خلال محاولاته المتكررة لعسكرة الدولة والسيطرة على الحكم والعاصمة طرابلس، استنجد اللواء المتقاعد خليفة حفتر بمرتزقة فاغنر، وكان دورهم الأساسي في البداية تدريب قوات حفتر وتزويدها بأسلحة متوسطة وثقيلة، على غرار المدافع والدبابات والطائرات المسيّرة، فضلًا عن الجانب الاستخباراتي والحرب الإعلامية.
لم يقتصر دورهم على التدريب والدعم اللوجستي وإدارة الحرب الإعلامية، بل شاركوا في معركة طرابلس التي تكبّد حفتر خلالها خسائر كبرى، وأُجبر على العودة من حيث جاء تحت وقع الطيران المسيّر التركي، الذي استنجدت به حكومة الوفاق الوطني في ليبيا بقيادة فائز السراج.
عندما انتهت حرب طرابلس، حتى بدأ يظهر للعيان حجم الجرائم التي قامت بها مرتزقة فاغنر، إما لحسابها الخاص وإما حساب حليفها حفتر بعلم من القيادة في موسكو، ما أربك الوضع العام في البلاد وساهم في تأجيج الخلافات بين مختلف الفرقاء.
جرائم كثيرة وتدخُّل واسع في الشأن الليبي، أجّل التوصل إلى حلّ سلمي يضع حدًّا للأزمة المتواصلة في ليبيا منذ سنوات عديدة، والتي أثّرت على مجرى الحياة في البلاد، لكن هل يتم استغلال أزمة فاغنر الأخيرة وتوتر علاقتها مع الكرملين لتحجيم دورها في هذا البلد المغاربي؟
دور فاغنر المخرّب في ليبيا
نشرت وسائل إعلام مساء أول أمس الأربعاء، صورًا لعملية تفتيش لمنزل زعيم مرتزقة فاغنر الروسية، يفغيني بريغوجين، في سان بطرسبورغ، وظهر بريغوجين في الصور خلال تواجده بليبيا، حيث ارتدى زيًّا عسكريًّا ليبيًّا، وتنكر بلحية مستعارة، ليظهر بأنه أحد المقاتلين السلفيين الموالين للجنرال المتقاعد خليفة حفتر.
تكشف هذه الصورة بعضًا ممّا حيك لليبيين على يد حفتر وحليفه بريغوجين الذي يقود فاغنر، المنتشرة في عديد الدول الأفريقية على غرار مالي وأفريقيا الوسطى، فهذه المجموعة شبه العسكرية تستثمر في الفوضى وتعمل على تقويض المؤسسات الديمقراطية، ودعم حملات التضليل الإعلامي والمعلوماتي لتحقيق أهدافها ومصالحها.
حاولت الحكومة الليبية في أكثر من مرة طرد مرتزقة فاغنر من البلاد، لكن لم تتمكن من ذلك لتمتعها بحصانة موسكو لكن الآن الفرصة مواتية.
في 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، قال محققون بالأمم المتحدة إن أطرافًا في الصراع الليبي، ومنهم المرتزقة الروس، انتهكت القانون الإنساني الدولي وارتكبت انتهاكات قد تشمل جرائم حرب، وأضافوا أنهم أعدّوا قائمة سرّية بالمشتبه بهم.
كما سبق أن أثارت البعثة الدولية المستقلة لتقصّي الحقائق في ليبيا عديد القضايا ضدّ فاغنر، منها إطلاق النار على سجناء، كما أشارت تقارير أخرى إلى قيام مرتزقة فاغنر بزرع الألغام قرب مبانٍ مدنية في مناطق غادرتها قوات حفتر، لدى انسحابها من المعركة ضد حكومة الوفاق، وقتلت الألغام، التي صُنع أغلبها في روسيا، أو شوّهت مدنيين لدى عودتهم إلى ديارهم.
