لا تزال التحركات الأمريكية مستمرة شمال شرق سوريا لصدّ أي محاولة هجوم أو تحرش إيراني محتمل، بعد ارتفاع وتيرة القصف ضد الميليشيات الإيرانية خلال الأشهر الماضية.
هذه التحركات بلغت أوجها بعد أن كشفت “واشنطن بوست” أوائل الشهر الجاري، نقلًا عن مسؤولين استخباراتيين ووثائق سرّية مسرّبة، تسليح إيران ميليشيات في سوريا لمرحلة جديدة من الهجمات المميتة ضد القوات الأمريكية، إضافة إلى تنسيقها مع روسيا ودمشق للعمل على استراتيجية أوسع تهدف إلى إبعاد النفوذ الأمريكي من المنطقة.
وحسب الموقع، فإن إيران وحلفاءها يعملون على تأسيس وتدريب قوات على استخدام متفجرات خارقة للدروع أكثر تدميرًا، تستهدف المركبات العسكرية الأمريكية وقتل الأفراد الأمريكيين في سوريا.
وتمثلت تحركات واشنطن التي تعمل على ترتيب صفوفها في المنطقة عبر نشرها قاذفات صواريخ هيمارس الدفاعية الشهيرة في قواعدها بريف دير الزور والحسكة، لمواجهة الصواريخ والطائرات المسيّرة التي استخدمتها الميليشيات الإيرانية عدة مرات ضد القوات الأمريكية، إذ تتميز هذه الصواريخ بمدى طويل تستخدَم في ضربات دقيقة متوسطة المدى تصل إلى 70 كيلومترًا، وهي من أكثر الأسلحة أهمية في مخزون القوات الأمريكية.
هذا بالإضافة إلى بدء قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، تدريبات عسكرية جديدة في إحدى أكبر قواعدها العسكرية بريف محافظة دير الزور، بالتزامن مع إرسالها تعزيزات عسكرية من إقليم كردستان العراق إلى إحدى قواعدها المنتشرة بريف محافظة الحسكة.
جاهزية للردّ
ينفي عبد الرزاق الخضر، الناطق الرسمي باسم جيش سوريا الحرة المتحالف مع القوات الأمريكية في منطقة الـ55 جنوب شرق سوريا، وجود تنسيق مع أي قوة لمواجهة الميليشيات الإيرانية، إلا أن قوات الجيش -حسب حديثه لـ”نون بوست”- مستعدة لأي شكل من التعاون مع أي قوة أخرى تعمل من أجل سوريا المستقبل، لا سيما أن الميليشيات الإيرانية استهدفت قوات جيش سوريا عدة مرات بطائرات مسيّرة.
مضيفًا: “نحن في جيش سوريا الحرة ننظر إلى الأحداث التي تمرّ بالمنطقة بحذر، ولا بدَّ من الحديث حول التغيرات الديموغرافية والدينية التي تعتمدها الميليشيات الإيرانية من أجل خلق بيئة مناسبة لها في سوريا”.
ولفت الخضر إلى عدم وجود معلومات تدل على نية إيران استهداف قوات جيش سوريا الحرة أو قوات التحالف في التنف، إلا أن الطرفَين جاهزان للردّ على أي تهديد للمنطقة وأمن المدنيين، لا سيما أن الدعم العسكري الأمريكي لجيش سوريا الحرة لم ينقطع، وهو مستمر من أجل زيادة الحماية للمنطقة.
تصعيد إيراني وتجهيز أمريكي
رغم أن الهجمات الإيرانية على القواعد العسكرية الأمريكية شرقَي سوريا كقاعدة التنف وقواعد كونيكو وحقل العمر، باتت معهودة ومعتادة، خاصة خلال العامَين الماضيَين، إلا أن الهجوم الإيراني الأخير في أبريل/ نيسان الفائت، والذي استهدف قاعدة خراب الجير بالقرب من الحسكة، كان واسع النطاق، كما الهجوم الذي سبقه في مارس/ آذار الفائت.
إذ تعرضت قاعدة أمريكية عسكرية في حقل العمر النفطي شرقي سوريا لاستهداف بصاروخَين عبر طائرة مسيّرة، أدّت إلى مقتل متعاقد أمريكي وإصابة جنود آخرين، وتبنّت الهجوم حينها ميليشيا تطلق على نفسها “لواء الغالبون” تابعة للحرس الثوري الإيراني.
