لا تقتصر متابعة الفلسطيني في الضفة المحتلة على أخبار اقتحامات جيش الاحتلال الإسرائيلي لمدنه وقراه، وبلاغات النشاطات العسكرية التي تصل إلى الارتباط الفلسطيني (وحدة التنسيق مع الجانب الإسرائيلي) فحسب، بل تمتدّ متابعته إلى دعوات المستوطنين لإغلاق الطرق الالتفافية بين المدن الفلسطينية والهجوم على الأراضي الزراعية، والممتلكات الفلسطينية، مع تعالي صيحات “الانتقام”، و”الموت للعرب”، و”سيرحل العرب قريبًا”.
خلال الفترة الأخيرة، تصاعدت اعتداءات المستوطنين من هجمات مجموعة صغيرة على منطقة محدودة، إلى اعتداءات واسعة شملت قرى بأكملها، مثل قرية حوارة جنوب نابلس، وقرية ترمسعيا شمال رام الله، امتدت إلى حرق البيوت والمركبات وفرض حصار يمنع الفلسطينيين من الدخول والخروج، ويهدد حياتهم بالخطر، وأحيانًا يواجهون الموت كما حدث مع عائلة دوابشة في قرية دوما قضاء نابلس عام 2015، حين ارتقى رضيع ووالداه شهداء بيد إرهاب المستوطنين.
منذ بداية عام 2023، توثّق هيئة الجدار والاستيطان نحو 1200 اعتداء نفذها المستوطنون على الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، في رقم قياسي مقارنة بعام 2022 الذي شهد 1187 على طوله، فيما تشير إحصائيات غير رسمية إلى أن 44 فلسطينيًّا على الأقل اُستشهدوا منذ العام 2015 في جرائم المستوطنين، التي تنوعت بين إطلاق النار والحرق والدهس.
“تدفيع الثمن” و”شبيبة التلال”.. انتقام المستوطنين
في 12 أبريل/ نيسان 1968 سُجّل أول اعتداء منظَّم من قبل المستوطنين ضد الفلسطينيين، عندما اقتحمت مجموعة مستوطنين بقيادة الحاخام المتطرف موشيه ليفنغر فندق “النهر الخالد” وسط مدينة الخليل للاحتفال بعيد الفصح العبري، رافضين إخلاء الفندق المملوك لعائلة القواسمة للاحتفال بعيد الفصح، وبقيَ فيه مع مجموعة من المستوطنين المدجّجين بالسلاح، وشكّلت هذه الحادثة عمليًّا موطئ القدم الأولى للاستيطان في الضفة الغربية.
استمر عدوان المستوطنين في جماعات متفرقة حتى عام 1998، حين أعطى وزير أمن الاحتلال آنذاك أرييل شارون الضوء الأخضر لتأسيس “شبيبة التلال”، وحثّ المستوطنين على “الاستيلاء على قمم التلال”، سعيًا منه لإحباط محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا سيما تنفيذ اتفاقية “واي ريفر” التي أبرمها منافسه السياسي بنيامين نتنياهو مع السلطة الفلسطينية.
كما يؤمن أتباع هذه العصابات، وهي صاحبة فكرة البؤر الاستيطانية ومشاريع الاستيطان الرعوي، بـ”أرض إسرائيل الكبرى”، إذ يعتبرون الفلسطينيين دخلاء ويجب طردهم من البلاد للحفاظ على “يهودية الدولة”، وشرعوا في نشاطهم الإرهابي بالضفة.
أما جماعات “تدفيع الثمن” فبدأت بشكل رسمي عام 2008، حين جاءت انتقامًا فوريًّا على إخلاء البؤر الاستيطانية التي نفّذها جيش الاحتلال بعد العمليات الفلسطينية، وتركزت أهداف المستوطنين على سيارات ومنازل في القرى الفلسطينية، قبل أن تضيف شكلًا جديدًا من الاعتداءات عام 2013، لإلحاق الدمار بالمساجد والكنائس في الضفة المحتلة والمناطق العربية في الداخل المحتل، ومحاولة إلحاق الضرر بالفلسطينيين.
مؤخرًا، خلال العدوان الأخير على قرية حوارة وبورين وعصيرة القبلية جنوب نابلس في فبراير/ شباط 2023، عقب عملية فلسطينية قُتل فيها مستوطنَين، وثّقت الجهات الرسمية الفلسطينية 300 اعتداء في ليلة واحدة، ما أدّى إلى إصابة 100 فلسطيني.
كما جرى خلالها استهداف 30 منزلًا في حوارة بين حرق وتكسير، وإحراق 15 مركبة ومشطب مركبات، وفي بورين إحراق بركس وحظيرة أغنام و3 مركبات، ومحاولة إحراق أحد المنازل، فيما شهدت بلدة عصيرة القبيلة إحراق منزل وخزان مياه.
وأسفر إجمالي الاعتداءات التي نفّذها قرابة 300 مستوطن على بلدة ترمسعيا في 21 يونيو/ حزيران 2023، عن استشهاد شاب فلسطيني وإصابة 12 آخرين برصاص الاحتلال، فيما أُصيب العشرات بالاختناق أو إصابات أخرى بفعل الاعتداءات، في حين أحرق المستوطنون 30 منزلًا وأكثر من 60 مركبة.
هل يمكن لقوات تقتل الفلسطينيين أن تحميهم من هجوم المستوطنين؟
مع كل هجمات للمستوطنين على الفلسطينيين، تتابع قوات من جيش الاحتلال في خلفية المشهد في الضفة الغربية وشرطته في الداخل المحتل، المشهد بصمت، وبشكل أساسي لمنع أي ردٍّ فلسطيني على هذه الهجمات، بعبارة أخرى: حماية المستوطنين.
