إن العلاقات الاقتصادية بين تركيا وحكومة إقليم كردستان شهدت منذ عام 2007 تطورًا ملحوظًا؛ فقد انتهجت حكومة الإقليم سياسة اقتصادية منفتحة تجاه الاستثمارات الأجنبية، حيث منح قانون الاستثمار في إقليم كردستان لسنة 2006 المستثمر الأجنبي العديد من الامتيازات تم بموجبها معاملته كالمستثمر الوطني، إذ تم منح المستثمر الأجنبي الحق في امتلاك كامل رأس مال أي مشروع يقيمه في الإقليم، إلى جانب إعفائه من جميع الضرائب والرسوم غير الجمركية لمدة 10 عشر سنوات اعتبارًا من تاريخ بدء المشروع بتقديم الخدمات أو تاريخ الإنتاج الفعلي، وإعفاء الآلات والأجهزة والمعدات والآليات والماكينات المستوردة للمشروع من الضرائب والرسوم وشرط الحصول على إجازة الاستيراد، وإعفاء المواد الأولية المستوردة للإنتاج من الرسوم الجمركية لمدة خمس سنوات، إلى جانب جملة من الضمانات القانونية التي تضمن للمستثمر نقل وبيع استثماراته داخل الإقليم وخارجه والتأمين عليها وغير ذلك من الضمانات والامتيازات.
وفي إطار هذه السياسة تجاه الاستثمارات الأجنبية، فقد اتبعت حكومة إقليم كردستان سياسة التقارب والانفتاح على تركيا التي بادلتها بخطوة مماثلة أسفرت في السنوات اللاحقة عن تطور لافت في العلاقات الاقتصادية بين الجانبين على صعيد التبادل التجاري، والاستثمارات، وقد تحول الأمر لاحقًا إلى تحقيق الأمن الاقتصادي لكلا الطرفين.
فعلى صعيد حجم التبادل التجاري كانت كردستان هي بوابة السلع والمنتجات التركية إلى السوق العراقي بشكل عام، وسوق كردستان بشكل خاص، إذ بلغ حجم الصادرات التركية للعراق عام 2013 حوالي 11.9 مليار دولار، كانت حصة كردستان 8 مليار دولار.
وعلى صعيد الاستثمار الأجنبي المباشر حققت الاستثمارات التركية في إقليم كردستان العراق بعد عام 2007 حضورًا لافتًا، انعكس على واقع التنمية الاقتصادية للإقليم الذي تمتع باستقرار أمني مقارنة بباقي مناطق العراق، سمح للإقليم باستقطاب رأس المال الأجنبي الإقليمي والدولي لاسيما بعد تدفق واردات النفط إثر رفع الحصار الاقتصادي وارتفاع أسعار النفط العالمي، إذ كانت حصة الإقليم 17% من هذه الواردات.
لقد تصدرت الشركات التركية قائمة الشركات الأجنبية العاملة في الإقليم من حيث العدد، فمن بين 3013 شركة أجنبية عاملة في إقليم كردستان هناك 1351 شركة تركية في آخر إحصائية صادرة عن دائرة تسجيل الشّركات الأجنبية التابعة لوزارة التجارة في إقليم كردستان العراق، عملت في قطاعات إستراتيجية شملت القطاع المالي والمصرفي، وقطاع الإنشاءات والبنى التحتية، وقطاع النفط والغاز الطبيعي، وقطاع التربية والتعليم، والقطاع الصحي، وكان لهذه الشركات دور مهم في توفير فرص العمل وتشغيل الموارد المختلفة ورفع معدلات النمو الاقتصادي في كردستان.
كما جاءت تركيا في المرتبة الثانية بعد دولة الإمارات العربية المتحدة من حيث المساهمة في الاستثمار الأجنبي المباشر، إذ بلغت الاستثمارات التركية في الإقليم عام 2014 حوالي 1.22 مليار دولار أمريكي حسب ما أعلنته الهيئة العامة للاستثمار في إقليم كردستان العراق.
