ترجمة وتحرير نون بوست
في 25 يناير، باشر الرئيس الإيراني، حسن روحاني، رحلة تاريخية إلى أوروبا بغية إحياء العلاقات الاقتصادية في أعقاب رفع العقوبات الدولية عن إيران جرّاء الاتفاق النووي، وهذه الخطوة الأولى تعد الأولى في محاولات إيران لاستعادة حجم تبادلها التجاري مع أوروبا الذي كان يقارب الـ28 مليار يورو قبيل فرض العقوبات، من معدلها الحالي البالغ 7.6 مليار يورو.
رحلة روحاني تستبطن أيضًا أهمية رمزية لأنها تشير إلى واقع إعادة احتضان إيران من قِبل المجتمع الدولي، ولكنها مع ذلك لا تعني بداية حصول تغيير سياسي في قلب السياسة الإيرانية، لأن البراغماتية الإيرانية المتجهة نحو الخارج، بقيادة روحاني، تعمل أساسًا كأداة لضمان سلطة المرشد الأعلى والحرس الثوري المحافظين.
الصورة المنقولة إلى العلن غالبًا ما تتحدث عن وجود خطين متباينين ضمن السياسة الإيرانية، الأول هو الخط المتشدد الذي يقوده المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، والحرس الثوري، والثاني خط براغماتي وعملي يمثله الرئيس روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، ولكن بعيدًا عن رواية التيارين المتنافسين في طهران، يعمل الخطان على أرض الواقع بانسجام وتناغم تاميّن؛ فالسلطة في إيران لا تزال مترسخة في يد المرشد الأعلى، في حين يبدو معسكر روحاني مفيدًا لخامنئي بغية تقديم صورة مقبولة ومستساغة عن إيران تجاه الغرب.
ومن هذا المنطلق، لا يمكن تمرير أي قرار حول السياسة الخارجية دون موافقة الخامنئي النهائية، والقلق الذي يعرب عنه أحيانًا بعض المراقبين الخارجيين حول التوترات المحتملة الناشبة بشأن قضايا محددة، كالاتفاق النووي، بين مخيم روحاني والحرس الثوري، هي نتاج بسيط عن محاولات النظام الإيراني لتشتيت الانتباه بعيدًا عن الميكانيكا الداخلية التي تحكم صُنع القرار في طهران.
ما يؤكد على انعدام التنافس ما بين خطي السياسة الإيرانية هو أن روحاني نفسه لم يكن ليصبح رئيسًا لولا موافقة خامنئي على ذلك في المقام الأول، وهذا الأمر لا يتعلق بنتائج الانتخابات بعد إدلاء الناخبين بأصواتهم، ولكن لكون مجلس صيانة الدستور، الذي يُشرف على الانتخابات الرئاسية، يتمتع بسلطة استبعاد المرشحين غير المستحبين من الترشح في المقام الأول؛ فلو لم يكن روحاني مفيدًا، من وجهة نظر المحافظين الإيرانيين، لكان تم استبعاد ترشيحه أساسًا.
تاريخيًا، وبعد اطراد العزلة الإيرانية السياسية والاقتصادية في ظل ولايتي الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وجدت طهران نفسها على شفا أزمة اقتصادية من شأنها أن تهدد استقرار البلاد، كما تنامى الإحباط وسط مجتمع الأعمال الإيراني جرّاء العقوبات، فضلًا عن أن الانخفاض العالمي في أسعار النفط ساعد على مضاعفة الضغوطات الممارسة على الإدارة الإيرانية.
لسنوات، استفاد الحرس الثوري، القوة الاقتصادية الرئيسية في إيران، من فرض العقوبات على البلاد، لأنها، العقوبات، كانت تشكل عبئًا ثقيل الظل على منافسيه ضمن قطاع الأعمال التجارية الخاصة، ولكن في نهاية المطاف بدأ الحرس الثوري ذاته يشعر بالضغط أيضًا، وأصبح رفع العقوبات من خلال صفقة نووية ضرورة ملحة وواجبة.
