خلال العقد الأخير، شهدت العديد من الدول الإفريقية جنوب الصحراء، مشاكل كبرى وفوضى عارمة، وازدادت معدلات البطالة ونسب الفقر وانعدم الأمن في الكثير من المناطق، في ظل تركيز الأنظمة الحاكمة على ترسيخ حكمها عوض البحث عن حلول لمشاكل شعوبها، وسعي بعض الجماعات المسلحة للانقضاض على الحكم، ناهيك بتواصل نهب ثروات هذه الدول من قوى أجنبية عديدة.
في ظل هذا الوضع المتردي، اضطر مئات الآلاف من سكان جنوب الصحراء للانتقال إلى شمال القارة، رغبة في الوصول إلى السواحل الشمالية للبحر المتوسط، إلى أوروبا.
الوجهة في البداية كانت ليبيا، مستغلين حالة الفراغ هناك والهشاشة الأمنية في هذا البلد العربي والقرب الجغرافي من أوروبا، لكن مع تنامي نشاط جماعات الاتجار بالبشر والخوف على حياتهم، اضطر عدد كبير منهم للتوجه إلى تونس.
بمرور الوقت، تحولت تونس إلى نقطة استقرار وليست عبور، في ظل تشديد السلطات التونسية الرقابة الأمنية على سواحلها لمنع قوارب الهجرة غير النظامية من الإبحار للسواحل الأوروبية، كما قادت حملات أمنية واسعة ضد المهاجرين الأفارقة، عملًا بتطبيقات الرئيس قيس سعيد.
ظن المهاجرون الأفارقة غير النظاميين أن وصولهم إلى تونس سيحمي حياتهم ويجنبهم المتاعب التي عانوا منها في ليبيا وفي كامل الطريق نحو الشمال، إلا أن خطابات رأس السلطة في تونس المنددة بوجودهم، عرضت حياتهم للخطر مجددًا.
انتهاكات بحق المهاجرين
يوم 21 فبراير/شباط 2023، أطل الرئيس قيس سعيد على التونسيين منتقدًا الوجود الكبير لمهاجرين غير نظاميين في بلاده، متحدثًا عن مؤامرة لتغيير “التركيبة الديموغرافية” في تونس، مؤكدًا وجوب اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف تدفق المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا إلى بلاده، معتبرًا أن هذه الظاهرة تؤدي إلى “عنف وجرائم”.
وأضاف سعيد خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي التونسي خصص لمناقشة هذه القضية أن “الهدف غير المعلن للموجات المتلاحقة من الهجرة غير الشرعية هو اعتبار تونس دولة إفريقية فقط، لا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية”.
أظهرت الفيديوهات، مشاهد لمئات المهاجرين في محطات النقل وهم بصدد الذهاب إلى المحافظات القريبة من الحدود الليبية
إثر هذا الخطاب مباشرة، شن العديد من التونسيين حملة ممنهجة على مواقع التواصل الاجتماعي ضد المهاجرين الأفارقة وتنامى خطاب الكراهية والعنصرية ضدهم، وطالب عدد منهم سلطات بلادهم بتشديد القبضة الأمنية ضد المهاجرين.
تحدثت حملة منظمة على مواقع التواصل الاجتماعي عن “جحافل” من المهاجرين الأفارقة غير النظاميين غزت تونس، ونُشرت صور وفيديوهات قال أصحابها إنها توثق هذا الأمر، وتحدثت عما أسمته “مشروعًا استيطانيًا” لأفارقة جنوب الصحراء في تونس، كما أبرزوا بعض الأحداث “الفردية والمنعزلة” على أنها واقع تعيشه البلاد في السنوات الأخيرة.
انتقل العنف من الفضاء الافتراضي إلى الواقع، إذ تم استهداف مئات الأفارقة وإخراجهم من المنازل التي يشغلونها بالقوة وتعنيفهم وعدم منحهم أجر عملهم، عاينا ذلك في العديد من المدن على غرار صفاقس وأريانة وتونس العاصمة.
وصلت الانتهاكات في حق المهاجرين إلى قتل أحدهم (قادم من البنين) في هجوم نفذته مجموعة من الشبان التونسيين في أحد أحياء صفاقس الشعبية، وجرح عدد آخر من المهاجرين في نفس هذا الهجوم، لكن السلطة لم تحرك ساكنًا.
كما شنت الوحدات الأمنية التونسية حملة أمنية، قبض على إثرها على مئات المهاجرين الأفارقة غير النظاميين إما في المدن الكبرى وإما على الحدود التونسية مع الجزائر وليبيا، ونشر عدد من هذه الحملات على مواقع التواصل.
في ظل الانتهاكات المتواصلة بحقهم، اضطر عدد كبير من المهاجرين الأفارقة (نظاميين وغير نظاميين) للتواري عن الأنظار والبقاء في منازلهم بعيدًا عن أعين التونسيين خوفًا على حياتهم.
