ثقيلة تمرُّ الذكرى العاشرة لانقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، كثقل السنوات العشر التي مضت، منذ أُطيح بالتجربة الديمقراطية اليتيمة، إثر التظاهرات التي شهدتها مصر مدعومة ومموّلة من كل جهة كان من مصلحتها محو الربيع العربي، وتلقين الشعوب دروسًا قاسية على حلمها بالتغيير.
ومربك هو الحديث عن 10 سنوات من عمر الوطن وأعمارنا، قتلى ومختفون ومعتقلون ومنفيون بلا حصر، ومربك أكثر في لحظة تغلق فيها كل ملفات وقضايا التغيير في عالمنا العربي، وتطبّق سياسات “صفر مشاكل” على مطالبنا.
يتصالح السعوديون مع إيران، فتهدأ أحوال اليمن دون أن يسأل أحد عن 9 سنوات دموية عاشتها البلاد، ودون أن يحاسَب أحد على كل الجرائم التي اُرتكبت بحق أهله.
ويعود في الوقت ذاته بشار الأسد للجامعة العربية عودة المنتصر على شعبه، دون أن يدفع أي ثمن لقصف مواطنيه بالبراميل المتفجرة وتهجيرهم، ويحكم تونس بعد سنوات الربيع ديكتاتور غير متوقع، عطّل كل دستور وميثاق وانفرد بكل شيء، وقُسِّمت ليبيا، عمليًّا، بين شرق وغرب، بترتيبات الهدوء الحذر.
وأخيرًا، تتصالح تركيا وقطر مع باقي دول الخليج ومصر تحت وطأة الأمر الواقع، وكأن جنرالًا آخر غير السيسي هو من انقلب واستولى على السلطة، ما يعني إعلانًا غير منطوق لنهاية حراك التغيير في عالمنا العربي.
ماذا حدث في 10 سنوات؟
داخليًّا، وبالعودة إلى القاهرة، تحين أيام يوليو/ تموز هذه السنة على واقع مؤسف، فبوضع الأزمة الاقتصادية الحادة والقمع السياسي الذي لم تشهده الجمهورية من قبل في الحسبان، فإن نتائج دولة يوليو الجديدة التي بدأت بالمذابح أفقدت المجتمع تعاطفه، وحوّلته إلى مجتمع أصبحت أخبار العنف والقتل والاعتداء بين مواطنيه عادية وغير مفاجئة.
خلال السنوات الماضية، أسّست الدولة لمنطق الاستباحة باسم الدولة والقانون والحرب على الإرهاب، بالسماح لبلطجيتها بانتهاج العنف السياسي، وأسمتهم بالمواطنين الشرفاء، وانتشرت وقائع الإفلات من العقاب للمنتمين إلى المؤسسات الأمنية، الذين تعرّض العشرات للقتل على أيديهم خارج نطاق القانون وتحت التعذيب.
وفي إعلامها، أطلقت الدولة أبواقها بالتحريض على العنف والقتل واستهداف المختلفين والإبلاغ عن الجيران “الإخوان”، وترفع اللجان الإلكترونية شعارات “افرم يا سيسي”، وتسخَّر الصحف والجرائد للعبث بحياة الناس الخاصة والتشهير بهم، بل حتى التفاخر بمخالفة القانون وتسجيل مكالماتهم الخاصة وإذاعتها في الإعلام.
ورعَت الدولة نفسها نهج الإفلات من العقاب، بتجاهلها البلاغات بالعنف والتعرض للنساء، وتجاهل تنامي العنف في الشارع والأماكن العامة والتحرش بهنّ، حتى تعرّضن للقتل على يد مترصديهن، ويحدث هذا بينما تنشغل الأجهزة الأمنية بتعقُّب المحادثات الخاصة للمعارضين.
ليربى الشعب على عُرف جديد زادت فيه قيمة العنف، فحتى بلطجية مثل صبري نخنوخ أصبح له مريدون يشعلون مواقع التواصل الاجتماعي مدحًا في رجولته، ويعاد تقديم مجرمين مثل إبراهيم العرجاني على أنهم رجال أعمال وطنيون.
وبما أن هذا المشهد جرى تشكيله على وقع تظاهرات 30 يونيو/ حزيران التعيسة، فإنه حتى بالتسليم بخروج الناس مطالبة برحيل الرئيس الراحل محمد مرسي، فإن ما جرى قبل هذا التاريخ يعكس تغيُّرًا كبيرًا حدث في توجُّه المجتمع، أنتجَ بالتبعية هذا المشهد.
ما قبل العاصفة
بعد ثورة 25 يناير، وحينما فُتحت الصناديق للناخبين، كان خيار المصريين دومًا نحو القوى المعارضة لمبارك والمحسوبة على الثورة، في كل المناسبات الديمقراطية بداية من البرلمان، وحتى عصر الليمون وانتخاب محمد مرسي رئيسًا مدنيًّا حتى لا يعود الفلول إلى السلطة.
