بعد 25 عامًا من الصراع السياسي بين جهاز المخابرات الجزائري ومؤسسة الرئاسة، وتصاعد تيارات المد والجزر ما بين التوافق والصدام في محاولة لإحكام القبضة الكاملة على مقدرات الأمور في الجزائر، ها هو الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة ينهي هذا الصراع بصورة أصابت الكثير بالصدمة جرّاء هول المفاجأة، التي ما كان يتوقعها أكثر المتفائلين في الشارع السياسي الجزائري، وذلك حين استيقظ الجزائريون على خبر إقالة رئيس جهاز المخابرات، اللواء محمد مدين، والمعروف باسم الجنرال “توفيق” من منصبه بعد ربع قرن قضاها متربعًا على عرش أقوى جهاز داخل الدولة.
وقد أثار هذا القرار الكثير من الجدل داخل الأوساط السياسية والأمنية – داخل الجزائر وخارجها – ما بين الترحيب بهذه الخطوة التي اعتبرها البعض شهادة وفاة للصراع السياسي في البلاد، ومؤشر إيجابي بدخول الجزائر مرحلة “مدنية الدولة”، وبين القلق والترقب باعتبارها حلقة جديدة من مسلسل إحكام سيطرة بوتفليقة على البلاد تكريسًا لمزيد من الديكتاتورية والهيمنة على كافة أجهزة الدولة.
تاريخ من القبضة الاستخباراتية
فرض جهاز المخابرات سطوته على البلاد منذ وفاة الرئيس الجزائري الأسبق الكولونيل هواري بومدين 1979م، وذلك حين اجتمع قادة البلاد العسكريون والمدنيون لاختيار رئيس، وعندما اختلفوا ضرب رئيس المخابرات آنذاك قاصدي مرباح الطاولة بقبضته وفرض الشاذلي بن جديد رئيسًا كحل وسط يرضي جميع الأطراف المتنازعة حينها.
ومنذ ذلك اليوم تغلغلت الأجهزة المخابراتية بشتى فروعها في الحياة العامة للبلاد، إلى الحد الذي كان يوصف رئيسها السابق محمد مدين بأنه صانع الرؤساء، فضلاً عن دوره في اختيار رؤساء لجان الأحياء والمحليات وأندية الكرة وما إلى غير ذلك من الأجهزة التنفيذية للدولة.
كما وصل مستوى تغلغل جهاز المخابرات في أذرع الدولة المختلفة إلى تهديد الجزائريين بعضهم البعض بأفراد هذا الجهاز، فمَن أراد قضاء حاجة أو معاملة في إدارة ما يتقدم بصفته ضابطًا في المخابرات، ومَن أراد أن يرهب آخر أو يهدده في شجار بالطريق العام يدّعي أمامه بأنه عقيد في المخابرات.
واستمرت المخابرات الجزائرية – على استحياء – في محاولاتها للعزف على أوتار الهيمنة على مفاصل الدولة، حتى تم الإعلان عن وقف الانتخابات العامة في 1992 وسقوط البلاد في براثن حرب أهلية مقيتة، لتصبح منذ ذلك اليوم الحاكم الفعلي وتسمو فوق القانون وفوق مؤسسات البلاد.
رحل الحاكم الفعلي للبلاد
كشف موقع “Tout Sur Algerie” الجزائري، الناطق بالفرنسية، في تقرير له عن الحجم الحقيقي للواء محمد مدين رئيس المخابرات المقال، أن الجنرال الذي تم إحالته للتقاعد كان بمثابة الرجل القوي للجزائر، كذلك إحدى الدعامات الرئيسية في إدارة البلاد
ومن الأمور التي كشف الموقع الجزائري النقاب عنها بشأن سيطرة الجنرال على مقاليد الأمور، تلك الواقعة التي أثارت أزمة دبلوماسية حادة بين الجزائر وفرنسا، حينما طلب وزير الداخلية الفرنسي في عهد ساركوزي، كلود يجا، مقابلة الجنرال توفيق، خلال مروره بالجزائر، دون أن يمر بالرئاسة، الأمر الذي جعل بوتفليقة يتدخل بالرفض ويرفض استقباله، وبعد شهور قليلة، أجرى الجنرال توفيق زيارة سرية إلى قصر الإليزيه، حيث رأى ساركوزي أن الجنرال هو الرئيس الحقيقي للبلاد، ومنذ ذلك اليوم بدأ الرئيس الجزائري في التخطيط للإطاحة بالمنافس القوي الذي يهدد بقاءه على كرسي العرش.
وتساءل الموقع “كيف ستكون قدرة الرئيس على إدارة البلاد بعد إقالة الجنرال؟ مشيرًا إلى أن إقالة مدين كان بمثابة نهاية رسمية لحرب العشائر على رأس الدولة، وانتصار حاسم لبوتفليقة، فقد كان هناك سؤال يطرح نفسه بقوة في الجزائر ويثير الرأي العام وكذلك في الخارج: “من يدير الجزائر: الرئيس أم الجنرال”؟
نهاية دولة المخابرات
الكثير من المحللين أكدوا عقب تفكيك جهاز الاستخبارات أن هذه الخطوة ستكون نهاية سلطة المخابرات في البلاد، بعد سيطرة كاملة دامت لما يقرب من ربع قرن، منوهين أن رحيل الجنرال يعد ضربة موجعة لأكبر سلطة في البلاد على المستويين الأمني والسياسي.
