أعلنت السفارة الروسية في تل أبيب عن فتح ممثلية لها في القدس المحتلة، وذلك على مساحة 100 متر مربع عبارة عن قطعة أرض كانت قد اشترتها موسكو في غرب المدينة الفلسطينية المقدسية عام 1885، وذلك عبر اتفاق سري أبرمته روسيا مع دولة الاحتلال في 18 مايو/أيار الماضي.
واحتفى الإعلام العبري بتلك الخطوة التي وصفها بالتاريخية، كونها تأتي بعد 5 سنوات من افتتاح السفارة الأمريكية في المدينة المحتلة، ليصبح عدد السفارات الجديدة المرشح افتتاحها في القدس 3 سفارات: روسيا وبريطانيا وهنغاريا، بجانب الأربع الموجودين بالفعل (أمريكا وكوسوفو وغواتيمالا وهندوراس).
ورغم اعتراف موسكو بالقدس الغربية عاصمة لـ”إسرائيل” في أبريل/نيسان 2017، مع الإبقاء على اعترافها بأن القدس الشرقية عاصمة لفلسطين، فإن العلاقة بين روسيا ودولة الاحتلال توترت بشكل كبير منذ الحرب على أوكرانيا فبراير/شباط 2022، مع الوضع في الاعتبار أن 15% من سكان “إسرائيل” ينحدرون من دول الاتحاد السوفييتي السابق.
روسيا التي حذرت الولايات المتحدة في أبريل/نيسان 2018 من نقل سفارتها للقدس، حيث اعتبرت هذا القرار في ذلك الوقت “تقويضًا لعملية السلام”، ها هي اليوم تقع فيما حذرت منه سابقًا، دون أي اعتبارات لعملية السلام التي تشدقت بها آنفًا، فما دلالات ورسائل تلك الخطوة التي لا شك ستثير غضب حلفاء روسيا العرب؟
#روسيا ستفتتح فرعاً قنصليًا في #القدس تابعاً لسفارتها وقد تم التوقيع على وثائق توضح حدود قطعة الأرض الروسية لذلك – السفارة
— وكالة سبوتنيك للأنباء (@Sputnik_AR_News) June 16, 2023
صفقة عقارية.. رواية غير مقنعة
يحاول الإعلام الروسي والعبري على حد سواء تصدير سردية محددة لقرار الإعلان عن فتح ممثلية روسية في القدس، تحقق بها تل أبيب أهدافها بانضمام قوى عظمى لقائمة الدول التي نقلت سفارتها للمدينة المحتلة، كذلك تتجنب بها موسكو استثارة غضب حلفائها من العرب التي تسعى لتعزيز علاقاتها بهم في الآونة الأخيرة كإحدى إستراتيجيات الهروب من فخاخ العقوبات والعزلة الغربية.
السردية تحصر الخطوة في أنها عبارة عن صفقة عقارية بين موسكو وتل أبيب، فالأولى لها قطعة أرض في الجانب الغربي من القدس، منطقة تسمى اليوم “همعالوت”، كانت قد اشترتها قبل نحو 138 عامًا، وظلت تحت سيطرتها وإدارتها طيلة تلك السنوات، إلا أن الحكومة الإسرائيلية هددت قبل 8 سنوات بإزاحة تلك المنطقة ضمن مشروع للمنفعة العامة لصالح طريق السكك الحديدية الخفيف المتوقع أن يمر هناك.
وخلال الآونة الأخيرة وبعد توتير الأجواء بين البلدين جراء تباين المواقف إزاء الحرب الأوكرانية ودعم تل أبيب لكييف على حساب موسكو، وما تلاها من تصعيد في الخطاب الإعلامي والسياسي الروسي تجاه دولة الاحتلال، لوحت السلطات الإسرائيلية بتنفيذ تهديدها السابق بمصادرة قطعة الأرض الإسرائيلية، وهو ما دفع الجانب الروسي للجلوس والتفاوض لبحث سبل أخرى بديلة غير المصادرة.
بعيدًا عن احتمالية تنفيذ هذه الخطوة وجدولها الزمني، فإن الإعلان عنها في هذا التوقيت الذي تعاني فيه حكومة بنيامين نتنياهو من انتقادات داخلية حادة، وتصعيد كبير في خطاب المعارضة السياسي، قد يشكل لها قشة إنقاذ مرحلية وانتصار وهمي من الممكن أن يوفر لها غطاءً شعبيًا في مواجهة الاحتقان غير المسبوق
واتفق الطرفان على الإبقاء على قطعة الأرض تلك نظير تحويلها إلى ممثلية قنصلية تابعة لروسيا في القدس، وأن تزيل بلدية القدس جميع مطالبها والشكاوى المقدمة بسبب امتناع الحكومة الروسية عن دفع الضرائب والجبايات عليها كما يقتضي القانون.
