انطلقت اليوم محادثات السلام السورية في جنيف وسط غياب التمثيل الرسمي للهيئة العليا للمفاوضات المشكلة من القوى السورية المعارضة السياسية والمسلحة، بعدما أعلن المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا في وقت سابق أن مؤتمر جنيف 3 سيفتتح اليوم الجمعة بعدما شهد تحولًا من صفة “محادثات” إلى “مشاورات” بحسب ما أعلن مكتب دي ميستورا.
هذه المفاوضات التي انطلقت اليوم بطريقةغير مباشرة يقوم فيها دي ميستورا بمشاورات مع الوفود كل على حدة بعيدًا عن الإعلام، في ظل شغور مقاعد المعارضة واقتصار الأمر على وفد النظام ثم الاجتماع بالجهات الأخرى المشاركة وممثلي ما سُمي بـ”منظمات المجتمع المدني” التي أعلن عنها دي ميستورا، والتي تعتقد المعارضة السورية بأنها كيانات موالية للنظام السوري تم فرضها بالقوة من قبل قوى بعينها في هذه المفاوضات.
حيث وصل إلى جنيف وفد النظام السوري مكون من 15 شخصًا برئاسة بشار الجعفري مندوب سوريا في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى وفد أطلق عليه معارضة الداخل ويضم ممثلين عن جبهة التغيير والتحرير.
بينما اشترطت الهيئة العليا للمفاوضات التابعة للمعارضة السورية والمنبثقة عن اجتماع قوى المعارضة في الرياض لحضور مؤتمر جنيف 3 التوصل إلى اتفاق يسمح بدخول المساعدات إلى المناطق المحاصرة من قبل القوات الموالية للرئيس السوري بشار الأسد بالإضافة إلى وقف القصف الروسي وقصف النظام الذي يستهدف المدنيين والإفراج عن المعتقلين.
وعقب اجتماع مع هيئة المفاوضات من قبل المبعوث الأممي في الرياض، أكدت الهيئة إنها لم تتلق إجابات مقنعة لمطالبها بشأن وقف القصف الحكومي وإنهاء الحصار من جانب القوات الموالية للأسد، كما أعربت موسكو عن رفضها للشروط المسبقة بتصريح يقول إن الهدنة الإنسانية ليست شرطًا لبدء مفاوضات جنيف، فيما ألقت موسكو بشروطها كنوع من المساومة على لسان المتحدث باسم الرئاسة الروسية “ديميتري بيسكوف” الذي قال أن “تحقيق الهدنة في سوريا يتطلب إكمال قائمتي المعارضة والمنظمات الإرهابية”.
أما الموقف الأمريكي فقد أتى مخيبًا لآمال الكثيرين بعد تصريحات أمريكية طالبت المعارضة بعدم وضع “الشروط المسبقة” في مقابل مشاركتها بمؤتمر جنيف، حيث رأى المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية مارك تونر أن “أمام المعارضة فرصة تاريخية للذهاب إلى جنيف واقتراح سبل جادة وعملية لتنفيذ وقف لإطلاق النار”، و”إتاحة وصول المساعدات الإنسانية وغيرها من إجراءات بناء الثقة”.
وقد أتى رد المعارضة السورية على التصريحات الأمريكية على لسان رياض حجاب، المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات التابعة للمعارضة السورية، الذي وصف المجتمع الدولي الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة بالفشل، وذلك بحسب تصريحاته حيث عجزوا عن إيصال عبوة حليب لرضيع يصارع الموت من شدة الجوع جراء حصار النظام السوري له.
حجاب يرى أن المفاوضات التي تريدها المعارضة السورية غير التي تجري حاليًا، حيث لا ترغب المعارضة حاليًا بالمشاركة في محادثات محكوم عليها بالفشل، أتت بالنظام السوري الذي لا يريد حلًا سياسيًا في سوريا ليفشلها.
فيما أكد وفد المعارضة أن عدم ذهابه للمحادثات في جنيف، يعني أنه لن تكون هناك مفاوضات، لكن الدب الروسي ومن خلفه نظام الأسد يرى أن المفاوضات يجب أن تجري ولو أن تقوم بين النظام ونفسه بهذه الصورة التي خرجت اليوم.
من جانب النظام السوري ومن خلفه روسيا وإيران فقد اعترضوا على تركيبة وفد المعارضة السورية، وقد جرت محاولات لفرض شخصيات وفصائل قريبة من موسكو على غرار الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي هددت تركيا بالانسحاب من المفاوضات في حال مشاركته، فضلًا عن رفض النظام السوري وموسكو وقف إطلاق النار قبيل انطلاق المفاوضات.
هذه هي وجهة النظر الروسية التي تريد المضي قدمًا في هذه المفاوضات بفرض رأيها على بقية الدول المعنية بالقضية السورية عنوة، والموقف الأمريكي الحالي زاد من تأييد الموقف الروسي في المفاوضات، حيث أكدت المعارضة السورية في تسريبات إنها تعرضت لضغوط من قبل وزير الخارجية الأميركي جون كيري لحملها على المشاركة في مفاوضات جنيف دون شروط مسبقة، مدعيًا بذلك أن ذلك الامتناع عن الحضور يخدم نظام الأسد.
