدل والمساواة عام 2008.
لكن الخرطوم لم تنجُ من حرب 15 أبريل/ نيسان هذا العام، حيث يعود عيد الأضحى هذا العام كما مرَّ عيد الفطر في العاصمة التي حوّلتها الحرب إلى مدينة أشباح، إذ فقدت العائلات الآلاف من أحبائها، الأمر الذي تركها في حالة حزن بدلًا من الشعور بالفرح والسعادة، والحال ينطبق كذلك على أجزاء واسعة من إقليم دارفور غربي البلاد.
في ظروف مختلفة، كان سكان الخرطوم يستبقون العيد بزيارة الأسواق الكبرى في كل من أم درمان وبحري والخرطوم، لشراء الأضاحي والملابس الجديدة والإكسسوارات والألعاب، والمستلزمات الخاصة ببسكويت النشادر السوداني المعروف محليًّا باسم “الخبيز”.
لكن الحرب تسبّبت في تدمير ممنهَج ومقصود لأكبر أسواق العاصمة (السوق العربي، سوق بحري، سوق أمدرمان، السوق المركزي، السوق الشعبي الخرطوم وسوق سعد قشرة)، بالإضافة إلى المراكز التجارية الحديثة، مثل عفراء مول والواحة وسناء واليحيي وسيتي بلازا وغيرها.
تلك الأسواق وغيرها من المناطق التجارية كانت مصدر رزق أساسي لآلاف المواطنين من ملّاك وتجّار وعمّال، وجدوا أنفسهم بين لحظة وضحاها في مهبّ الريح بعد أن تدمّرت محالهم ونُهب ما تبقى منها عمدًا، على يد ميليشيا الدعم السريع والعصابات المتحالفة معها.
اختفاء ملامح الأعياد
تعطّلت عجلة الإنتاج وتوقف عمل المؤسسات الحكومية إثر الحرب، وأُحرقت المصانع ودُمّرت المؤسسات الحكومية لتتعطل معها مصالح المواطنين والعجلة الاقتصادية، بعدما خلت ولاية الخرطوم من كثير من مواطنيها الذين أُجبروا على المغادرة قاصدين الولايات المجاورة، في ظل انعدام الأمن وتفاقم الأزمات المعيشية والافتقار إلى أبسط الخدمات الإنسانية.
تغيرت كل ملامح الخرطوم في ساعات معدودة من بداية الحرب، غدت مدينة أشباح، إذ أُغلقت الأسواق والمنازل والمتاجر والمقاهي والمحال الصغيرة في الأحياء، وسط حركة نزوح وهجرة كثيفة، واختفت كل ملامح الأعياد التي كانت تعمّ أرجاء العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث في السنوات السابقة.
وصفت آرام محمود، التي تسكن عائلتها في أحد أحياء شرق الخرطوم، ما حدث بقولها: “لقد اُقتلعنا من مدينتا وأرضنا، تم إذلالنا وإهانتنا وتفرقت بنا السبل والطرق، لقد توقف عندنا الزمن منذ مساء يوم السبت 15 أبريل/ نيسان، ولم يصبح علينا فجر الأحد منذ ذاك اليوم. ما بُني في سنين هُدم في 3 أشهر وما زال الهدم مستمرًّا.. خسرنا أرواحنا وقيمنا ومبادئنا”.
وأضافت آرام في حديثها مع “نون بوست” أنها غادرت إلى الخارج قبل الحرب، لم تشهد معاناة أهلها وأحبائها في السودان، لكن الحرب “أثّرت على الكل نفسيًّا ومعنويًّا وماديًّا”.
“خرجت وأنا على موعد ثانٍ مع السودان، وكان الأمل وما زال مستمرًّا على أنها أيام وستنقضي، لكن خاب أملي. غادرت ولم أحمل معي شهادتي الجامعية التي تثبت تعبي في سنين الدراسة الطويلة”، قالت آرام.
ذو الكفل، وهو مغرّد معروف على “التايم لاين” السوداني في تويتر، قال لـ”نون بوست”: “اشتقنا للخرطوم واشتقنا إلى منزلنا وإلى جامعتنا وعملنا، بعد أكثر من 70 يومًا على اشتعال الحرب وقد مرَّ علينا عيد الفطر نازحين ولاجئين داخل السودان وخارجه، وها نحن الآن نستقبل – أنا وأسرتي – عيد الأضحى وما زلنا في المصير المجهول ذاته”.
