“سابراك”! أو “لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الأمريكية”، هيئة جديدة كشف الكاتب السعودي النافذ، سلمان الأنصاري عن نية الحكومة السعودية إطلاقها في واشنطن، لكي تكون ظهيرًا للرياض في قراراتها ومواقفها.
القرار يبدو بالنسبة للكثيرين في المملكة، قد تأخر كثيرًا؛ حيث تسبق دولٌ عديدة في المنطقة، وخصوصًا “إسرائيل” وإيران، المملكة العربية السعودية في هذا المجال، منذ عقود طويلة، ولكن يبدو أن المتغيرات الراهنة في المنطقة قد حتمت على الرياض القيام بخطوة قد تأخرت.
هدف الكيان الجديد، هو – بحسب الأنصاري – الوصول إلى المواطن الأمريكي، وتعريفه بكافة القضايا الخاصة بالعلاقات السعودية الأمريكية، والأوضاع الراهنة في العالم العربي والشرق الأوسط، وتجاوز الصورة النمطية عن السعودية والسعوديين.
وبالتالي، فإن الرياض تهدف من وراء “سابراك” – وهي أول هيئة من نوعها في تاريخ العلاقات بين البلدَيْن – التأثير على تصويت الأمريكيين في اية انتخابات أمريكية فيدرالية، تشريعية أو رئاسية، وكذلك التحرك في أوساط الكونجرس ودوائر صناعة القرار الأمريكية، وفق الرؤية السعودية لأزمات وقضايا المنطقة، والعلاقات بين البلدَيْن.
ما أعلنه الأنصاري، ونشرته شبكة “سي. إن. إن” الإخبارية – وبالمناسبة؛ فإن الأنصاري هو الذي سوف يكون مشرفًا على هذا الكيان الجديد – يأتي في إطار سعودي ولكن بنكهةٍ إيرانية صرفة!..
فالخطوة السعودية تأتي في إطارَيْن إيرانيَّيْن – لو صح التعبير – بالنسبة للرياض، الإطار الأول هو الأزمة المتفاقمة في الوقت الراهن بين الرياض وطهران، بعد إعدام السلطات السعودية للناشط الشيعي، نمر باقي النمر، وقطع العلاقات بين البلدين، على إثر حرق واقتحام المقار الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد.
ومن المعروف بطبيعة الحال أن الأزمة أقدم وأعقد من هذه الحوادث الأخيرة، وأن أزمة النمر وحرق السفارة السعودية، كانت واحدة من تمظهرات أزمة تتسع لتشمل الإقليم بالكامل، وتأخذ أشكالاً أكثر سخونة في اليمن وسوريا.
الإطار الإيراني الثاني الذي يأتي فيه القرار السعودي، هو التحسُّن غير المسبوق في العلاقات الإيرانية – الغربية، وخصوصًا الأمريكية، بعد دخول الاتفاق النووي الإيراني المُوقَّع مع مجموعة الـ(5 + 1)، في يوليو الماضي، حيِّز التنفيذ في يناير 2016م، ورفع أو تعليق العقوبات الغربية والدولية عن إيران، على إثر إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن إيران نفذت تعهداتها بموجب الاتفاق.
تشعر الرياض في الوقت الراهن، في ظل أزمة حقيقية في العلاقات بينها وبين واشنطن والغرب بشكل عام، بسبب الأزمة في سوريا واليمن على وجه التحديد، أنها في موقف أضعف أمام خصمها اللدود الذي يكسب كل يوم أرضًا جديدة في المجتمع الدولي، وكان آخر صور ذلك، صفقات بـ15 مليار دولار قدمها الرئيس الإيراني، حسن روحاني لفرنسا، دفعت باريس إلى أحضان طهران.
الخوف السعودي يمتد إلى مجالات عدة من “التوسع” الدبلوماسي – هذه المرة – من جانب إيران في الشرق الأوسط، وفيما خلف حدود الشرق الأوسط، ومن بينها سوق النفط؛ حيث سوف تسعى إيران إلى زيادة إنتاجها بمئات الآلاف من البراميل يوميًّا، مما يعني المزيد من الخنق للاقتصادات الخليجية المتراجعة بفعل التراجعات الكبيرة في أسعار النفط، وهي سياسة إيرانية ترد بها على موقف سعودي – إماراتي سابق، كان يعمل على عدم خفض الإنتاج لعدم رفع الأسعار، لمزيد من حصار إيران فترة العقوبات عليها.
