توالت النظريات والأخبار المتواترة عن أسباب انخفاض أسعار النفط منذ النصف الثاني من عام 2014 و ظل الكثير من المحللين والخبراء مختلفين في هدف إبقاء الإنتاج عاليًا من قبل المملكة العربية السعودية أكبر منتج في أوبك، إلا أننا سنفترض جدلًا أن الغاية كانت تطبيق سياسة “كسر العظم” من قبل المملكة على كل من روسيا وإيران من أجل فرض سياستها الإقليمية عليهما وإرغامهما التراجع عن التدخل في شؤون المنطقة العربية (سوريا والعراق ولبنان واليمن والخليج العربي).
فإن كان هذا بالفعل نية السعودية فإن تلك الاستراتيجية شارفت على نهايتها ليس بكسر عظم روسيا فحسب وإنما “تهشيم العظم” إن جاز التعبير فمنذ هبوط أسعار النفط في النصف الثاني من عام 2014 والاقتصاد الروسي يتكبد الخسائر، وماهوغني عن التعريف أن الميزانية الروسية تعتمد في جُلها على إيرادات الطاقة من نفط وغاز، وللتعويض عن هبوط أسعار النفط بدأت تضخ المزيد من النفط في الأسواق لتعويض خسارتها حيث أصبحت تنتج بحدود 11 مليون برميل يوميًا.
الحلقة الأخيرة التي بدأت تهوي بالاقتصاد الروسي وتخيفه من شبح الأزمة التي خيمت عليه في عام 1998 هي هبوط الروبل الروسي لأدنى مستوياته حيث وصل لمستوى لم يصله من قبل ما أجبر الدب الروسي على العدول عن بعض سياساته حفاظا على اقتصاد البلاد.
حيث بدأت آثار ضعف الاقتصاد الروسي تظهر في هذا العام 2016 أكثر من ذي قبل، ففي التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي صدر فيه أسوأ عشر اقتصاديات في العالم لعام 2015 من حيث تراجع الناتج المحلي الإجمالي، فبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي جاءت اليمن في المرتبة الأولى كأسوأ اقتصاد بعد تراجع الناتج المحلي الإجمالي فيها بنسبة 28% وفي المرتبة العاشرة روسيا حيث تراجع ناتجها المحلي بنسبة 3.7%.
منذ أشهر والأخبار نفسها تدور في وسائل الإعلام في حالة انتظار وترقب لهبوط أسعار النفط وتقارير متضاربة من بنوك عالمية وخبراء في مجال الطاقة أن النفط سيهبط إلى سعر 20 دولار كما أشار “غولدمان ساكس” في حين أن مصارف أخرى مثل ” ستاندرد شارترد” قالت أن الأسعار ستتجه إلى نحو 10 دولارات.
والجديد في الموضوع اليوم أن روسيا تتحدث عن بوادر اتفاق بين كبار المنتجين لرفع أسعار النفط التي ارتفعت عن أدنى سعر حققته في الأيام الماضية بسبب موجة البرد التي تضرب شرقي الولايات المتحدة الأمريكية حيث ارتفعت من 26 إلى 32 دولار، ولكن العامل الرئيسي والغير مُعلن وراء هذا الارتفاع هو شبه اتفاق تم مناقشته في منتدى دافوس العالمي يشمل منظمة أوبك ومنتجين من خارج المنظمة أهمهم روسيا والمكسيك، قد تودي في الشهر المقبل عن قرارات لخفض الإنتاج بالاتفاق بين الجميع بعد الموافقة على شروط الرياض.
الاقتصاد الروسي
تراجع سعر صرف الروبل أمام الدولار الأمريكي إلى مستويات متدنية لم يصل إليها من قبل حيث خسر مطلع العام الحالي قرابة 12% من قيمته فسارع الكرملين لطمأنة مخاوف المستثمرين والأسواق عبر إعلان رفضه الحديث عن انهيار الروبل، كما كان من المفترض أن تشارك محافظة البنك المركزي الروسي “ألفيرا نابيولينا” في منتدى دافوس الأسبوع الماضي إلا أنها ألغت الزيارة، وسارع كذلك رئيس الوزراء “ديمتري ميدفيدف” للإعلان أن الحكومة تحضر إجراءات لمواجهة الأزمة ودعم الاقتصاد المحلي.
وفي قراءة لأسباب هبوط الروبل الروسي يتبين أنه عائد لتهاوي أسعار النفط التي فقدت نحو 80% من قيمتها منذ منتصف 2014 وتراجع أسعار الغاز التي تعد روسيا أحد أبز منتجيه، مع تأثير العقوبات الغربية المفروضة على البلاد بسبب الأزمة الأوكرانية.