“رأينا مساجد من قبل في روسيا، ولكن الأجمل أن نشاهدها تحترق، أو في الجحيم”
هذا ما كتبه مرتزقة فاغنر الروس في يونيو 2020 بعدما أحرقوا مسجدا في جنوبي طرابلس وحرقوا المصاحف، هؤلاء من جاء بهم حفتر لينصروه، بعدها هزموا في ليبيا واليوم يسحقون في أوكرانيا #ليبياpic.twitter.com/4dASGPeCNx
— أخبار العالم الإسلامي (@muslim2day) June 30, 2023
سبق أن قال الجنرال برادفورد جيرينج، مدير العمليات في القيادة الأمريكية العسكرية في أفريقيا (أفريكوم)، “إن التكتيكات غير المسؤولة لمجموعة فاغنر تسهم في إطالة أمد الصراع، كما أنها مسؤولة عن معاناة الكثيرين ومقتل المدنيين الأبرياء”، بالتزامن مع ذلك أكدت “أفريكوم” أن “لديها أدلة واضحة على أن شركة فاغنر زرعت ألغامًا أرضية وعبوات ناسفة في طرابلس وحولها”.
وتقول منظمة هيومن رايتس ووتش إن الألغام والأشراك المفخّخة التي عُثر عليها، أُخفيت داخل المنازل والمباني الأخرى، وفي بعض الحالات داخل الأثاث، وغالبًا ما تمَّ تجهيزها بأسلاك غير مرئية تفعّل الانفجار، ما أدى إلى مقتل 130 وجرح 196 بين مايو/ أيار 2020 ومارس/ آذار 2022.
عملية التخادم بين مرتزقة #فاغنر و مليشيات #المداخلة في #ليبيا برعاية #بوتين تم الكشف عنها بالأمس بعد أن عرض الأمن الروسي لصور زعيم المرتزقة #بريغوجين بلحى مستعارة ولباس مليشيات #حفتر من المداخلة، مما يؤكد عملية التخادم بين هذه القوى المناهضة للثورات العربية ولحرية الشعوب. pic.twitter.com/3ruIf2NfwE
— د ـ أحمد موفق زيدان (@Ahmadmuaffaq) July 7, 2023
فضلًا عن ذلك، ساعد مرتزقة فاغنر فرق المدفعية التابعة لحفتر، وشغّلوا أنظمة الدفاع الجوي الروسية “بانتسير”، وأصلحوا المعدّات العسكرية، كما عمل مقاتلو فاغنر كقناصة وزرعوا الخوف في صفوف المدنيين العزّل.
لم تقتصر جرائم فاغنر عند هذا الحدّ، بل قادت عمليات تضليل إعلامي في ليبيا لدفع الناس على حمل السلاح والتقاتل فيما بينهم، وتقويض مؤسسات البلاد ونشر الفوضى في البلاد، حتى يتسنى لها تحقيق أكبر قدر من الأهداف في ليبيا، كما أشرفت على عمليات تهريب النفط الليبي.
وكان لمرتزقة فاغنر دور كبير في عرقلة عملية السلام في البلاد، فدعمها لحفتر منحه القوة لتعطيل أغلب المبادرات التي طُرحت على طاولة الحوار، ذلك أن السلام لا يخدم مصلحتها، وفي الكثير من الأحيان غيّرت تحالفاتها لمن يدفع أكثر.
فرصة مواتية لتحجيم دورها
نهاية شهر يونيو/ حزيران الماضي، قصفت طائرات مسيّرة مجهولة قاعدة الخروبة الجوية الواقعة على بُعد 150 كيلومترًا جنوب شرق بنغازي، حيث ينتشر عدد من قوات فاغنر الروسية، ونسبت مواقع إخبارية الهجوم إلى القوات المسلحة التابعة لحكومة طرابلس المعترف بها من الأمم المتحدة.
تعتبر هذه العملية الأولى من نوعها التي تستهدف مرتزقة فاغنر منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، بين قوات حفتر وحكومة الوفاق، والذي انسحبت بمقتضاه قوات فاغنر إلى الشرق وركنت إلى الراحة لبعض الوقت.
جاءت هذه العملية العسكرية الخاطفة بعد أيام قليلة من توتر العلاقات بين الكرملين ومرتزقة فاغنر، على خلفية سيطرت الأخيرة على منشآت عسكرية في مقاطعة روستوف (جنوبي روسيا)، وتهديد زعيمها بالتوجه إلى العاصمة موسكو للسيطرة عليها.