ورغم مرور أكثر من شهر على إبرام هذا الاتفاق، ظل في نطاق السرية حتى أعلن عنه الإعلام العبري، ما اضطرت معه موسكو للإعلان هي الأخرى بطبيعة الحال، كما جاء في البيان الصادر منذ ساعات عن السفارة الروسية في تل أبيب الذي أشار إلى أن “روسيا الاتحادية وقّعت على اتفاقية تسوية وبروتوكولات تابعة لها بشأن توضيح حدود ومساحة قطعة الأرض الروسية في القدس الغربية، بمساعدة السفارة الروسية ووزارة الخارجية الإسرائيلية”.
السفارة الروسية في بيانها زعمت أن تلك الخطوة لن تؤثر على مسار موسكو “غير المتغير نحو تسوية عادلة في الشرق الأوسط”، وأنها متمسكة بمواقفها السياسية الثابتة إزاء ملف الصراع العربي الإسرائيلي، لافتة إلى أن هذا التحرك سيخدم بشكل كامل مصالح تعزيز العلاقات الودية متعددة الأوجه بين روسيا و”إسرائيل”.
🔴 بعد محاولات حثيثة لسنوات أعلنت السفارة الروسية في تل أبيب عن عزمها إنشاء قنصلية روسية في القدس الغربية عقب تسوية نزاع حول ملكية قطعة أرض بمساعدة السفارة الروسية ووزارة الخارجية الإسرائيلية.
🔴 اعتبرت السفارة الروسية أن هذه الخطوة تخدم بشكل كامل ما وصفته بتعزيز العلاقات الودية… pic.twitter.com/9eWvr9JuU4
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) June 16, 2023
نتنياهو والبحث عن انتصار وهمي
يتعامل إعلام الاحتلال مع تلك الخطوة التي لا تتجاوز بعد مرحلة إعلان النوايا على أنها انتصار دبلوماسي كبير، يساهم بشكل أو بآخر في تعزيز موقف المحتل بأن القدس عاصمته الموحدة، فانضمام روسيا إلى الولايات المتحدة بجانب إعلان بريطانيا هي الأخرى عن نيتها في نقل سفارتها يشكل ثقلًا دبلوماسيًا دوليًا كبيرًا يمكن “إسرائيل” من نزع الاعتراف الرسمي بأحقيتها في المدينة المقدسة رغم قرار التقسيم الصادر عام 1947 القاضي بأن القدس دولية.
وبعيدًا عن احتمالية تنفيذ هذه الخطوة وجدولها الزمني فإن الإعلان عنها في هذا التوقيت الذي تعاني فيه حكومة بنيامين نتنياهو من انتقادات داخلية حادة، وتصعيد كبير في خطاب المعارضة السياسي، قد يشكل لها قشة إنقاذ مرحلية، وانتصار وهمي من الممكن أن يوفر لها غطاءً شعبيًا في مواجهة الاحتقان غير المسبوق الذي تواجهه بسبب إدارتها لبعض الملفات.
وهذا ما يفسر استباق الإعلام الإسرائيلي بالكشف عن تفاصيل تلك الصفقة رغم صمت موسكو الرسمي، حيث يهرول نتنياهو لتوظيف خطابه الشعبوي من أجل الحصول على بعض المكاسب السياسية التي يعوض بها فشله الداخلي، علمًا بأن الإعلان عن تلك الخطوة جاء قبل ساعات قليلة من مناقشة الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) مشروع قانون يتيح فرض السجن الفعلي على الأطفال الفلسطينيين من عمر 12 عامًا، ممن يزعم تنفيذهم عمليات في القدس المحتلة، والمقرر له الأحد 18 يونيو/حزيران الحاليّ، فضلًا عن قرب الإعلان عن أحد أكبر المشاريع الاستيطانية التي ستقسم الضفة الغربية، وبدورها ستقضي على حلم الدولة الفلسطينية الموحدة.
بعض الروايات تذهب إلى التقليل من تلك الخطوة، باعتبار أنها تأتي في سياق صفقة روسية لإنقاذ الأراضي المملوكة لها في المدينة المقدسة، غير أن هذا التبرير يحتاج إلى كثير من التفنيد، فموسكو تعلم يقينًا خطورة مثل هذا التحرك على علاقاتها بحلفائها من العرب، خاصة دول الخليج ومصر، اللتين رغم علاقاتهما الجيدة مع “إسرائيل” لكنهما في الوقت ذاته لديهما خطوط حمراء تتعلق بهوية القدس ورمزيتها العربية والإسلامية.
وفي ذات السياق فإن روسيا ليست بالسذاجة التي تدفعها للتضحية بعلاقاتها بالدول النفطية ومحور الشرق الأوسط الذي يمثل مرتكزًا أساسيًا في توجهاتها في مواجهة القطبية الأمريكية والعقوبات الغربية لأجل دولة الاحتلال التي تعاني من علاقات متوترة مع موسكو بين الحين والآخر، الأمر الذي فرض على الطاولة عددًا من السيناريوهات والتفسيرات لهذا القرار الذي يطيح بروسيا من مسرح القوى المحايدة في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، وهو المسرح الذي يحاول الروس قدر الإمكان البقاء فوقه بما يضمن لهم مصالحهم ويحقق لهم مكاسبهم المنوعة، اقتصاديًا وسياسيًا.
