يُمكن للأشياء أن تتجلى جماليتها في على عدّة أوجه، ومن خلال تعاطي البشر مع ذلك الجمال – الذي يُمكن أن يكونًا حزينًا ومهمومًا أيضًا- تتكوّن تجربة العلاقة مع الآخر، الذي يطوي بداخله إحدى تمثّلات الوطن.
على امتداد تاريخ الكتابة، تتجلّى فكرة مُغايرة، وهي أن الأشياء، والوطن إحداها، عادة ما تحتّد العلاقة عاطفيًا معه، من خلال الغياب. يُطالعنا التاريخ الحديث للأدب العربي على إسمين حملا الوطن بشوارعه وناسه وحتى تاريخه وذاكرته الثقيلة، وسار كل منهما، في مكان وزمان مُختلف، بنفس هموم الحنين والغضب.
مسحوبًا من النفي والقلق المكاني، بدء غائب طعمة فرمان حياته بالقسوة، قسوة الفقِر مع عائلة صغيرة في بغداد، 1927. انتقل إلى القاهرة للدراسة في كلية الآداب، رغم حاجة أهلها، إلا أنّ والده كان يُرسل له نقود بسيطة كل فترة. حضر غائب المشهد الثقافي المصري في ذروته، حضر مجالس نجيب محفوظ وطه حسين، نُشرت قصصه الأولى في مجلات مصرية.
عاد غائب إلى العراق، عودة زائر سريع سيترك مكانه للأبد، عمل هناك في صحيفة الأهالي، غادر العراق إلى لبنان، ثم سوريا، عاد إلى العراق مرة أخرى، مرة أخيرة، ورحل إلى الاتحاد السوفيتي
نفس التنقلات، التي انتجت من تجربة غائب طعمة فرمان ميثاق واقعي حول المُجتمع العراقي، مثل خلق ذاكرة جماعية له، مؤرشفة ووحيوية بفعل الحكي، وُلد عدنان الصائغ منتصف الخمسينيات بالكوفة، غادر العراق في التسعينيات، انتقل إلى عدّة مُدن عربية، منها بيروت، ثم استقر بعيدًا عن الوطن، في لندن.
بالاستدعاء الواقعي المُتقن، أو بالصورة والمجاز الشعري، اشترك طعمة فرمان و عدنان الصائغ في نفس الصوت الأليم، الذي على اختلاف تقديمه، يتماهى في هيئة صوتٍ واحد، باحثٍ دؤوب عن أرض الذكريات الأولى.
لا نخلة ولا جيران
بدلًا من تحوّل منزله إلى أثرٍ أخير، يُعيد علاقته الوطيدة بالعرق، فوجيء الجميع بالحالة الرثّة التي وصل لها منزل غائب فرمان بالعراق، إذ أنّه هُجر، وتحوّل إلى مكبّ نفايات.
يُوضّح الناقد العراقي علي حسن حضور غائب فرمان في الأدب العراقي الحديث “لا أعرف لماذا أتذكر غائب طعمة فرمان كلما جرى الحديث عن بغداد، المدينة المُوغلة في حميميتها، المدينة الحزينة وبغداد الذكريات وبغداد الشاطيء والليالي الملاح، إذ تبدو هذه المدينة وكأنها أصبحت جزءًا من تاريخ حكواتي حافل بالأسرار”.
يتجاوز رأي علي حسين الجودة الأدبية لدى روايات فرمان، فهي بشكل ما، مادة لتجميد زمن المدينة، للحفاظ على متنها وهامشها، بكل تفصيلة تُشكّل المشهد، درجة أن بغداد فرمان، رغم شدّة واقعيتها في أدبه، ترقى إلى مدينة أفضل من واقعها. للمفارقة، فإن عبد الرحمن منيف الذي خاض تجربة مُقاربة لمنفى واغتراب فرمان، كتب كثيرًا، أكثر من كتابته لأي كاتب آخر، عن أدب غائب ودوره في إعادة إنتاج الذاكرة المحليّة العراقية.
بمسافة الأربعين سنة من الغياب، والمنع من الانتقال بين الدُول العربية، كتب غائب مُعوضًا الفضاء الفاصل بينه وبين العراق، حوالي 10 روايات وعدّة قصص، جميعها عن العراق وفي العراق، باستثناء رواية واحدة.
شيّد فرمان مسار أدبيًا قائمًا على الريادة، صاغ الرواية العراقية بمسحة عالمية، وتقنيات كتابية مُعاصرة، وحاول مُحاكاة قدراته على التجديد الأسلوبي والفنّي، خاصة في مسئلة التجاور ما بين الفكر والسياقات السياسية والحدث التاريخي، وما بين روح الحكاية وقدرتها على الإمتاع.
على خلفية آثار الحرب العالمية الثانية، بنى غائب روايته الأشهر “النخلة والجيران”، ومن خلالها صاغ نظام حياة لبغداد، بشوارعها وشخصياتها الهامشية، في ضوء تداعيات الحرب، ظهرت المدينة منزوعة الإرادة، مُجرّدة من القدرة على العيش، تستحيل ناسها إلى الموت أو القتل أو الغياب.
