لم يعد هناك وقت كافٍ للدبلوماسية في الحرب الأوكرانية، إذ استغرق التصعيد العسكري الوقت كله، لذلك تدمير سدّ نوفا كاخوفكا يمنح الروس ذريعة للتمادي في العنف أكثر من أي وقت مضى، بما ذلك تدمير البنية التحتية الأوكرانية عن آخرها بهدف منع الجيش الأوكراني من عبور نهر دنيبر حيث يقع السدّ، لأن العبور يعزز فرص نجاح هجوم الربيع المضاد.
هناك عبارة تاريخية تقول: “لقد عبر النهر”، التي تشير إلى عبور يوليوس قيصر نهر روبيكوني (شمال أيطاليا) في أوائل عام 49 قبل الميلاد، ويعني ذلك إقدام المرء على عمل حاسم أو تجاوز نقطة اللاعودة، مثلما فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما بدأ ما أسماه “العملية العسكرية الروسية لحماية دونباس” في فبراير/ شباط 2022.
في الجهة الأخرى، يتطلع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى أن يعبر جيشه نهر دنيبر، من أجل تحرير منطقة خيرسون الواقعة على الضفة الأخرى من هذا النهر الاستراتيجي، كخطوة أولى من أجل تأمين ضفافه، في حين شكّلت جغرافية أوكرانيا العنيدة، المليئة بالأنهار والتي يعبرها نهر دنيبر الهائل من الشمال إلى الجنوب، عقبات طبيعية كبيرة أمام تقدم الجيشَين على حد سواء.
من دمّر سد كاخوفكا؟
لا تزال موسكو وكييف تتبادلان الاتهامات بشأن تفجير سد نوفا كاخوفكا بأوكرانيا في 6 يونيو/ حزيران 2023، ما تسبّب في فيضانات واسعة النطاق في إقليم خيرسون الذي ضمّته موسكو إلى قوام الاتحاد الروسي، بالإضافة إلى زابوروجيا ودونيتسك ولوغانسك، إثر استفتاءات صورية نُظّمت في 30 سبتمبر/ أيلول 2022.
عندما جرى تدمير السد، كانت مستويات خزان كاخوفكا مرتفعة إلى أعلى مستوياتها.
فيما يرى خبراء هندسة أن المنشأة التي كانت تعمل منذ عقود عديدة انهارت جراء عطل تقني محتمل، ورغم أنه من غير المعتاد أن يفشل هذا النوع من السدود دون سابق إنذار، إلا أنه ليس واضحًا مدى جودة صيانة السد بعد سيطرة الروس عليه، وتعرضه للعديد من الأضرار السابقة.
عندما جرى تدمير السد، كانت مستويات خزان كاخوفكا مرتفعة إلى أعلى مستوياتها، وأدّى ذلك إلى إجلاء آلاف السكان المقيمين على مقربة من ضفاف النهر، حيث غمرت الفيضانات عدة قرى في المناطق الخاضعة للسيطرة الأوكرانية والروسية.
يبدو لأول وهلة أن فقدان المياه في خزان السد لا يصبّ في صالح روسيا، لأن ذلك يهدد بنقص إمدادات المياه إلى الأراضي الزراعية في شبه جزيرة القرم، وكذلك محطة زاباروجيا للطاقة النووية التي تسيطر عليها روسيا، على اعتبار أن المحطة لديها 6 مفاعلات ماء مضغوط من الطراز السوفيتي.
على النقيض، يعتقد العالم السياسي الفرنسي نيكولا بافيريس، أن كل شيء يشير إلى أن روسيا، التي كانت تسيطر على السد، هي المسؤولة عن تدميره، وكان هذا الانفجار بمثابة نقطة تحول جديدة في الحرب في أوكرانيا.
وأوضح بافيريس، في مقال في صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، أنه من خلال مهاجمة البنية التحتية الأساسية، وتدمير جزء كبير من الأراضي الأوكرانية التي تدّعي موسكو أنها تسيطر عليها، تكون روسيا قد انتقلت إلى مرحلة جديدة من العنف، كما تكشف في الوقت ذاته عن شكوكها في قدرتها على مواجهة هجوم كييف.