يسرائيل هيوم: القرار الروسي يشكل ضربة للسلطة الفلسطينية ورئيسها، وأحد بنود الاتفاق يجعل مكانة الممثلية أعلى من القنصلية.. تفاصيل أكثر 👇🏻https://t.co/BhtaxaXe6i
— Ultra Palestine – الترا فلسطين (@palestineultra) June 16, 2023
بين الخداع الإستراتيجي والبحث عن قشة الإنقاذ
تباينت ردود الفعل إزاء هذا الإعلان الروسي، حيث شكك فريق من الخبراء في السردية الروسية الإسرائيلية، معتبرًا أنها أضحوكة لا تنطلي إلا على السذج، واصفًا الرئيس بوتين بـ”غيفارا” الذي يخذل رفاقه، بحسب تعبير المحلل السياسي الفلسطيني ياسر الزعاترة، الذي غرد قائلًا: “بوتين يكافئ نتنياهو من حسابنا!”، مرجعًا هذه الخطوة إلى الموقف الإسرائيلي من الحرب الأوكرانية، مضيفًا “الأمر يتعلق بالموقف من أوكرانيا غالبًا.. الكيان يجني ثمار الحياد، وهذه إحداها”.
وفي سياق مواز، قرأ آخرون هذه الخطوة بمحاولة بوتين استرضاء نتنياهو في المقام الأول، كما جاء على لسان المحلل والأكاديمي الفلسطيني صالح النعامي الذي قال: “بوتين معني بطمأنة إسرائيل بأن التعاون مع إيران لن يكون على حساب علاقاته معها، في وقت يمنحها ضوء أخضر لمواصلة ضرب أهداف إيران وحلفائها في سورية.. هذا لا يتناقض مع انزعاج إسرائيل من آفاق التعاون العسكري المتعاظم بين طهران وموسكو”.
فريق يميل إلى أن بوتين في أمس الحاجة للدعم العربي والشرق أوسطي على الأقل خلال المرحلة الحاليّة التي يعاني منها من مخططات العزلة، وعليه فإن ما يحدث مجرد خداع إستراتيجي تحاول من خلاله موسكو عدم استعداء تل أبيب ومحاولة استقطابها
ربما يتفق هذا الرأي مع المأزق الذي يواجهه بوتين في الداخل الأوكراني حيث الخسائر الفادحة التي يتكبدها ليل نهار، والأزمة الاقتصادية المتفاقمة جراء العقوبات الغربية والعزلة المفروضة على بلاده، ما تسبب في زيادة معدلات الاحتقان الشعبي الداخلي رغم القبضة الحديدية.
هذا بخلاف ما تعرض له الكبرياء الروسي من جروح غائرة خلال الآونة الأخيرة حين باتت الأراضي الروسية مستباحة للهجمات المسلحة من الداخل والخارج، وصلت إلى حد تهديد منزل بوتين نفسه واستهداف مناطق النخبة في موسكو، ما قد يدفع السلطات الروسية إلى مغازلة الحليف الأقرب للأمريكان في المنطقة، التي يمثل مواطنوها من ذوي الأصول الروسية الشريحة الأكبر في التركيبة السكانية لديها.
فريق آخر يميل إلى أن بوتين في أمس الحاجة للدعم العربي والشرق أوسطي على الأقل خلال المرحلة الحاليّة التي يعاني منها من مخططات العزلة، وعليه فإن ما يحدث مجرد خداع إستراتيجي تحاول من خلاله موسكو عدم استعداء تل أبيب ومحاولة استقطابها من خلال الإيحاء بحذو الأمريكان في نقل سفارتها للقدس، إيمانًا منها بأهمية هذا التحرك بالنسبة لنتنياهو وللإسرائيليين على حد سواء.
أنصار هذا التوجه يرجحون عدم ترجمة الروس لهذا القرار إلى واقع عملي على الأرض، فهذا الأمر لو تم ستخسر – في الغالب – موسكو الكثير من الدعم العربي، وستفقد الكثير من مكاسبها المحققة بسبب سياساتها التي تدعي الحياد في هذا الملف تحديدًا، وهو الفخ الذي من الصعب أن تقع فيه دولة بحجم روسيا خاصة بعد الفخ الأوكراني الذي تعاني منه منذ بداية الحرب قبل أكثر من 16 شهرًا.
في ضوء ما سبق.. وبعيدًا عن التفسيرات المتعددة لتلك الخطوة، فإنها كشفت وبشكل مكتمل عن وجه موسكو الحقيقي، ناسفة شعارات التأييد والحيادية المزعومة، حتى ولو من باب المناورة، فقد أسقطت القناع عن برغماتية بحتة لا يمكن التعويل عليها في بناء موقف روسي ثابت إزاء القضية الفلسطينية، التي يبدو أنها ورقة بأيدي الروس لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية عكس ما يروج له بوتين ورفاقه.