عمليات ترحيل قسرية
بعد أسابيع من التوتر وأعمال العنف والاشتباكات بين المهاجرين ومجموعة من الأهالي في مدينة صفاقس، برزت مؤخرًا صور وفيديوهات توثق عمليات ترحيل قسرية للمهاجرين الأفارقة نحو الحدود مع ليبيا، لدفعهم للذهاب هناك، أي العودة إلى “الجحيم الليبي”.
وأظهرت الفيديوهات، مشاهد لمئات المهاجرين في محطات النقل وهم بصدد الذهاب إلى المحافظات القريبة من الحدود الليبية، وقد أكد ذلك شهود عيان تم التواصل معهم في نون بوست، كما أكد نائب في البرلمان هذا الأمر ومنظمات حقوقية أيضًا.
في تصريح لرويترز قال المسؤول بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، إن السلطات رحلت مئات المهاجرين بينهم نساء وأطفال هذا الأسبوع قرب الحدود الليبية، وأضاف أنهم يعانون من أوضاع إنسانية صعبة.
وأظهرت مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي شبانًا في صفاقس يحتجزون مهاجرين ويرفعون العصي ويطلبون منهم ترديد أغنية “تحيا تونس”.
من شأن هذه الانتهاكات أن تعرض تونس لموجة إدانات جديدة تخص تعاملها مع ملف المهاجرين الأفارقة غير النظاميين
بدوره، قال النائب في البرلمان معز براك الله، إن سلطات بلاده نقلت نحو 1200 مهاجر غير شرعي في حافلات بالقرب من الحدود الجزائرية والليبية، وذلك منذ أول أيام عيد الأضحى، وأوضح أن الجهات الأمنية الحدودية استقبلتهم وهي من ستقرر ماذا يفعلون.
ونقلت قناة “نسمة” التونسية الخاصة عن النائب معز براك الله، أنه يتم تنظيم أربع رحلات يوميًا في صفاقس المدينة، تضم كل واحدة منها 200 مهاجر غير شرعي، منذ بدء عمليات الترحيل، مشيرًا إلى إمكانية ترحيل ما بين 3 و4 آلاف مهاجر إفريقي في آخر الأسبوع الحاليّ، حال توافرت وسائل النقل.
خطر محدق بالمهاجرين
مع انتشار أخبار ترحيل تونس للمهاجرين الأفارقة إلى حدودها مع ليبيا، سارعت السلطات الليبية بتعزيز انتشارها الأمني والعسكري على الحدود لمنع دخول المهاجرين إلى أراضيها، وهو ما يعرض حياتهم للخطر، إذ يتوقع أن يتم ترحيلهم إلى الصحراء.
وتعرف مناطق الجنوب التونسي هذه الأيام موجة حرة شديدة، فبلغت دراجات الحرارة في بعض المناطق 50 درجة مئوية، ما يمكن أن يشكل خطورة كبيرة على صحة المهاجرين الذين تم ترحيلهم قسريًا إلى الصحراء على الحدود مع ليبيا.
تخشى أوساط حقوقية أن تتسبب عمليات الترحيل الأخيرة وإخراج المهاجرين من منازلهم وطردهم من أعمالهم في انتشار بعض الأمراض المعدية بينهم وتعريض حياتهم للخطر، ما يعني أنهم يهربون من الموت إلى الموت.
من شأن هذه الانتهاكات أن تعرض تونس لموجة إدانات جديدة تخص تعاملها مع ملف المهاجرين الأفارقة غير النظاميين، إذ أثبتت فشلها في التعامل مع هذا الملف، رغم أنها تنادي الدول الأوروبية بحسن التعامل مع ملف المهاجرين التونسيين هناك.
في الأثناء، دعت منظمات مدنية تونسية وأجنبية إلى التدخل العاجل لوضع حد لعمليات الإعادة القسرية التعسفية وغير القانونية لمهاجرين الأفارقة وضمان الرعاية اللازمة والكريمة لهؤلاء الأشخاص والسماح للمنظمات الإنسانية بالتدخل.
واتهم البيان الجماعي للمنظمات، السلطات باستغلال الضجة التي أحدثها وضع المهاجرين غير النظاميين في صفاقس خاصة، كذريعة لتنفيذ حملة اعتقالات متتالية طيلة الأيام الماضية، تلتها عمليات ترحيل قسري وغير قانوني تحت التهديد.
المفارقة أن نفس المسؤولين الذين ينادون الأوروبيين بضرورة وقف الانتهاكات والاعتداءات في حق المهاجرين التونسيين غير النظاميين في أوروبا، هم من يشجعون التونسيين في الداخل للتضييق على الأفارقة، رغم يقينهم أن ذلك يخالف المواثيق الوطنية والدولية الراعية لحقوق الإنسان.