المجال الثاني الذي تتخوف الرياض منه في إطار التحركات الإيرانية الحالية في العالم الخارجي، هو صفقات سلاح جديدة تعقدها طهران مع الدول الغربية، بعد صفقات ناجحة ومهمة عقدتها مع موسكو في السنوات الأخيرة، تكللت بمنظومة الدفاع الجوي المتطورة “إس. 300”.
طهران بدأت في ربط نفسها بمصالح اقتصادية عالية القيمة مع الغرب، فبدأت بالقطاع المدني، وعمدت إلى التوقيع على صفقات ضخمة في مجال الطائرات المدنية لتحديث أسطولها المتقادم، وكانت البداية بمائة طائرة دفعة واحدة، مع شركة “إيرباص” الأوروبية، وهو ما تتخوف الرياض من أن يتم بعد ذلك تطويره، استغلالاً لحاجة الدول الأوروبية لتحقيق مصالحها الاقتصادية، إلى المجال العسكري.
في المقابل تتأزم العلاقات السعودية الأوروبية والأمريكية، لأكثر من عامل، العامل الأول، هو ملف حقوق الإنسان، بعد أن تصاعدت أصوات عدة، من بينها منظمات على قدر من الموثوقية، مثل الـ”هيومان رايتس ووتش”، و”منظمة العفو الدولية”، بانتهاكات عديدة لحقوق الإنسان تحدث في اليمن، من جانب قوات التحالف العربي الذي تقوده الرياض.
كما يشكل ملف الفساد السياسي وحقوق الإنسان، في الوقت الراهن أحد أعقد ملفات العلاقات البريطانية – السعودية على وجه الخصوص؛ حيث لا تنظر لندن بعين الرضا إلى الطريقة التي تُدار بها الأمور في الرياض من جانب الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ونجل الملك الحالي للبلاد، ووزير الدفاع، والتي شملت بتأثيراتها أزمات المنطقة، وأدت إلى تصعيدها، وانتقل تأثيرها – مع موجات المهاجرين واللاجئين – إلى أوروبا نفسها، بما فيها بريطانيا.
الإندبندنت نشرت يوم العاشر من يناير الجاري، مقالاً للكاتب الصحفي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، باتريك كوبيرن، بعنوان “الأمير السعودي الساذج المتعجرف يلعب بالنار”، لخص فيه هذا الأمر.
كوكبيرن كتب عن تقرير لوكالة حماية الدستور الألمانية “المخابرات”، تناثرت منه بعض التفاصيل في العام 2015م، الماضي، أكدت فيه الوكالة على مخاطر سياسات الأمير محمد بن سلمان، والذي يسعى لتعزيز نفوذه السياسي في الداخل، على حساب عمه، ولي العهد ووزير الداخلية، الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز.
التقرير استخدم مصطلحات دأب حتى الإعلام البريطانية والألماني على استخدامها في وصف السياسات السعودية في السنوات الأخيرة، مثل أن الرياض “تعتمد سياسة متهورة في الآونة الأخيرة”، في ظل مساعي محمد بن سلمان إلى تعضيد صورته كرجل السعودية والمنطقة القوي، في ظل معاناة والده من داء الخرف، بحسب تقارير عدة.
ومن قبل قالت الـ”بي. بي. سي”، إن محمد بن سلمان، يقلق العالم بالفعل، وحملت كل هذه التقارير الصحفية والاستخبارية، محمد بن سلمان مسئولية “شل العالم العربي”، من خلال تورطه في حروب بالوكالة مع إيران، في سوريا واليمن، ووصفته بـ”المقامِر”، وهو ما قاد أجهزة غربية عدة إلى التوصية لحكوماتها بعدم الاعتماد على حليفها القديم في المنطقة، في الوقت الراهن.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ حيث الاتهامات قائمة – كذلك – بمسؤولية السياسات السعودية عن انتشار الفكر المتطرف، وبالتالي، تحسين فرص انضمام عناصر جديدة لتنظيمات السلفية الجهادية، وخصوصًا تنظيم “داعش”، وتحسين فرص إنشائها لخلايا في أوروبا، ضربت في فرنسا وبريطانيا وبلجيكا، وفي عواصم كانت في الماضي هي الأكثر مناعة في العالم!