يشير مكتب الأمم المتحدة للحقوق الإنسانية أن غالبية جنود الاحتلال المتواجدين في الميدان يعتقدون أن مهمتهم هي حماية المستوطنين، وأن الجيش والشرطة على حدّ سواء لم يوقفا أو يعترضا اعتداءات المستوطنين حين حدوثها، على عكس ما ينصه القانون الدولي من وجوب حماية الشعب المحتل، كما أن الجنود غير مهتمين بتزويد الشرطة بأية إفادات تتعلق بجرائم المستوطنين التي يتم ارتكابها أمام أعينهم.
بعد اعتداء المستوطنين على حوارة، أشارت وسائل إعلام عبرية إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي كان على علم باستعداد المستوطنين لاقتحام حوارة والقرى المجاورة لها، إلا أنه لم يحرك ساكنًا لمنعهم، وقالت صحيفة “يسرائيل هيوم” إن جهاز “الأمن” فشل في الوقت الذي كان واضحًا فيه أن المستوطنين يعدّون لاعتداءات واسعة في حوارة.
فقد كانت شبكات التواصل الاجتماعي تعجّ بالتحريض والتهديدات ضد الفلسطينيين، بل كتب نائب رئيس المجلس الاستيطاني “السامرة”، دافيد بن تسيون، في تويتر أنه “يجب محو قرية حوارة اليوم”، وأبدى الوزيران بتسلئيل سموتريش وإيتمار بن غفير إعجابهما بهذه التغريدة.
لم يتوقف عمل الجهاز الأمني والعسكري على حماية المستوطنين، بل امتدَّ إلى رفض استمرار الشكاوى بخصوصها، كما حدث مع عائلة عادل كريم الجعبري، وهم من الفلسطينيين القلائل الذين يعيشون بين مستوطنتَي كريات أربع وغيفعات هافوت في المدينة، ونظرًا إلى موقعهم فقد أضحى الجعبري وأولاده الـ 13 هدفًا متكررًا لهجمات المستوطنين منذ بداية عام 2000.
ورغم أن الجعبري قدّم 75 شكوى إلى الشرطة الإسرائيلية حتى عام 2008، فإن شكوى واحدة وصلت إلى المحكمة منذ بداية الاعتداءات عام 2000، وبعد إطلاق النار عليه من المستوطنين في أبريل/ نيسان 2006 حاول الجعبري وولده تقديم شكوى، لكنهما اتُّهما برجم الحجارة وتمَّ توقيفهما لمدة 13 يومًا بالسجن، وترتّب عن ذلك دفع غرامة مقدارها 2000 شيكل لكل منهما، كما خوّل الجعبري جمعية بتسيليم لإثبات حالة ضد مستوطنين، لكن تمَّ إغلاقها من قبل الشرطة.
المستوى الرسمي والقانوني للاحتلال يموّل ويدعم
ما زالت حكومة الاحتلال، وعلى رأسها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ترفض تعريف الجرائم التي يرتكبها المستوطنون ضد الفلسطينيين وأملاكهم في أراضي الضفة الغربية بأنها إرهاب، كما كشف تقرير مفصّل للقناة الإسرائيلية العاشرة عام 2013 عن حجم الأموال التي تقوم حكومة نتنياهو بتسريبها للمتطرفين اليهود، والمنظمات الإرهابية التي خرج منها القتلة ومنفّذو عمليات الحرق، ومنظمة تدفيع الثمن، وتقوم بنقل هذه الأموال خلسة لدعم هذه المنظمات.
حيث حوّلت في العام نفسه مبلغًا قدره 2.02 مليون شيكل (نصف مليون دولار أمريكي تقريبًا) للمستوطنات العشوائية، منها مخصصات مالية لعائلات الإرهابيين المستوطنين، وتقوم بتعيين محامين حكوميين عنهم أو تدفع أجور المحامين، وتصرف مخصصات لهم ولعائلاتهم، إضافة إلى مصاريف ترويحية عن المعتقلين الإرهابيين المستوطنين.
كما رفض المجلس الوزاري المصغّر عام 2013 الإعلان عن نشطاء وجماعات “تدفيع الثمن” كتنظيم إرهابي محظور، وبالإضافة إلى الحماية الحكومية تأتي الحماية التشريعية، فقد أسقطت الكنيست مشروع قانون ضريبة الأملاك والتعويضات (تعويض للمتضررين من الأعمال العنصرية العدوانية).
وفي محاولة لتفادي أي محاكمة، يتوجّه المستوطنون بشكل مقصود لاستخدام أطفالهم دون سن الـ 12 عامًا في تحضير عمليات الاعتداء على الفلسطينيين، ويتم حثّ هؤلاء الأطفال بشكل متكرر على القيام بهذه الاعتداءات، حيث إنهم دون السن القانوني لتتم محاكمتهم على أي جرم، ووفقًا لمجموعات حقوق الإنسان يستخدم المستوطنون هذا الأسلوب بشكل رئيسي في المنطقة 2H في الخليل، كما تمَّ التبليغ عنه في مناطق أخرى.
وحتى لو وصلت القضايا إلى المحاكمة، تشير البيانات إلى أن المحاكم الإسرائيلية أغلقت 95% منها ولم يتم النظر فيها، ما يجعل الفلسطيني في الضفة المحتلة في مواجهة ثالوث الاحتلال: الجيش والحكومة والمستوطنون، دون حماية قانونية تعوّضهم عن الأضرار وتحميهم من الأخطار، وبشكل أهم دون أي حماية فلسطينية.