لدى المسرحي السوري سعد الله ونّوس جُملة شهيرة، وهي “أننا محكومون بالأمل، واليوم لا يُمكن أن يكون نهاية التاريخ”. على نفس الإيمان العميق بالأمل والتغيير كضرورة، حاول غائب في النخلة والجيران أن يتناول ركود المُجتمعات حينما يتلاشها أملها في التغيير، وتزداد في التارجع. يقول جبرا ابراهيم جبرا، حول البُعد الحيوي والتفصيلي الذي ظهرت عليها شخصيات رواية النخلة والجيران، أنّها عمل “رُكبّت شخصياته تركيبيًا حقيقيًا”.
لا تخرج التقلبات السياسية عن مدار رؤية غائب حينما يكتب، إذ أن القلم عنده وسيلة التعبير عن الحياة والأفكار، وبشكل ما، فإن الكاتب بالضرورة هو حصيلة التغيّر الاجتماعي والسياسي، لذا فإن الفكر والكتابة، هما أدات مُسائلة الصورة التي تغيّرنا إليها، وفي ذلك مُسائلة للتغيرات السياسية والاجتماعية.
بمسافة الأربعين سنة من الغياب، والمنع من الانتقال بين الدُول العربية، كتب غائب مُعوضًا الفضاء الفاصل بينه وبين العراق، حوالي 10 روايات وعدّة قصص، جميعها عن العراق وفي العراق، باستثناء رواية واحدة.
آكِل الشوارع
في إحدى حواراته القليلة، سُئل الشاعر العراقي عدنان الصائغ، المُهاجر منذ التسعينيات بعيدًا عن العراق، عن إن كانت القصيدة قد منحته شيئًا من الدفء للتخفيف من صقيع المنافي، أجاب عدنان أن القصيدة، هي ملاذه، وصليبه أيضًا،هي الوطن والبيت والدفء، قبل أن تُشتتنا المنافى، وبعد أن تفعل.
يكتب عدنان الصائغ تاركًا في كل تعبير صورة كثيفة، واسعة الدلالة، حتى يُخيّل للقاريء أن يتسائل حول حُمّية التتابع الصوري في شِعر عدنان، كأنه يكُتب مُشبّعًا بالزخم الشعوري الذي يُشكّل قصيدته، والذي عادة ما يكون آفته الكونية: الإغتراب.
لا يبدو الإغتراب فقدًا للوطن فقط عند عدنان، وإنما فقد للذات أيضًا، لقدرتها على تجاوز الأسى حينما تنظر للأفُق، وتجد آثار الماضي والوطن الذي تُرك بعيدًا، لأجل الحُريّة، فُوجد أن المنفى سجن آخر، لكن بلا سياج:
أيهذا الغريب الذي لم يجد لحظة مُبهجة
كيف تغدوا المنافي سجونًا بلا أسيجة
في ديوانه الأشهر “تأبط منفى” يُمركز عدنان حضور الغريب، من خلال توثيق صوتٍ وشخصية يرتبط إسمها بالشر، إذ استبدل المنفى بالشرّ، وهو استبدال لا يقوم على المخالفة، ولكنه يعني المُطابقة الدلالية بين المنفى والشر، فشاعر له منفى، وشاعر له الشر، وكلاهما صوت عدنان.
يأتي التركيب الصوتي عند عدنان، في المجاز الشعري، شاهدًا على غياب الشخصية إثر فقد الهويات\ الذات، ثمّة غياب في التفاعل المُكافيء للذات، إذ تُقال القصيد دائمًا بضمير مُستتر، وبصوت يُحاول التواصل مع مُحيطه، ولا يستطيع، فقد غُيب مرتان، الأولى خلال التيه في الصورة التي تضرب في الذاكرة مثل قذيفة، والثانية تتعلّق بالغياب المكاني، وتفعيله بالنفي.
يحتّد الجدل في قصائد تأبّط منفى على عدّة طبقات، الأولى هو الصراع الذاتي، بين الذات ونفسها، والثانية تتمثّل في صراع الذات مع الآخر، المكان والذاكرة وُحمّية التدفّق العاطفي. ربما لا يُنتج ذلك نتيجة، لكنّه يُثبّت حالة شعورية، يؤنسنها، يُسجّل لها موقفًا، أو صرخة، أو حتى اختلاف يُنشيء جدل مُحتدم.
بُحكم مجاز ذلك الجدل، تُنتج الرؤية براح في القدرة على التفكير وأخذ موقفٍ دوان عائق يمنع تحقق الصورة، التي تُعيد جميع الذات المُنشطرة بين اللحظة الراهنة\ المنفى، وبين حميمية الذاكرة\ الوطن. الرؤية في هذه الحالة، هي مُرادفًا للوجود، تستحق الاستماتة لأجلها، وتكون القصيدة هي مادة المُقاومة.
هاأنت تطوف العالم
ها أنت تطوف لوحدك
ها أنت تنوح على ما مر( تناس ما مر ) تناساك الآخرون فماذا تنظر أو تنتظر؟
في الليل
أرى شخصا آخر..لا أعرف ه
يتعقّبني فأغذ خطاي، وأسرع
أسمعه يتوسل خلفي اصحبني ظلا لا لا
فأنا أخشى أن أمشي منفردا في الطرقات….
أكل اتساع السهوب، ولا حجر أشتهى ارضي
أكل عثوق النخيل،ولا تمرة في صحون الجياع؟