وأضاف: “لقد أدت هذه الحرب إلى تشتيتنا جميعًا، لأول مرة يمرّ علينا عيدان وأسرتنا لم تلتقِ، فوالدي موجود خارج السودان لا يستطيع القدوم إلينا هذا العام، ووالدتي وأخي الأصغر موجودان في إحدى ولايات السودان التي ما زالت آمنة، أما أنا فموجود في مدينة أخرى”.
واختتم ذو الكفل بقوله: “لا يوجد أي إحساس أو مظاهر على العيد، لا أعلم إلى متى سنكون في هذه الحالة، لقد عانينا كثيرًا من هذا النزوح ونتمنى حقًّا أن نعود إلى ديارنا قريبًا، فلا راحة إلا في المنزل”.
من ناحيتها، أبدت ابتسام عمر حزنها وغضبها الشديدَين على ما آلت إليه الأوضاع في العاصمة الخرطوم، موضحة استغرابها الشديد من استمرار المعارك وسط الأحياء السكنية، حيث كانت تقيم في شرق النيل، المنطقة التي تشهد اشتباكات متواصلة بين الجيش والدعم السريع بلا أدنى اعتبار لحياة المدنيين، لا سيما الأطفال وكبار السن، واستمرار الدعم السريع في ارتكاب الجرائم المروعة من قتل واغتصاب ونهب لممتلكات المواطنين.
حاولت ابتسام الصمود متمسكة “رغم المخاطر” ببصيص أمل ولو كان ضئيلًا، أن يتمكّن الجيش من حسم المعركة، لكن مع دخول الحرب شهرها الثالث اضطرت إلى ترك منزلها والنزوح جنوبًا إلى مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة.
“هل ما زال هناك أمل؟ هل لنا من عودة؟”
أضافت ابتسام لـ”نون بوست” أن حياتها انقلبت خلال ساعات قليلة، إذ لم تتوقع مطلقًا أن تتحول الخرطوم إلى منطقة حرب مفتوحة، مشيرة إلى أنها كانت على وشك شراء احتياجات عيد الفطر لأطفالها كما اعتادوا كل عام، لكنهم الآن أصبحوا نازحين في ود مدني، حيث تشكو من ارتفاع تكلفة إيجار المنزل وغلاء المعيشة، في ظل نزوح عدد كبير من سكان الخرطوم إلى المدينة وما حولها.
وقالت آرام محمود: “لقد خُذلنا ولم تكن رفاهية الانهيار خيارًا متاحًا، أنا ومَن في جيلي كبرنا همًّا وغمًّا وأصبح على عاتقنا تقبُّل الواقع أو الصدمة.. استوعبنا مؤخرًا أنه لا مفر، أصبحنا لاجئين نتخبّط ونحن ضياع”، واختتمت متسائلة: “هل ما زال هناك أمل؟ هل لنا من عودة؟”.
خطورة الوضع الأمني أدّت إلى إغلاق ما تبقى من محال تجارية في الخرطوم خلال الأيام التي سبقت عيد الأضحى، الأمر الذي جعل من الصعب استجابة أصحاب المحال لمتطلبات المواطنين حتى من المواد الغذائية الأساسية، حيث انعدمت معظم السلع أو ارتفعت أسعارها، في ظل عدم قدرة غالبية الناس على شرائها وعجزهم عن مجاراة الأسعار، ويتخوف التجار من تعرض محالهم للقصف والنهب بعدما احترقت معظم أسواق العاصمة الخرطوم.
شهران من دون رواتب
المعضلة الأخرى التي واجهت السودانيين في عيد الأضحى هي البقاء من دون رواتب، إذ لم يتم صرف رواتب شهرَي مايو/ أيار ويونيو/ حزيران لموظفي الجهات الحكومية، حيث فشلت وزارة المالية في دفع الرواتب للموظفين رغم الوعود المتكررة، وتكرر الأمر أيضًا في معظم شركات القطاع الخاص.
وفي ظل توقف النشاط الاقتصادي وعدم صرف الرواتب، ارتفعت أسعار الأضاحي حيث بلغت في بعض المناطق بالعاصمة 120 ألف جنيه، وفي بعض الأحياء خاصةً مدينة الخرطوم بلغت ما بين 100 ألف و180 ألفًا، ويعزي ارتفاع الأسعار إلى توقف الواردات من غربي البلاد، لا سيما إقليمَي دارفور وكردفان، حيث تزدهر فيهما تربية المواشي.