وأكّدت الميليشيا أن الجيش الأمريكي “لن ينعم بالأمن في العراق وخارجه حتى تحقيق الخروج الكامل للقوات الأمريكية”، لافتة إلى عزمها متابعة تنفيذ المزيد من العمليات “الدقيقة” ضد الجيش الأمريكي، وبأسلحة ذات تطور مستمر.
في المقابل، توجهت القوات الأمريكية الشهر الفائت نحو إقامة نقاط انتشار جديدة داخل الأراضي السورية المحاذية للشريط الحدودي مع العراق، في إطار اتخاذ تدابير لاحتمالية هجمات جديدة من قبل الميليشيات المدعومة من إيران.
وتتوزع القوات الأمريكية في 25 قاعدة رئيسية، منها 3 نقاط مشتركة مع التحالف الدولي شمال شرق سوريا، وتغطي القوات المقدّر عددها 900 جندي معظم حقول النفط، كحقل العمر الذي توجد فيه أهم وأكبر قواعدها ضمن منطقة جغرافية استراتيجية، والمحاط بمعقل عشيرة العكيدات (كبرى عشائر المنطقة الشرقية).
هذا فضلًا عن توسط الحقل جميع المناطق التي تتطلب تحركات أمريكية في المنطقة، كمدينة البوكمال معقل الحرس الثوري الإيراني في دير الزور، إضافة إلى مناطق الباغوز والبصيرة التي تشهد نشاطًا متقطعًا لخلايا تنظيم الدولة بين الحين والآخر.
من جهة أخرى، هناك قاعدة التنف جنوب شرقي سوريا المشتركة مع جيش سوريا الحرة، والتي تعرضت عدة مرات لاستهداف بصواريخ طائرات مسيّرة وصواريخ تتبع لميليشيات إيرانية منتشرة في المنطقة ذاتها.
يرى مصطفى النعيمي، الباحث في الشؤون الإيرانية، أن هناك جهدًا عسكريًّا كبيرًا من قبل القوى المرتبطة بمشروع إيران، كإعادة تموضع وانتشار ميليشيا “حزب الله” اللبناني الموجودة في منطقة الحدود السورية اللبنانية بدءًا بمنطقة القصير، وصولًا إلى منطقة القلمون في ريف دمشق، وانتقالها إلى محافظة دير الزور شرق سوريا لدعم القوى المرتبطة بإيران.
كذلك القوى المحلية العاملة تحت إمرة الحرس الثوري الإيراني الذي يحضّر لمعركة محتملة ضد الولايات المتحدة وحلفائها في سوريا، وذلك من أجل ممارسة الضغوط العسكرية القصوى لإجبارها على مغادرة الأراضي السورية.
ولا يخفى أن المناورات والتدريبات التي تجريها الولايات المتحدة وحلفاؤها هي بمثابة رسائل ردع ضد الميليشيات الإيرانية وحلفائها في سوريا والعراق في آن معًا، وأن الهدف الاستراتيجي من تلك الرسائل أن الولايات المتحدة موجودة في سوريا لردع أي قوات تحاول تغيير مناطق النفوذ الدولية التي رُسمت وحُددت مرحليًّا منذ نهاية عام 2020، إذ تمنع أمريكا بموجبها كافة القوى العسكرية العاملة من إجراء أي تغيير على تلك الخرائط.
يؤكد النعيمي لـ”نون بوست” أن إيران تسعى لإنشاء أجسام عسكرية محلية وكيلة، يتم استخدامها للضغط على خصومها وضرب مصالح الولايات المتحدة كميليشيا “الجيش الشعبي”، وهي ميليشيا سورية أُعلن عن تشكيلها نهاية عام 2022 في محافظة دير الزور، وتحوي مجموعة من الميليشيات المحلية السورية الخالصة، يقودها نضال دليلة الذي يشغل منصب رئيس اللجنة الأمنية والعسكرية في المدينة، معتبرًا أن إيران لن تنجح في تلك الخطوة التكتيكية.
