تعيش تونس مخاض يشكّل مشهد سياسي تبرز معالمه شيئًا فشيئًا رغم الضبابية التي تكتسيه، وساهمت الانتخابات المتعاقبة، التأسيسية ثم التشريعية والرئاسية، في إرساء معالم هذا المشهد ليبرز الفاعلين فيه وكبرى العائلات الحزبية المشكلة له.
وكانت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة مثبتة لأبرز العائلات السياسية، فتحقق للتيار الإسلامي ممثلاً في حركة النهضة – ومع خوضه لتجربتين انتخابيتين متعاقبتين – الإقرار بوجوده السياسي وكفاعل رئيسي في المشهد الحزبي، كما ساهمت مرحلة الانتقال الديمقراطي في إعادة طرح مكونات النظام القديم وامتداداته الدستورية التجمعية كطرف مهم وفاعل فرض تموقعه ضمن خارطة المشهد السياسي بل وليتصدر السلطة من جديد، ويعدّ حزب نداء تونس – مع ما يعيشه من مخاض داخلي عسير – رافدًا جديدًا لهذه العائلة.
في المقابل، أفرزت الانتخابات الأخيرة تشكل جبهوي يساري حقق بعض التموقع في المعادلة السياسية دون أن يفرض نفسه – بخيار التموقع في المعارضة – رقمًا وازنًا قادرًا على لعب دور تعديلي مهم، أما باقي العائلات السياسية وخاصة منها الديمقراطية الاجتماعية فتقريبًا لم يعد لها وجود ملموس في العلاقة بسلطة القرار والتأثير السياسي، لتتأثر بنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة دون أن يُشهد منها ردة فعل تذهب لتوحيد الجسم والقيام بخطوات بديلة تستوعب المرحلة وتفرضها في عموم المشهد السياسي.
تبرز معالم المشهد السياسي الحزبي في تونس كحالة تطرح فكرة القطبين السياسيين المهيمنين، بين العائلة الاسلامية والعائلة الدستورية التجمعية، لتسمح بأدوار ثانوية أقصاها تعديلية لباقي التيارات السياسية، ويمكن تشبيه هذا المشهد بما تعيشه عديد الديمقراطيات الغربية المتقدمة، والتي تعدّت تجربتها السياسية مراحل من الاستقرار والممارسة سنوات كثيرة. غير أن حاجة البلاد اليوم تقتضي ان يعيش المشهد السياسي تداول تلوينات حزبية تخوض فيها كبرى العائلات السياسية أدوارًا في السلطة وصنع القرار، فليس بالإمكان اليوم والشعب التونسي يتلمس خطواته الديمقراطية الأولى أن يستأنس حالة مشهد حزبي يمكن توصيفها بالمشوّهة إذا لم تكن قائمة على تعددية تتجاوز التنوع، لتكون تعددية في الفعل ومزاولة السلطة.
والسؤال المطروح اليوم ألم تعط الانتخابات الأخيرة الفرصة للجميع لخوض تجربته ولعب دوره السياسي في السلطة وصنع القرار؟ وما هو دور الفاعلين الرئيسيين في الإبقاء على فرصة الفعل والمشاركة السياسية لباقي العائلات السياسية؟ وهل يتحملون مسؤولية إضعاف الدور المستقبلي لهذه الأطراف؟ أسئلة عديدة تعود بنا للوقوف عند الأسباب الحقيقية التي ساهمت في تشكيل المشهد السياسي الحالي بقطبيه وبضعف باقي مكوناته.
ويمكن الإقرار بأن الأطراف الرئيسية الفاعلة ساهمت بشكل كبير في مركزة السلطة حولهما خاصة مع حالة البناء والتأسيس خلال المرحلة الانتقالية للعبة السياسية التي تتشكل وفق خيارهما، وهو ما سيستمر عليه الحال إذا لم تنجح باقي العائلات السياسية في تخطيه وفرض نفسها مع اقتراب المحطات الانتخابية المقبلة وأهمها الانتخابات البلدية.
