تُواجه الدول والمجتمعات التي تمر بمرحلة التحول من النظم الشمولية نحو النظم الديمقراطية كالعراق عدد كبير من التحديات الصعبة، التي تتعلق معضمها بتنمية المجتمع سياسيًا وتقرير الديمقراطية وحقوق الإنسان، فحالة عدم الاستقرار السياسي تنتج عن حالة الصراع بين المركزية واللامركزية، الفساد والشفافية، والفردية والديمقراطية، كما تواجه مشاكل الوحدة الوطنية في المجتمعات المتعددة إضافة إلى مشاكل الطائفية والإرهاب “داعش والمليشيات” التي تُضاف إلى مشاكل العراق، والتي ترتبط جميعها بعوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، بمعنى أن العلاقة بين الاستقرار السياسي وتلك العرامل علاقة تأثير وتأثر، لأن عملية التنمية السياسية التي تواكب التحول إلى الوضع الجديد تتضمن تغيرات عميقة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وحتى ثقافيًا.
فللنظام الديمقراطي مجموعة من المرتكزات، يرتكز ويستند عليها ليثبت ويستقر فوق المتغيرات التي تواكب عملية التحول العميقة في المجتمع نحو الديمقراطية والحرية والاستقرار المنشود، إلا أن هذه المرتكزات لم تتفعل وتترسخ في العراق بشكل عملي وتطبيقي، كوجود مبدأ سيادة الدستور، التداول السلمي للسلطة، حكم الأغلبية وحماية الأقلية، نزاهة الانتخابات والتمثيل السياسي، حماية حقوق الإنسان، محاسبة ومساءلة الحكومة، والفصل بين السلطات، بسبب الصراع والتنافس الحزبي والطائفي، والثقافة السائدة في المجتمع، والتركة الثقيلة للأنظمة السابقة، إضافة إلى التنافس الإقليمي والدولي في العراق والشرق الأوسط، إضافة إلى النهج الذي اتبعته الإدارة الأمريكية في العراق من عمليات التفكيك الواسعة للإدارة البيرقراطية وتدمير بناها وهياكلها الأساسية أدت إلى نتائج كارثية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إذ خلقت جيشًا من العاطلين عن العمل من شأنه أن ينشئ بيئة غير مستقرة، لا سيما في مجتمع تقليدي كالمجتمع العراقي.
لقد أيقظ الوعي بالديمقراطية في مرحلة التحول الديمقراطي الذي حصل في العراق بعد عام 2003م، استرداد الحقوق المغيبة لدى بعض المكونات بدرجة غير مسبوقة تُعبرعن عقود من الكبت وضياع الحقوق مما توجب على الدولة العراقية الجديدة إشراكها أو إعطاءها حقوقها سياسيًا وأقتصاديًا، واحترامها وقبولها ثقافيًا، فقد أصبحت هذه المكونات والتعددية تهدد كيان الدولة وليس استقرارها فحسب وهذا ما نعيشه في العراق اليوم، فالواقع العراقي يُعطي صورة بأن النظام الديمقراطي الفيدرالي الجديد بشكله الحالي ليس سوى الخطوة الأولى للتخلص من عقود من الحكم الفردي، وانعدام لتداول السلطة، واحترام التعددية وحقوق الإنسان… إلخ.
فاللامركزية الإدارية أو السياسية كأداة، ترتبط أرتباطًا وثيقًا بمبادئ وركائزالديمقراطية وخصائصها والتي من شأنها ان تحقق نسبة عالية من الاستقرار السياسي نظريًا وعمليًا، خاصة في البلدان التي تعاني مجتمعاتها من فقدان الثقافة الديمقراطية وتقبل الآخر، وانتشار التيارات الأصولية المتناقضة، والهويات الفرعية، فالفيدرالية واللامركزية والديمقراطية لهما آليات مناهضة للاستبداد والمركزية والانفراد بالسلطة والقرارات كما يحدث في العراق مع تدخلات الإقليمية، كما أنهما يضمنان التوازن بين المكونات بأسس دستورية ثابتة، فهي تحقق للبلدان ليس فقط الاستقرار السياسي بل تحميه من التقسيم والفوضى الدائمة وتحمي المجتمع من التمزق وهو خلاف ما يتصوره الكثير من المعارضيين لهذا النظام.
ففي الهند مثلاً، بعد أن انفصلت باكستان وبنغلاديش عنها لجأت إلى الفيدرالية واللامركزية فحافظت على وحدتها بعد أن انقسمت بعض إجزائها، فالمركزية قسمتها والفيدرالية جمعتها، فالفيدرالية تقاسم للثروة والسلطة وليست تقسيم للأرض والجغرافيا.
وعند دراستنا وتحليلنا لأسباب قيام الفيدرالية السويسرية عام 1848م، نجد أن الدافع الرئيسي هو عِظم حجم الخسائر البشرية والمادية نتيجة للصراعات الداخلية، وكذلك الحرب الأهلية الأمريكية عام 1848م، فقد كانت الفيدرالية أداة لتمتين العلاقات بين الولايات وتطبيق المساواة والعدالة فيما بينها، وكذلك ألمانيا عام 1871م فقد تركت النظام الكونفيدرالي للتخلص من الآثار الوخيمة للحروب الأهلية التي كانت نتاج للصراع على السلطة، إذ إن الكثير من الدول التي تبنت النظام الفيدرالي، كانت تطمح للتخلص من الأشكال المتنوعة لعدم الاستقرار السياسي كالحرب الأهلية والطائفية ولإقامة وتمتين الوحدة الوطنية.
إن الكثير من الدول الفيدرالية الديمقراطية واللامركزية في العالم، حافظت على استقرارها وعلى مبادئ وقيم الديمقراطية بنظامها الفيدرالي اللامركزي كالدول سالفة الذكر وكندا وأستراليا والنمسا، وهذا ما يحتاجه العراق.
أما فيما يتعلق بالاستقرار السياسي في العراق فقد قام خبراء من البنك الدولي بوضع المؤشرات العالمية الستة والتي من بينها الاستقرار السياسي أظهرت أن المرتبة الأسوأ هي حالة الاستقرار السياسي التي تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، أخيرًا، إن الاستقرار السياسي لمجتمع متعدد ومتصارع كالعراق لا تصلح له إلا اللامركزية السياسية أو الإدارية أو كليهما، لأنها تحقق المشاركة في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية، والتي بدورها تُحقق الرضا العام من خلال المشاركة وبالتالي الاستقرار السياسي الذي غاب عن العراق لأكثر من عقد.