كما أن الرئيس الروسي فلادمير بوتين قبل أيام عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومي لبحث تطورات الأوضاع الاقتصادية في البلاد والأسباب التي أدت لتدهور الروبل وكيفية التعامل مع هذه الأزمة التي تفوق خطورتها أزمة هبوط أسعار النفط والعقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا، فتراجع الروبل يعني ضعف القدرة الشرائية للمواطنين الروس ويعني مزيد من الارتفاع في أسعار السلع والخدمات القادمة من الخارج والمقوّمة بالدولار، وقد يؤدي أيضًا إلى هروب استثمارات خارجية إذا ما صاحبه تذبذب في سوق الصرف ورفع لأسعار الفائدة المحلية والتوسع في الاقتراض الخارجي، بالإضافة إلى أن خفض قيمة العملة سيدفع مؤسسات التصنيف العالمية لخفض تصنيف روسيا وهذا يزيد من مخاطرها الاستثمارية والائتمانية. وعلاوة على هذا الاستنزاف الحاصل في احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي والذي فقد أصلًا قرابة ال 100 مليار دولار في العام الماضي 2015.
دفع هذا الوضع وزارة التنمية الاقتصادية الروسية إلى إعادة النظر في توقعاتها لعام 2016 وقد يتم تعديل الميزانية الروسية بناء عليه وفق ما نقلته صحيفة ” فيدوموستي” المتخصصة في الشؤون الاقتصادية حيث تتوقع الوزارة انكماش الاقتصاد الروسي بدلاً من نمو نسبته 0.7% كما سيبلغ معدل التضخم 8.5% وخروج رؤوس أموال تقدر ب 50 مليار دولار وستتراجع دخول المواطنين بنسبة 4%.
بالطبع الظروف مختلفة الآن عن الظروف التي حصلت فيها الأزمة المالية في روسيا عام 1998 إلا أن روسيا لا تريد تذكر تلك الأزمة التي تعد من أخطر الأزمات التي عصفت بالاقتصاد الروسي، والتي جاءت نتيجة لهبوط أسعار المواد الخام النفط والغاز والأزمة المالية الآسيوية عام 1997 وارتفاع الدين العام، ففي ذلك العام أعلنت الحكومة عن تعثرها في سداد دفعات كافة السندات السيادية بما فيها الديون الداخلية وتعويم سعر صرف الروبل الروسي.
لذلك وفي سبيل الخروج من الحلقة المفرغة ربما بدأت روسيا تلين قليلا في موقفها المتحجر مع الرياض الرافض لخفض الإنتاج والتعاون مع المملكة التي تضع شروطًا من أجل خفض الإنتاج في أوبك لتعود أسعار النفط للارتفاع من جديد، وبحسب خبراء نفطيين ربما تبدي الرياض استعدادها لخفض الإنتاج النفطي بمعدل مليون برميل يوميا وفق شروط محددة.
تتضمن خفض الإنتاج بمعدل 3 مليون برميل يوميًا بالتعاون مع دول خارج أوبك كروسيا والمكسيك وفنزويلا، وأن يتعهد العراق بتجميد إنتاجه النفطي عند مستوياته الحالية والشرط الثالث مشاركة إيران أيضًا في خفض الإنتاج على أن الرياض من جهتها لم تؤكد هذه الشروط ولكن صدر من طرفها أكثر من مرة أنها لاتعارض خفض الإنتاج ولكنها لا تريد أن تتحمل خفض الإنتاج لوحدها على حساب حصتها السوقية، حيث قال “عابد السعدون” وكيل وزارة البترول والثروة المعدنية السعودية لشؤون الشركات اليوم الخميس في طوكيو أن أوبك تقدر تخمة المعروض بنحو مليوني برميل يوميا وقال “إن إعادة التوازن إلى السوق سيستغرق بعض الوقت ولكن نشعر أن السوق سيعود إلى التوازن في 2016 وأن الطلب على الطاقة بكل أشكالها سيواصل الزيادة”.
أما من طرف روسيا فإنها تنتج الان أكثر من 11 مليون برميل ويبدو أنها مضطرة للموافقة على خفض الإنتاج بالشروط التي تريدها الرياض لإن الخطر المحدق باقتصادها أصبح خطرًا قوميا يهدد عملتها واقتصادها بالانهيار فالاقتصاد الروسي يرتكز على إيرادات الطاقة بأكثر من النصف، حيث قال رئيس شركة “ترانسنفت” الحكومية التي تحتكر خطوط أنابيب النفط في روسيا يوم الأربعاء 27 يناير / كانون الثاني إن مسؤولين في قطاع الطاقة الروسي قرروا أنه ينبغي إجراء محادثات مع السعودية ودول أوبك الأخرى حول خفض الإنتاج لدعم أسعار النفط.
وفي تصريحات لوزير الطاقة الروسي “أكسندر نوفاك” اليوم الخميس أبدى فيه نية روسيا المشاركة في اجتماع أوبك المقبل وقال: “تحاول الدول الأعضاء في “أوبك” عقد اجتماع بمشاركة الدول الأعضاء في المنظمة وخارجها الشهر القادم، حيث قامت بعض الدول بطرح هذه المبادرة. وأكدنا استعدادنا للمشاركة في هذا الاجتماع”، وأضاف أن “محور النقاش خلال الاجتماع قد يكون تقليص إنتاج النفط لكل بلد بما يصل إلى 5%”
فهل ربحت السعودية سياسة “كسر العظم” ضد روسيا وإيران، هذا ما سيثبته الاجتماع القادم لأوبك وما سيتمخض عنه من قرارات..