وتسعى أمريكا لحصر القوات الإيرانية والأذرع الموالية لها في المنطقة الشرقية في محاولة استنزافها تدريجيًّا، فيما لو حصل أي صدام بينهما، فإن مساعي أمريكا ستكون متاحة لوصل مناطق نفوذها شمال شرق سوريا إلى منطقة التنف وقطع طريق طهران دمشق بيروت.
يشير النعيمي إلى أن قطع طريق طهران دمشق بيروت بات قريبًا رغم أنه مراقب من قبل سلاحَي الجو الاستخباراتي الأمريكي والإسرائيلي، فقطعه بريًّا سيمثّل الخطوة الأولى في عملية خنق الأذرع الموالية لإيران، لأن الطرق البحرية محاصرة وخطوط الملاحة الجوية تحت السيطرة الأمريكية، وبالتالي ستضعف تلك الأذرع تدريجيًّا، وصولًا إلى إعادة رسم مناطق النفوذ الدولية لصالح توسيع النفوذ الأمريكي وإضعاف الدور الإيراني.
مطالب بالتنسيق ورفع الجاهزية
أكّدت وكالة “الأناضول” التركية، أوائل الشهر الجاري، أن القوات الأمريكية في سوريا تتخذ خطوات لضمان التنسيق بين قوات الصناديد العاملة تحت مظلة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على طول الحدود العراقية الأردنية، وجيش سوريا الحرة المتمركز في منطقة الـ 55.
وكشفت الوكالة أن وفدًا رفيعًا من القوات الأمريكية التقى قائد قوات الصناديد التابعة لقبيلة شمر العربية، بندر حميدي الدهام، في منطقة اليعربية في محافظة الحسكة شرقي سوريا، مطالبةً قواته بالتنسيق مع جيش سوريا الحرة في منطقة التنف على المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، واتخاذ التدابير ضد الأجانب المدعومين من إيران وضمان أمن الحدود، وكان قبلها أيضًا استعادة الجانب الأمريكي اتصالاته مع “لواء ثوار الرقة” العربي العامل في شمال شرق سوريا من جهة، وطلبها من قوات سوريا الحرة رفع جاهزيتها من جهة أخرى.
يرى أنس الشواخ، الباحث السياسي المتخصص في شؤون منطقة شرق الفرات بمركز جسور للدراسات، أن هناك توجهًا أمريكيًّا ورغبة بإشراك التنظيمات العربية في شمال شرق سوريا لمحاربة الميليشيات الإيرانية، كون هذه التنظيمات من المكون العربي الرئيسي والغالب في المنطقة، وخلق مظلة أوسع من مظلة “قسد” تتبع للتحالف.
هذا بالإضافة إلى وعي أمريكا أن وحدات حماية الشعب الكردية ووحدات حماية المرآة العمود الفقري لقوات “قسد”، تتبع بشكل مباشر لحزب العمال الكردستاني الذي يتميز بعلاقته الجيدة مع الحرس الثوري الإيراني، فمن الصعب اعتماد الولايات المتحدة عليها في مواجهة الميليشيات الإيرانية.
ويضيف الشواخ أنه يمكن ملاحظة وجود الميليشيات الإيرانية على ضفة الفرات شرق دير الزور، مقابل نقاط تتمركز فيها “قسد” على الطرف الآخر، دون أن يسجَّل تصادم بين الطرفَين، فالاستهداف الإيراني دائمًا ما يكون للقواعد الأمريكية بمعزل عن قوات “قسد” حليفة القوات الأمريكية.
ويمكن اعتبار المكون العربي السنّي شمال شرق سوريا أكثر التنظيمات تأهيلًا للقضاء على الميليشيات الإيرانية بدعم الأمريكي، باعتباره من أبناء المنطقة والكتلة الأكبر، إضافة إلى استفادة أمريكا من الشحن الطائفي (السنّي-الشيعي)، لا سيما بعد المجازر البشعة التي ارتكبتها الميليشيات الإيرانية بحقّ أبناء المنطقة العربية السنّية، وتبنّي بعض الفصائل العسكرية العربية كقوات سوريا الحرة ومجلسَي دير الزور ومنبج العسكريَّين لمواقف عدائية واضحة ضد النظام والميليشيات الإيرانية.