إذن، الاتفاق النووي هو بالدرجة الأولى وسيلة بيد النظام الإيراني لدرء التوترات الداخلية، فضلًا عن كونه أداة لاستبقاء المكانة الاقتصادية للحرس الثوري بعد أن استشعر بثقل العقوبات على كاهله، وكان وجود شخص كروحاني في منصب الرئاسة أمرًا مفيدًا لتمهيد الطريق لإبرام هذه الصفقة مع الدول الغربية.
لكن النظام الإيراني يهتم أيضًا بالحفاظ على مصداقيته المحلية، فلا يمكن أن يُنظر لإيران في الداخل على أنها منصاعة وراضخة للضغوط الدولية؛ ففي الوقت الذي يتودد فيه روحاني وظريف للغرب، يواصل خامنئي إطلاق خطاباته مستخدمًا العبارات المألوفة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، بحيث أصبح هذا المسار المزدوج اليوم وسيلة موثوقة ويمكن التعويل عليها بيد الإدارة الإيرانية لكبح جماح الانفعالات الداخلية المحتملة في الوقت الذي تتودد فيه للمجتمع الدولي.
ثنائية الخطاب المذكورة استمرت في أعقاب الاتفاق النووي؛ فبعد إعدام رجل الدين الشيعي السعودي، الشيخ نمر النمر، من قِبل المملكة العربية السعودية في 2 يناير، هاجم المتظاهرون السفارة السعودية في طهران، وأطلق خامنئي خطابًا قال فيه بأن المملكة ستواجه “الانتقام الإلهي” نتيجة لتنفيذها حكم الإعدام، ولكن في وقت لاحق، اعتقلت السلطات الإيرانية نحو 100 شخص مشتبه بضلوعهم بإحراق السفارة، وبشكل منفصل، أطلقت طهران سراح خمسة رهائن أمريكيين في صفقة تبادل للأسرى مع الولايات المتحدة بالتزامن مع إعلان الأمم المتحدة بأن إيران امتثلت لبنود الاتفاق النووي.
النظرة المتمعنة في الشأن الإيراني توضح بأن الانفتاح الاقتصادي في إيران لا يقابله انفتاح سياسي، لأن المحافظة على القوة الاقتصادية للحرس الثوري يعد أمرًا بالغ الأهمية لتعزيز دوره في الحياة السياسية؛ لذا، وبعد أن عمل النظام الإيراني على تأمين قوته السياسية على المدى الطويل من خلال تحسين التوقعات الاقتصادية إبان إبرامه لصفقات اقتصادية مع إيطاليا وفرنسا، يتحول اهتمام النظام الآن نحو المجال التشريعي، فوفقًا للسيد حسين المرعشي، عضو لجنة الإصلاحيين السياسية، استبعد مجلس صيانة الدستور، في الفترة التي تسبق الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في 26 فبراير، 99% من الإصلاحيين الذين تقدموا بأوراق ترشيحهم سابقًا.
سلوك إيران البراغماتي لن يسفر عن تغيير جذري في التوجهات الإيرانية، وهذا النهج البراغماتي لن يدفع إيران للتخلي عن طموحاتها الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط؛ بل علاوة على كل شيء، سيساعد الحفاظ على الوضع السياسي الراهن في إيران على تعزيز آفاق تحقيق تلك الطموحات.
تعد النتائج التي ستتمخض عن حقبة ما بعد العقوبات في إيران شريان الحياة بالنسبة للنظام؛ فاستفادة المجتمع الدولي من الاتفاق النووي تتمحور حول دفع إيران للالتزام بقواعد القانون الدولي بعد سنوات من تغريدها خارج سرب اللعبة الدولية، وإذا أخذنا هذا الأمر بعين الاعتبار فضلًا عن الضغط الذي تشعر به إيران جرّاء تدخلها في سوريا، يمكننا أن نؤكد بأن النظام في طهران ليس مرتاحًا في تموضعه الدولي بشكل تام، ولكن في النهاية، يبقى معسكر خامنئي هو المعسكر الفاعل والمهيمن في إيران، وتبقى البراغماتية مجرد أداة بيده، وليست اتجاهًا معارضًا مطردًا.
المصدر: ميدل إيست آي