وتفاءل المحللون بالمستقبل الذي يحل دون وجود جهاز المخابرات على رأس الدولة الجزائرية، منوهين أن الجهاز الجديد والذي سُمي بـ “مديرية المصالح الأمنية”، بدلاً من “مديرية الاستعلامات والأمن” المخابرات، سيرأسه الجنرال بشـير طرطاق – برتبة وزير دولة مستشار -، على أن يتبع رئاسة الجمهورية وليس وزارة الدفاع كما كان الحال منذ سنوات طويلة.
ومن ثم يمكن القول أنه بعد تفكيك هذا الجهاز العنيد باتت الجزائر – رسميًا – دولة مدنية، وإن كان على الورق حتى كتابة هذه السطور، لكن يبقى السؤال: كيف سيكون مستقبل البلاد بعد إقالة الجنرال؟ وهو ما طرحه أيضًا موقع “TSA” في استعراضه لسيناريوهات الجزائر بعد مدين.
ويشير الموقع الجزائري أن هذه الخطوة تحمل دلالتين غاية في الخطورة والأهمية، أولها تتعلق بالمجال السياسي، فإنه بإقالة الجنرال فرض بوتفليقة سيطرته بشكل كامل على البلاد، وبات المجال مفتوحًا أمامه، لكن في نفس الوقت وبعد أن أصبحت كل السلطات في يد الرئيس، هل سيستخدمها لتحقيق أهدافه وطموحاته الشخصية والمقربين منه؟ أم لتقليم أظافر من تبقى من المعارضة؟
أما الدلالة الثانية فهي الموقف الحرج الذي من الممكن أن يهدد بقاء بوتفليقة، حيث بات من الصعب إيجاد مبررات للفشل السياسي أو الأمني، وفي حال استمرار الوضع على ما هو عليه من الانفلات والفوضى وعدم الكفاءة في إدارة البلاد، ربما تتحول هذه الصلاحيات إلى مسمار جديد بنعش الرئيس.
مدنية الدولة.. أسئلة مشروعة
وفي المقابل هناك رأي آخر قد يتعارض نسبيًا مع فرحة البعض بانتقال الجزائر من الدولة المخابراتية للدولة المدنية، وهو ما أشار إلية الكاتب الجزائري توفيق رباحي، والذي طالب المتفائلين قبل إقامة الأفراح أن يجيبوا على بعض الأسئلة التي ربما تعيد النظر فيما يتعلق بـ “مدنية الدولة” بعد التخلص من الجنرال.
الكاتب الجزائري لخص جملة الأسئلة التي رآها مثار قلق في الآتي: هل هناك ما يضمن أن الجهاز الجديد لن يرث نفس أساليب وطرق مديرية الاستعلامات والأمن؟ هل هناك ما يضمن أن بشير طرطاق لن يكون توفيق مدين آخر؟ هل هناك ما يضمن أن ما حدث هو سرقة جهاز المخابرات من مؤسسة الجيش ووضعه تحت تصرف زمرة غاضمة في الرئاسة؟ هل هناك ما يضمن أن بوتفليقة، المغرم بالسلطة وجمع الصلاحيات، لن يعبث بالجهاز الجديد ويجعله اشبه بملكية خاصة؟ هل هناك ما يضمن أن الأمر لا يتعدى مجرد توزيع جديد للأدوار وإقصاء أشخاص ليستلم أمكنتهم آخرون كانوا على قوائم الانتظار؟ هل هناك ما يضمن أن بوتفليقة فعل بجهاز المخابرات ما فعل لمجرد تلبية غرور ذاتي وتصفية حسابات شخصية، بعيدة في الزمن أو قريبة؟ هل هناك ما يضمن أن هذا الجهاز الجديد سيكون تحت الرقابة الشفافة لسلطة مدنية منتخبة وتمثيلية؟ هل هناك ما يضمن أنه سيخضع للمحاسبة والمساءلة ولا يكون فوق القانون وفوق المؤسسات؟
وقبل أن ينتظر رياحي الإجابة على تلك الأسئلة، بادر بسؤال جديد يحمل في طياته إجابة متأرجحة على أسئلته السابقة، قائلاً: أيًّا كان الأجوبة على هذه الأسئلة، بوتفليقة، إن كان هو فعلاً صاحب هذه القرارات، اليوم على موعد مع التاريخ: سيدخل التاريخ باعتباره الرجل الذي حرر الجزائريين من خمسة عقود من هيمنة المخابرات وظلمها، أو سيدخل التاريخ باعتباره الرئيس الذي فكك جهاز المخابرات والبلاد أحوج ما تكون إليها بسبب المخاطر الأمنية الكبرى والحرائق التي تقترب منها من كل الجهات، والإجابة هي ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.