عبث روسي وخلط للأوراق
بتاريخ 22 مارس/ آذار 2023 صرّح قائد القوات الجوية في القيادة المركزية الأمريكية، أليكسوس غرينكيفيتش، أن الطائرات الروسية نفّذت نحو 25 طلعة فوق قاعدة التنف العسكرية في ريف حمص خلال الشهر ذاته، مقابل صفر من الطلعات في فبراير/ شباط و14 طلعة في يناير/ كانون الثاني.
وحذّرت القيادة المركزية من أن تحليق الطائرات الروسية فوق قاعدة التنف يهدد بالتصعيد، وينتهك اتفاقًا دام 4 سنوات بين موسكو وواشنطن، لتفادي الحوادث أثناء تحليقات الطائرات في الأجواء السورية الذي عُقد عام 2019.
يؤكد الباحث الاستراتيجي، العميد أحمد الرحال، في حديثه لـ”نون بوست”، أن كل عمل إيراني اليوم هو مدعوم من قبل روسيا بسبب رغبتها في الانتقام من الغرب الداعم لأوكرانيا، والذي أحرجها في حربها هناك، وبالتالي ترغب روسيا في تحويل شمال شرق سوريا إلى ساحة مواجهة بأدوات أخرى، فكما أن الأمريكيين يدعمون أوكرانيا، فإن روسيا تدعم إيران أيضًا بهدف إقلاق الوجود الأمريكي شرق الفرات.
ويرى الرحال أن الهجمات المنفردة واستنزاف القوات الأمريكية في العراق دفعاها للخروج منها، فإيران تبحث عن سيناريو مشابه لما جرى في العراق، وتريد إرسال رسالة بضرورة انسحاب أمريكا من سوريا، رغبةً منها في إفراغ الساحة والوصول إلى منابع النفط ومساعدة حليفها بشار الأسد، والتخلُّص من الضربات الأمريكية بين الحين والآخر.
ويشترك النعيمي مع الرحال في أن روسيا تحاول استثمار البروباغاندا في استهدافها لخصومها في سوريا، وذلك للردّ على الولايات المتحدة التي تقدّم الدعم اللوجستي للقوات الأوكرانية، إلا أن تلك الرسائل لن تتعدى المسار الإعلامي، ولا يمكن أن تغير قواعد الاشتباك الدولية في سوريا بما لا يتناسب مع مصالح المنظومة الدولية.
وبالتالي، هذه الرسائل تلوّح بالقوة لكن دون استخدامها، فروسيا لا تجرؤ على الصدام المباشر مع الولايات المتحدة، لأنها تدرك تمامًا بأنها ستدفع ثمن ذلك في سوريا الذي لا يقلّ عن الانسحاب التدريجي كمرحلة أولى.
روسيا -بحسب النعيمي- تريد توجيه رسائل لحليفتها إيران التي تدعمها بمسيّرات “شاهد 136″، والتي ثبت استخدامها من قبل القوات الروسية ضد أوكرانيا، وبالتالي هي تريد استثمار الموقف إعلاميًّا لدعم إيران، لكنها لن تستخدم أي دعم لوجستي يؤثر على تموضعها في سوريا، فميليشيا إيران اليوم باتت ترفع أعلام قوات النظام السوري في قواعدها العسكرية، خشية الاستهدافات الأمريكية والإسرائيلية وسط ترقب روسي.
ويبدو أن إيران تريد الاستفادة من التغييرات الإقليمية، بدءًا من تحسُّن علاقاتها التدريجية مع السعودية، وتهافت دول الجوار السوري والدول العربية للتطبيع مع النظام السوري، وما يحمله التطبيع من استعادة نظام الأسد للشرعية الإقليمية والعالمية، التي تشجّعه مع حليفه الإيراني على مواجهة الوجود الأمريكي وتعزيز نفوذهما في شمال شرق سوريا.
لكن في المقابل، يحف المغامرة الإيرانية والعبث الروسي خطر الموقف الأمريكي وأوراقه المتعددة، بدءًا من التحالف القوي مع القوات البرية المحلية، وانتهاءً بالحليف الإسرائيلي الذي لا يكفّ عن استهداف الوجود العسكري الإيراني وتقويض انتشاره.