عبور النهر.. عملية حاسمة؟
يرى مراقبون أن تدمير سد كاخوفكا شكّل ضربة استراتيجية لخطط الهجوم المضاد الأوكرانية التي كانت قيد الإعداد منذ شهور، لكن عبور نهر دنيبر ليس الطريقة الوحيدة التي يمكن لأوكرانيا من خلالها استعادة الأراضي التي ضمّتها روسيا إلى حدودها.
وعلى أية حال، فإن تدمير سدّ كاخوفكا يُلزم قيادة الجيش الأوكراني بإعادة التفكير في خطط جديدة للهجوم المضاد، رغم الثمار الأولى التي حصدتها كييف مباشرة بعد بدء الهجوم.
يساعد نهر دنيبر في تحديد معالم المعركة، وقد اُعتبر منذ أيام الغزو الأولي في طليعة أهداف الكرملين.
لقد تمكّنت القوات الأوكرانية من السيطرة على 4 بلدات في دونباس يوم الاثنين 12 يونيو/ حزيران الحالي، والذي يصادف احتفاء الروس بيوم روسيا الذي كان يسمّى حتى عام 2002 بيوم قبول سيادة الاتحاد الروسي، منذ العام الموالي لسقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991.
وقبل ذلك بأيام احتدم القتال بين الروس والأوكرانيين في الجنوب، وأكّد بوتين أن هجوم الربيع بدأ بالفعل بدليل استخدام أوكرانيا احتياطات استراتيجية، ثم استدرك قائلًا: “الهجوم المضاد فشل ولم تتمكن القوات الأوكرانية من تحقيق أهدافها في أي من ساحات المعركة، لكن نظام كييف لا يزال يملك قدرات هجومية”.
الآن، يساعد نهر دنيبر في تحديد معالم المعركة، وقد اُعتبر منذ أيام الغزو الأولي في طليعة أهداف الكرملين، إذ تشير التوقعات إلى أن الجيش الروسي قادر على احتلال العاصمة كييف حين يسيطر على المعابر على طول دنيبر، فهذا يمنحه حرية تحرك بين شرق أوكرانيا وغربها.
شبه مستحيل
كانت إحدى النظريات الرئيسية للهجوم المضاد المتوقع هي أن القوات الأوكرانية ستحاول عبور نهر دنيبر، حيث يوجد مضيق في منطقة خيرسون قبل التقدم سريعًا جنوب شرق القرم، بذلك يمكن لأوكرانيا أن تقطع خطوط الإمداد الروسية الممتدة من شبه الجزيرة إلى القوات المتمركزة في منطقتَي زاباروجيا ودونباس.
لكن الآن، تدفقت ملايين الأمتار المكعّبة من المياه من سد كاخوفكا إلى نهر دنيبر، ما أدى إلى إغراق كل ما في طريقه، في غضون ذلك قال ضابط أوكراني طلب عدم ذكر اسمه لصحيفة “فاينانشال تايمز“: “إذا أردنا عبور النهر هناك، فلن نستطيع”.
إن تفجير السد لا يصعّب على القوات الأوكرانية عبور النهر إلى الضفة الأخرى فحسب، لكن الفيضانات تؤثر أيضًا على الضفة الجنوبية حيث توجد قواعد دفاعية للروس.
في غضون ذلك، يمكن اعتبار هذه الفيضانات بمثابة النعمة لروسيا، حسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، حيث سوف تستفيد من فترة استراحة من أجل تنظيم دفاعاتها على أحسن وجه، بينما تحرم أوكرانيا في الوقت نفسه من بعض الخيارات لعبورها الهجومي.
لعلّ موسكو نجحت في تقويض خطة العبور وتحويلها إلى خيار بلا مغزى، لأن المشاة وحدهم الآن من يمكنهم العبور في كتائب صغيرة دون المركبات المدرّعة، ومن المتوقع أن تكون حركتهم بطيئة بسبب تراكم الحطام وارتفاع مستوى المياه.