التأثيرات الاقتصادية للحرب وصلت إلى خارج البلاد، حيث الأسواق السعودية كانت تشتري من الأسواق السودانية في موسم الحج للهدي آلاف الرؤوس من الماشية طبقًا لمتعاملين، وقد تقدر الخسائر بنحو 100 مليون دولار، بسبب صعوبة حركة شاحنات الماشية إلى موانئ التصدير من غرب السودان.
وفي مصر ارتفع سعر لحم الجمل إلى الضعف منذ بداية الحرب في رمضان الماضي وحتى الآن، ليصل سعر الكيلو إلى 300 جنيه، حيث العام الماضي كان الجمل يباع في مصر بـ 20 ألف جنيه، أما اليوم فسعر الجمل يبدأ من 100 ألف جنيه ويصل إلى 150 ألفًا وأكثر، وفقًا لـ”الجزيرة نت”.
الاستباحة الثالثة للخرطوم خلال 500 عام
يأتي عيد الأضحى لعام 2023 والخرطوم قد اُستبيحت بأكملها من قبل ميليشيا الدعم السريع في ظل عجز القوات المسلحة عن التصدي لها، إذ تُشير التقديرات إلى أن الميليشيا نهبت آلاف السيارات من المواطنين، واحتلت أكثر من 30 مرفقًا صحيًّا، إلى جانب نهب وتخريب عشرات البنوك والجامعات والشركات والسفارات والبعثات الدبلوماسية الأجنبية، ذلك بخلاف جرائم الاغتصاب والقتل واحتلال المنازل تحت تهديد السلاح.
غضب واسع بعد انتشار فيديو لما قيل إنها حادثة “اغتصاب”سيدة في شوارع الخرطوم والجيش السوداني يتهم قوات الدعم السريع والأخيرة تنفي.
إليكم قصة جرائم القتل والاغتصاب خلال الاشتباكات الأخيرة في السودان التفاصيل في الفيديو أدناه👇🏻@AnaAlarabytv @AlarabyTV #السودان #السودان_ينزف pic.twitter.com/ekHHFq7hoZ
— Farah Fawaz | فرح فواز (@FarahFawaz90) June 26, 2023
يصف بعض المراقبين الانتهاكات المروعة للدعم السريع بـ”الاستباحة الثالثة للخرطوم”، حيث يرى الكاتب بابكر عثمان أن الاستباحة الأولى للخرطوم تتمثل في نهب وتخريب مدينة سوبا (منطقة تقع جنوب شرق الخرطوم حاليًّا)، إذ كانت سوبا عاصمة مملكة عَلَوة المسيحية، وكانت توصف بأنها مدينة جميلة فيها الشوارع المعبّدة والقصور الفخمة والكنائس الكبيرة، قبل تخريبها ودمارها عام 1504على يد تحالف من القبائل الزنجية المسلمة في سنار والقبائل العربية القادمة من شمال ووسط السودان، وفقًا للكاتب.
أما الاستباحة الثانية بحسب عثمان فقد كانت على يد أنصار الإمام المهدي، عندما نجحت قواته في دخول الخرطوم صبيحة 26 يناير/ كانون الأول 1885، وقد وُصف ما جرى آنذاك ولـ 3 أيام متتالية بالأمر الشديد القسوة والموغل في الوحشية.
بغضّ النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع الكاتب في وصف ما يحدث حاليًّا في الخرطوم بأنه “استباحة ثالثة”، فإنه يمكن الجزم بأن سكان العاصمة لم يَدُر بخلدهم مطلقًا أن قوات الدعم السريع ستستهدفهم بهذا الشكل، وهي التي يزعم قائدها أنه يقاتل من أجل التحول الديمقراطي.
يأتي عيد الأضحى ولا أحد من أهالي الخرطوم في وضع مريح للاحتفال، فالنازحون داخليًّا يعانون من غلاء المعيشة وارتفاع الإيجارات في الأقاليم، ويتألمون من الأخبار التي تفيد باستباحة منازلهم التي أُجبروا على مغادرتها، وكذلك اللاجئون أو الأشخاص الذي هربوا للخارج بما تبقّى لهم من أموال.
أما الذين ما زالوا موجودين في الخرطوم لظروف مختلفة، فهؤلاء هم الأسوأ حظًّا، تتربّص بهم القذائف ورشقات الرصاص في أي لحظة، إلا أن الجميع لسان حالهم يكرر بيت الشعر الشهير: “عيد بأيّة حالٍ عُدت يا عيد.. بما مضى أم بأمْر فيك تجْديد”.