هذه الظروف دفعت دولاً مثل بريطانيا إلى القول بأنها “قد تعمل” على وقف صادرات سلاحها الاستراتيجي إلى الرياض، على خلفية تقارير جرائم الحرب المرتكبة من جانب طائرات بريطانية الصنع، تعمل في سلاح الجو السعودي فوق اليمن، بجانب موجة الإعدامات الأخيرة الواسعة التي نفذتها الرياض، ووضعت السعودية على لائحة الدول التي تطبق أحكام الإعدام بكثرة، مما يفرض قيودًا على الحكومة البريطانية في مجالات معينة للتعاون العسكري، بينها وبين الدول الموضوعة على رأس هذه القائمة.
ولكن ثمَّة تنويهة مهمة في هذا السياق، وهو أن مبيعات السلاح البريطانية للرياض قد زادت ولم تنقص، ووصلت إلى مليار جنيه إسترليني في غضون الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام 2015م الماضي، مما يعكس تخوفات سعودية من مخاطر أمنية عدة، من بينها، وليس كلها بالكامل تخص طهران.
فهناك مخاوف ضخمة لدى الرياض من “الإرهاب” أو العنف المسلح الذي تقوم به تنظيمات السلفية الجهادية، والتي تزايدت في الداخل السعودي في الآونة الأخيرة، وكان آخرها حادث مسجد القطيف، الجمعة، 29 يناير، مما أودى بحياة خمسة أشخاص.
نشرة “السعودي” الإلكترونية، نقلت يوم الثامن والعشرين من يناير، عن الدبلوماسي البريطاني جون جنكيز، قوله في هذا الإطار، إن التيار الجهادي السُّنِّي يمثل تهديدًا كبيرًا للمملكة خلال المرحلة الراهنة، في ظل تزايد العمليات الإرهابية التي طالت الأراضي السعودية خلال الأشهر الماضية، والتي تستهدف ليس فقط المساجد الشيعية، ولكن أيضًا بعض المساجد السُّنِّية ورجال الأمن والشرطة، بالإضافة إلى القواعد العسكرية السعودية”.
الإعلام السعودي في المقابل، كان حاضرًا في هذا السياق؛ حيث نجده يجاهر بالعداوة في الوقت الراهن للغرب، ويحمل الولايات المتحدة وبريطانيا، وسياساتهما التي يصفها بالمهتزة أو المصلحية، في التصعيد الحالي في المنطقة، وخصوصًا فيما يتعلق بالأزمة السورية، مع اتهامات أخرى بتقديم دعم سياسي لإيران من خلال رفع العقوبات واستقبال المسؤولين الإيرانيين في العواصم الغربية.
وهو ما يقول السعوديون، دبلوماسيون وإعلاميون، إنه يدعم خطط طهران في استمرار حالة من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، من خلال تدخلاتها الحالية في العراق وسوريا، وفي الفضاء الحيوي اللصيق بالسعودية، في البحرين واليمن، ومناطق أخرى من المنطقة.
“سابراك”، في الإطار السابق، ليست هي الجهد السعودي الأول في هذا المجال، مجال التصدي لمختلف هذه الأمور التي أساءت بالفعل إلى الحكومة السعودية ومسَّت مصالح عدة للرياض في الغرب، بما في ذلك صادرات السلاح الاستراتيجي.
فمنذ فترة بدأت الدوائر الدبلوماسية في السفارات السعودية في بريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة، ودول أخرى، في شراء مساحات في صحف كبرى في هذه البلدان، للحديث عن وجهة النظر السعودية الرسمية في كل هذه القضايا، والرد على ما تصفه الرياض بـ”حملات التشويه” في حقها.
ولعل السفير السعودي في لندن، محمد بن نواف، هو الأكثر نشاطًا في هذا المجال؛ حيث نشر أكثر من مقالٍ وأصدر أكثر من بيان، حاول فيه التوضيح بشكل لم يخلُ من التحذير، من أن صيرورات سياسات الحكومات الغربية بهذه الصورة، تجاه الرياض، تضع العلاقات السعودية الغربية في مجال الخطر.
ما سبق يُعتبر الصورة أو الخلفية الرئيسية التي جرى في إطارها التخطيط لإطلاق “سابراك” سعودية في واشنطن، ولكن يبقى سؤالٌ مهم، نطرحه بلغة العجائز الحكماء في مجتمعاتنا العربية، وهو: “ماذا تفعل الماشطة في؟!”. نترك إجابة هذا السؤال لتطورات الزمن!