أما على صعيد الأمن الاقتصادي فقد وجد الجانبان نفسيهما محاطين بظروف استثنائية من عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي، فرض عليهما تعزيز علاقاتهما وإقامة تعاون اقتصادي إستراتيجي في مواجهة التحديات الاقتصادية، فبعد أن نجحت حكومة إقليم كردستان في استغلال حقول النفط وبدأت بالإنتاج الفعلي عام 2010، ونتيجة للمشاكل المتفاقمة بين بغداد وأربيل حول عوائد النفط المستخرج من حقول كردستان، باتت تركيا تمثل البوابة الرئيسية لنفط كردستان إلى العالم الخارجي، إذ يصدر الإقليم يوميًا ما يزيد عن 435 ألف برميل من النفط عبر ميناء جيهان التركي، وفي ظل الصعوبات المالية التي تواجه حكومة كردستان بسبب عدم دفع مستحقاتها من الميزانية من قِبل حكومة بغداد، أصبحت وارداتها النفطية المورد الرئيس لتمويل نفقاتها وتوزيع رواتب موظفيها عمومًا، وقوات البيشمركة التي تواجه خطر داعش بشكل خاص.
في المقابل فإن الأوضاع الأمنية والسياسية غير المستقرة التي تشهدها المنطقة بدأت تهدد إمدادات البترول التي تحتاجها أنقرة والتي تقدر بـ سبعمائة ألف برميل يوميًا، لاسيما بعد تدهور علاقات أنقرة مع إيران وروسي، لذا بات على أنقرة أن تؤمن مورّدين جدد لسد حاجتها الماسة للبترول، وحكومة كردستان تعد الأقرب لها جغرافيًا وربما سياسيًا لاسيما بعد تحسن العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين.
في ظل المعطيات السياسية الجديدة بدأت العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وأربيل تأخذ طابعًا إستراتيجيًا، من حيث مستوى التنسيق والتعاون، ويمكن اعتبار الاتفاقيات النفطية بين الجانبين حول مشاريع مد خطوط أنابيب لنقل النفط والغاز من حقول كردستان العراق إلى ميناء جيهان التركي وتطوير حقول النفط والغاز في كردستان خطوة على هذا الطريق، هذه الخطوة يمكن أن تعقبها خطوات متلاحقة في قطاعات جديدة وعلى أصعدة مختلفة، إذ ثمة مشتركات إستراتيجية بين الجانبين تتخطى مجال النفط والطاقة لتشمل مصادر المياه، والأمن الغذائي، وقطاعات التعليم وتكوين رأس المال البشري، والنقل والاتصالات، والكهرباء، والقطاع المالي والمصرفي، وغيرها من المجالات التي تتطلبها التنمية الاقتصادية في إقليم كردستان والتحول نحو اقتصاد السوق وتعميق التوجه الرأسمالي للمجتمع الكردي.
وبقدر ما يخدم هذا التوجه الاستثمارات الأجنبية وفي مقدمتها الاستثمارات التركية، فإنه في الوقت ذاته يمكن أن يكون شكلاً من أشكال ما يسمى بسياسة الاحتواء في مواجهة أجندات حزب العمال الكردستاني ذي الأيديولوجية الاشتراكية الذي ينتهج المعارضة المسلحة ضد الحكومة التركية، إذ إن تعميق النهج الرأسمالي في المجتمعات الكردية سوف يقلل من فرص حزب العمال في أن يجد له بيئات حاضنة، لاسيما في المناطق التي ينتشر فيها الفقر وترتفع معدلات البطالة بين الشباب الذين قد يستهدفهم حزب العمال ويجندهم في صفوفه لاحقًا.
إن التعاون الاقتصادي بين تركيا وكردستان لا يقف عند حدود تبادل المصالح الاقتصادية بين الجانبين، وإنما هو قضية إستراتيجية لمواجهة تحديات داخلية وخارجية تفرضها متغيرات إقليمية ودولية، هذا التعاون يراد منه تعزيز قدرات الجانبين الاقتصادية لمواجهة الضغوط التي بدأت تتصاعد وتهدد الأمن والاستقرار فيهما.