وهنا نقف عند المسؤولية الكبرى لهذه العائلات السياسية التي لم تقدر على تجاوز جراحات الانتخابات الأخيرة لتلملم نفسها وتتهيأ للعب أدوار متقدمة، وأعني هنا بالدرجة العائلة الديمقراطية الاجتماعية بإرثلها النضالي ورموزها السياسية وخاصة ما تحمله من تصور لمشروعها السياسي في بعده المجتمعي، وهو ما بإمكانه أن يشكل طلب حاجة تفرضه فشل الخيارات الاقتصادية والاجتماعية للحكام الجدد، وقد بحثت هذه الأحزاب عن الكسب الذاتي خارج إطار العائلة السياسية وهو بأي حال من الأحوال غير ممكن في مراحل البناء والتأسيسي مع وجود قوى مهيمنة بامتدادها الشعبي ليقع تثبيت ذلك بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة.
ما يعزز اليوم هيمنة الطرفين الرئيسيين في المشهد السياسي ويفسح لهما المجال لتقاسم السلطة أو التداول بينهما، خيار التوافق بعنوانه العام والذي يجسد في معالمه الكبرى حالة التقارب بين هاته العائلتين “الإسلامية والدستورية التجمعية”، وهو تقارب ارتبط بتقاسم السلطة من خلال تشكيل حكومة ائتلافية، وإن كانت تتسع لغيرهما، فهي ثبّتتهما عنوانًا رئيسيًا للسلطة وصنع القرار في المشهد السياسي.
وبالوقوف عند فكرة التوافق، لا يجب اليوم الاستهانة بما حققته من نجاح “مرحلي” تجاوز بالبلاد فترة انتقالية عسيرة كادت أحداث السنوات الثلاث الأخيرة أن تنسفها وتعطل عجلة التحول الديمقراطي وبناء مشروع وطني يحفظ مكتسبات الثورة ويصونها، غير أن هذه الفكرة بدورها، وبالتصور القائم على تنزيلها، لم تحقق إجماعًا مطلوبًا لإنجاحها بين تلوينات الطيف السياسي بمختلف روافده وعائلاته، وهو ما أفرز هذا المشهد الحزبي المختلف، دون أن نلغي مسؤولية الأحزاب خارج السلطة من تطبيع وجودها في السلطة وفي اتخاذ القرار الوطني.
كذلك، فإن من التشويهات الحاصلة في المشهد السياسي في البلاد مجال الفعل والتأثير في القرار الوطني الذي اكتسبته العديد من منظمات المجتمع المدني وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تجاوز دوره الوطني في ضمان الاستقرار والدفاع عن حقوق الشغالين والجهات المحرومة وضعاف الحال، ليسمح لنفسه في سياق دوره خلال الحوار الوطني من لعب سياسي صرف مستغلاً امتداده الشعبي وحالة الضعف التي تعيشها النخبة السياسية والأحزاب الفاعلة في البلاد.
قد تكون الظروف التي مرت بها البلاد خلال السنوات الماضية عاملاً فتح المجال أمام اتحاد الشغل من لعب هذا الدور لكن ليس بالإمكان أن يتواصل خارج ما يسمح له دوره الوطني النقابي والمجتمعي، ومسؤولية الفاعلين السياسيين أن يحصنوا سلطة القرار السياسي من غير اللاعبين الأصليين فيه وتنقية الفضاء السياسي من حالة التشوه التي تشوبه ولا تساهم في إرساء مشهد متوازن لكل طرف فيه دوره الحقيقي.
إن الظروف القائمة على تشكيل المشهد السياسي الحالي في البلاد في حالة تغير مستمر، كما أن المخاض الذي تعيشه الأحزاب الرئيسية والعائلات السياسية عمومًا يدعو للانتباه أكثر للتغيرات التي ستطرأ عليه مع ما تقبل عليه البلاد من محطات انتخابية ورهانات وطنية قادرة على إفراز فاعلين جدد ومساهمين في تشكيل مشهد سياسي أكثر استقرارًا يحفظ لهم أدوارًا متقدمة في القرار السياسي الوطني ويلزم كل طرف بلعب دوره الحقيقي.