لكن ما حدث بعدها، من إعادة تعبئة الشعب ضد نخبته السياسية المحسوبة على قوى التغيير، وبداية دائرة العنف ضد المعارضين، بالاعتداء على التظاهرات ثم حرق المقرات والتحريض المستمر للعنف من الإعلام، أدّى إلى تأهيل الشعب نفسيًّا بأن يقبل بذبح المعارضة في الشوارع، إما فَرِحًا بالانتقام وإما صامتًا خائفًا من أن تطاله يد العنف، وقد طالت الجميع.
وبالابتعاد عن مصر مرة أخرى، واحتساب النتائج، فلم يخرج اليمنيون ضد عبد الله صالح لخلق حرب أهلية، ولم يتظاهر السوريون طلبًا لتمزيق بلادهم، بل كانت تظاهراتهم الأولى تطالب بـ”حرية وبس”.
وحتى تونس، التي كان ينظر إليها دومًا أنها الإجابة، فرغم النتيجة المخيفة التي تحوّل فيها الوضع السياسي، لم يكن في الحسبان أبدًا أن ينقلب أستاذ القانون الدستوري على كل ما هو دستوري، بعد تحقيقه فوزًا تاريخيًّا على منافسه نبيل القروي، والأخير معروف بفساده وعلاقته بنظام بن علي الهارب.. فهل هذا خطأ التونسيون أن يكون خيارهم هو الابتعاد عن رموز النظام السابق؟
خطأ بألف
عام 2016 انتخب الأمريكيون دونالد ترامب، وفي عهده خضعت السياسة لمنطق المقاولة، واعترف الجميع، والجمهوريون منهم، بخطأ هذا الاختيار، لكن أولًا كانت هناك مؤسسات حقيقية حاولت، على الأقل، أن تمنع أو تقلل الآثار الجنونية لحكم هذا المقاول لأقوى دولة في العالم، وثانيًا عاد الأمريكيون بعد 4 سنوات وانتخبوا مرشحًا آخر، وانتهت المسألة.
وتلك من المفترض أن تكون العملية السياسية، يختار الناس مرشحًا/ توجهًا يخضعونه لـ 4 سنوات من الاختبار، فإن أدّى وعوده فأهلًا، وإن لم يحدث فموعد الانتخابات مقرر وسيزاح عن سدّة الحكم، لكن خطأ سياسيًّا كدعم توجه ضد آخر، وبشكل مجرد وبعيدًا عن الخلفيات الخاصة بكل حالة، لا يمكن أن تستمر تبعاته الدموية والقاسية إلى أبد الآبدين.
فمع التسليم أن قطاعًا كبيرًا من المصريين قد أخطأوا بدعمهم لانقلاب عسكري، كانت نتائجه كما نرى اليوم، لا يمكن أن نستمر في الوقوف عند تلك اللحظة دون محاولة حتى فهم ما جرى والتفكير، مجرد التفكير في المستقبل.
التغيير كضرورة حتمية
يدفعنا ذلك إلى التوقف لحظة لسؤال أنفسنا عن التغيير، ولماذا نطمح له.
فإن كان التغيير هو للشعب ومن أجله، فحينما كان القرار بيده في استحقاقات دستورية متتالية، كانت رياح أصواته ذاهبة للتغيير، واليوم ورغم كل ما تعرّض له المصريون من قتل على الهواء وقمع في كل ساعة، يمكن تلمُّس عطش المصريين للتغيير في التعامل مع المرشح الرئاسي المحتمل أحمد الطنطاوي، رغم ما تعرّض له مؤيدوه وأقاربه وزملاؤه للسجن والتنكيل لمجرد دعمه وتأييده.
يمكن تلمُّس ذلك في تملمُل الناس من تضليل الإعلام، والهجوم المتواصل في مواقع التواصل الاجتماعي على خطط الجنرال الاقتصادية، ووعي الناس بحقيقة العملية السياسية وحتى كرتونية “الحوار الوطني” المزعوم.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن ثورة ستخلع السيسي قريبًا، وهو ممكن، لكن الثمن غالٍ ومن الصعب أن ينتظَر من شعب تعرَّض لهذا الكمّ من العنف أن يثور، وهو يعرف النتيجة: فتح النار بلا هوادة.
يبقى الأمل في التغيير مع كل هذا القمع قائمًا، لأن الوضع المأساوي الذي نعيشه يستدعي النظر إلى التغيير كضرورة ضمن عملية مستمرة لا تعني فقط وصول مرشحينا إلى الحكم، بل يرتبط التغيير جملة بواقعٍ يُعاش كل يوم، يُعاش في وعي أكبر بحقوقنا حتى إن منعَنا القمع من ممارستها، ويصير التغيير ضرورة مع رؤية شبابنا يموتون غرقًا وهم يحاولون عبور المتوسط، وحين تضيع أعمار شبابنا في السجون دون جريمة.
لأن الشعب المقموع الفقير المعدم حين لا يبلغ التغيير واقعه، سيكون الانفجار هو البديل، وعلى أي عاقلٍ مهما بلغ قربه أو معارضته للنظام، أن يدفع بحدوث هذا التغيير قبل فوات الأوان، لأن التغيير، عمليًّا، هو البوابة الوحيدة لإنقاذ هذا البلد، عدا ذلك لن يكون هناك بلد ينقَذ بالأساس.