لا يختلف حال الأمم المتحدة في هذه المفاوضات عن حال النظام السوري والولايات المتحدة وروسيا حيث تبنى مبعوثها الأممي نفس الرؤية التي ترى وجوب إجراء المفاوضات دون وجود حد أدنى من الاتفاق أو الضمانات لجانب المعارضة، حيث طلب دي ميستورا في رسالة قال إنها موجهة للسوريين أن يطالبوا جميع الحضور في جنيف بالكف عن ممارستهم بغية التوصل إلى حل للقضية السورية لوقف معاناة الشعب السوري.
هذه الرسالة التي اعتبرتها المعارضة السورية في الجهة الخطأ، حيث أن مطالب وفد المعارضة السوري تخفيف معاناة السوريين قبيل انطلاق المحادثات، وهو ما ترفضه القوى الدولية حتى الآن برفض مطالب الوفد السوري الإنسانية البحتة، لذا فليس هناك أي معنى لرسالة دي ميستورا الأخيرة التي تطالب السوريين أن يعترضوا على ممارسات الأطراف المتنازعة، لأن الطرف المتعنت هو طرف النظام الذي كان أولى أن يتلقى هذه الرسالة.
ما يحدث في جنيف 3 يؤكد أنه صراع بين الإرادات في سوريا، حيث الأجندة الروسية والأمريكية التي لا تُلق بالًا لمعاناة الشعب السوري، في مقابل مطالبات من المعارضة السورية التي شكلت وفدًا بشق الأنفس قيل إنه الوفد الأول في تاريخ الثورة السورية الذي يلقى قبولًا نسبيًا بين أطياف المعارضة المعتدلة في سوريا.
إلا أن هذا الوفد لم تستسيغه روسيا وإيران حلفيتا النظام السوري الحالي في قمع الثورة الشعبية، إذا طالبت روسيا وإيران باستبعاد شخصيات بعينها من وفد المعارضة وضم شخصيات أخرى موالية للنظام، كذلك طالبت الأجندة الروسية الإيرانية بتصنيف كيانات معارضة سورية كجماعات إرهابية أبرزها حركة أحرار الشام وجيش الإسلام باعتبارهم من أبرز الحركات المعارضة المسلحة التي تواجه النظام.
المعارضة التي وحدت نفسها في هذه المفاوضات عبر هذه الهيئة المدعومة من قبل قوى إقليمية كالسعودية وتركيا رفضت هذه الشروط الروسية الإيرانية باعتبارها تعجرفًا وتدخلًا في شؤون اختيار الوفد الذي سيحاورهم كطرف بجانب النظام الأسدي، إذ أن الروس والإيرانيون اختاروا وفد النظام مسبقًا، ويريدون الآن فرض إرادتهم باختيار معارضيه.
القوى الدولية المتدخلة في الصراع تريد أن تجعل مقاليد الحل في مصالحها وحسب، حيث لا تريد روسيا حلا سياسيًا جديًا دون مساومات في قضايا أخرى غير متعلقة بالصراع في سوريا بالأساس، وكذلك تلعب الولايات المتحدة دورها في هذه المفاوضات، ولا يختلف الجانب الداعم للمعارضة السورية عن هذه الأبعاد حيث يتم تصفية حسابات سياسية داخل سوريا، في حين يدفع شعب سوريا منذ 5 سنوات ضريبة هذا التصارع الدولي والإقليمي.
ربما تعد خطوة وفد المعارضة السورية بمقاطعة مفاوضات جنيف هي الأشجع بشأن كسر هذه الحلقة المصالحية الغربية التي تتحكم في الحل بسوريا، والتي تريد إمضاء هذه المفاوضات الشكلية بأي طريقة دون النظر لأي إجراءات حقيقية من شأنها أن تُنهي معاناة هذا الشعب السوري، وبذلك تصبح المعارضة السورية فاعلًا في الصراع دون الاكتفاء بالأدوار الهامشية التي أتقنتها طوال 5 سنوات.
مما يُهدد المفاوضات الغربية الأخيرة بأن تتحول إلى مؤتمرات لمعارضة بشار الأسد الداخلية التي صنعها على عينه والتي انطلقت في أعقاب الثورة السورية، لإيهام المجتمع الدولي والشعب السوري أن ثمة معارضة وطنية تجتمع مع بشار الأسد في لقاءات رتبتها أجهزته الأمنية مسبقًا.
تلك الصورة التي تصدرها الآن المعارضة السورية لمفاوضات جنيف تعكس الفشل الدولي المريع في حل الأزمة السورية بفعل صراع الإرادات الذي يستبعد الشعب السوري دائمًا منه، ولكن الخطوة الأخيرة للمعارضة ربما تُخبر الولايات المتحدة وسوريا بأن حل الصراع لابد فيه من اجتماع لكافة الأطراف دونما استبعاد.