يبدو أن حكومة عبد الحميد الدبيبة وحلفاءها استغلّا توتر العلاقات بين موسكو و “أمير الحرب” يفغيني بريغوجين، لتوجيه ضربة عسكرية سريعة لفاغنر، وإن كانت لم تسفر عن خسائر بشرية، فإن هذه الضربة تأكيد من حكام طرابلس على نيتهم طرد فاغنر وعدم غضّ الطرف عنهم.
تعلم روسيا أن رفع الغطاء عن فاغنر سيجعلها لقمة سائغة للقوى الغربية في أفريقيا، وستكون بذلك في موقف ضعف أمام خصومها.
حاولت الحكومة الليبية في أكثر من مرة طرد مرتزقة فاغنر من البلاد، لكنها لم تتمكن لتمتعها بحصانة موسكو، لكن الآن الفرصة مواتية لذلك، خاصة أن فاغنر اكتسبت عداوات كثيرة في البلاد وفقدت الكثير من حلفائها هناك.
يمكن لطرابلس الاستعانة بأنقرة وواشنطن وبدرجة أقل القاهرة، حتى تتمكن من إخراج فاغنر من البلاد، وهو ما يمكن أن يسهّل عملية الوصول إلى حل سلمي ينهي الحرب والانقسامات الدائرة في ليبيا منذ أكثر من عقد.
حتى وقت قريب، كان يُنظر إلى مرتزقة فاغنر بأنهم عصا موسكو الغليظة التي تضرب بها بعيدًا عن القانون، لكن مستقبل المجموعة الآن لا يزال غير واضح، عقب تمرّدها على القيادة العسكرية الروسية وتأكيد عزمها السيطرة على موسكو.
فرضيات ضعيفة
يراهن حكام طرابلس على تراجع قوة فاغنر، فخلافها مع الحكومة الروسية سيضعفها وفق اعتقادهم، وهو ما يسهّل عليهم المضيّ قدمًا في خطط السلام التي ما فتئت فاغنر تعرقلها في السنوات الماضية، بدفع من حفتر وروسيا وقوى أخرى على غرار الإمارات.
صحيح أن العلاقة بين الطرفَين توترت، لكن من المرجّح أن يقتصر توتر العلاقات بين موسكو وقائد المجموعة يفغيني بريغوجين، أي أن موسكو ستحصر الخلاف مع بريغوجين حتى لا تخسر مرتزقة فاغنر ككل، خاصة أنهم قدموا خدمات عظيمة للقيادة الروسية.
عندما كانت المسيرات التركية تدمر مليشيات فاغنز في ليبيا كان هناك من يعلن الجهاد ضد القوات التركية، ويعتبرها قوات احتلال.
هل كان قائد فاغنر بروزجين هو من يصدر تلك الفتاوى؟
أين الذين قالوا أنهم سيصلون العيد في طرابلس خلف بروزجين؟
الحقائق تظهر يوماً بعد يوم pic.twitter.com/n8zCm4L19i
— الرادع التركي 🇹🇷 (@RD_turk) July 6, 2023
تعلم روسيا أن رفع الغطاء عن فاغنر سيجعلها لقمة سائغة للقوى الغربية في أفريقيا، وستكون بذلك في موقف ضعيف أمام خصومها الراغبين في تقليم أظافرها، بعد الانتشار الواسع الذي حققته في الكثير من الدول الأفريقية في السنوات الأخيرة.
من المستبعد أن يضحّي الرئيس فلاديمير بوتين بالتقدم الذي حققته فاغنر في ليبيا، لذلك سيبقى دعمه للمجموعة، مع أن تكون أكثر ولاء للكرملين، وألا تتحرك عكس رغباته، كما حدث في العديد من المرات السابقة.
الحفاظ على قوة فاغنر في ليبيا لن يكون مهمة روسيا فقط، إنما حلفائها في الداخل أيضًا على رأسهم اللواء المتقاعد خليفة حفتر رغم تمرد المجموعة عليه في أكثر من مرة، كما ستكون كذلك مهمة دولة الإمارات التي أثبتت تقارير عديدة تمويلها لهذه المجموعة بغية تحقيق أهدافها في المنطقة.