ترجمة وتحرير نون بوست
في خضم النقاش الجاري هذا الأسبوع حول الوفود التي ستحضر محادثات السلام السورية في جنيف، بزغت مسألة أخرى حول الجهة القادرة على فرض اتفاق السلام السوري، في حال التوصل إليه؛ ففي وثيقة إستراتيجية سرية سُرّبت حصريًا لصحيفة فورين بوليسي، حذّر مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية من أن الأمم المتحدة لن تكون قادرة على رصد أو تنفيذ أي اتفاق سلام قد يتمخض عن المحادثات السياسية التاريخية الجارية في جنيف.
شككت الوثيقة كذلك بأن القوى العالمية قد تحتضن توقعات غير واقعية حول قدرة الأمم المتحدة على مراقبة اتفاق وقف إطلاق النار والتحقق من حسن تنفيذه في خضم الحرب الأهلية الدائرة في سوريا والتي تضم تشكيلة مربكة من الفصائل المسلحة والجماعات الإرهابية.
“السياق السياسي الدولي والوطني الحالي، وبيئة العمل الحالية، يشيران بقوة إلى أن استجابة الأمم المتحدة عن طريق نشر قوات حفظ السلام، سواء بالاعتماد على القوات الدولية أو على المراقبين العسكريين، ستكون طريقة غير مناسبة لمراقبة وقف إطلاق النار”، وفقًا لما جاء في الوثيقة المسربة المعنونة باسم “مسودة طرق ومفاهيم وقف إطلاق النار” الصادرة عن فريق مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا.
وبمعنى آخر، تشير الوثيقة بأن الوضع السوري الحالي سيبقى خطيرًا للغاية بشكل لا يسمح لقوات حفظ السلام التقليدية التابعة للأمم المتحدة أن تتدخل لمراقبة اتفاق وقف إطلاق النار بالداخل السوري وضمان حسن تنفيذه.
حاليًا، بالكاد يوجد أي دلائل تشير إلى أن القوى الكبرى راغبة، أو محايدة، بما فيه الكفاية للتدخل في سوريا للقيام بهذه المهمة على نحو فعّال، كما أن الخطر الآخر الذي يستبطنه الوضع السوري يتبدى من خلال احتمالية قيام المتطرفين والعناصر المسلحة الأخرى التي سيتم استبعادها من المحادثات السياسية بتقويض عملية السلام من خلال استعمال القوة والعنف.
التعقيد الجنوني لمسألة إبرام اتفاق فعّال لوقف إطلاق النار في سوريا يتربع على عرش المصاعب التي واجهتها الأمم المتحدة المتمثلة بمجرد إقناع الأطراف المتحاربة بالجلوس سويًا على طاولة المفاوضات، حيث بدأت في يوم الجمعة محادثات سلام في جنيف برعاية الأمم المتحدة دون حضور الجماعة المعارضة السورية الرئيسية، المعروفة باسم اللجنة العليا للمفاوضات، حيث صرّحت اللجنة بأنها ستقاطع المحادثات لعدم امتثال حكومة الرئيس السوري بشار الأسد وحلفائها للشروط المسبقة الرئيسية التي وضعتها اللجنة كشرط لدخول المفاوضات، والتي تتمثل بوقف الغارات الجوية والحملات البرية للاستيلاء على المدن التي يسيطر عليها الثوار السوريون.
ولكن مع ذلك، صرّحت فرح الأتاسي، أحد أعضاء اللجنة العليا للمفاوضات، بأن وفدًا من اللجنة سيلتقي اليوم، الأحد، مع دي ميستورا ليس بغاية للتفاوض، وإنما لمناقشة جهود الأمم المتحدة لضمان إيقاف الهجمات العسكرية على المدنيين في سوريا، وفقًا لما نقلته الأسوشيتد برس.
وفي هذا السياق، صرّح سفير المملكة العربية السعودية إلى الأمم المتحدة، عبد الله المعلمي، لصحيفة فورين بوليسي بأن المعارضة السورية ستكون ممثلة بوفد مؤلف من ثلاثة أعضاء، بما في ذلك المتحدث باسم اللجنة العليا للمفاوضات، سالم المسلط، وسيركز الوفد من خلال حضوره إلى المحادثات على موضوع تخفيف الأزمة الإنسانية في سوريا، أما العضوين المعارضين الآخرين اللذان سيمثلان وفد المعارضة فهما، رياض نعسان آغا، وزير الثقافة السوري السابق، ومنذر ماخوس، سفير المجلس الوطني السوري إلى فرنسا، ووفقًا لدبلوماسيين من داخل الأمم المتحدة، من المحتمل أن يصل أعضاء آخرون من وفد المعارضة إلى جنيف في وقت لاحق.
في خضم كل ذلك، لا يبدو متوقعًا أن يتم التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار في البلاد في المستقبل المنظور، حيث تواصل حكومة الأسد، مدعومة بالقوة الجوية الروسية، الضغط على المعارضة المسلحة من خلال شن هجمات قاتلة على المناطق التي تسيطر عليها الأخيرة، كما أن أيًا من أعضاء الوفد المعارض الثلاثة لا يتمتعون بالسلطة اللازمة لإجبار الجماعات المعارضة المسلحة في سوريا للامتثال للقرارات الصادرة عن المؤتمر.
ضمن المدى المنظور، يعتقد دي ميستورا بأن القوات الحكومية في دمشق وعناصر المعارضة المسلحة سيتوجب عليهم رصد أي اتفاق لوقف إطلاق النار بأنفسهم، وإذا تحسن الوضع الأمني على الأرض، يمكن لمكتب مبعوث الأمم المتحدة أن يوسع من دوره في سوريا، من خلال توفير التدريب والموارد للسكان المحليين، والعمل كوسيط بين المقاتلين السوريين الرئيسيين واللاعبين الدوليين.
ولكن الحمل الأثقل في هذا المضمار سيتجشمه المقاتلون المعارضون وداعميهم الدوليين، المعروفين باسم مجموعة الـ17 الدولية لدعم سوريا، حيث تنص الوثيقة المسرّبة من مكتب المبعوث الدولي على وجوب “تحوّل دور مجموعة الدول الـ17 من دور الراعي للعملية السياسية إلى الضامن لتنفيذ الاتفاقات”، وتابعت الوثيقة موضحة: “سيتعين على دول الـ17 تنسيق جهود الدول الأعضاء، وتوفير التواصل العملي مع نظرائهم في الحكومة والمعارضة المسلحة، بغية دفع الوساطة، تدعيم اتفاق وقف إطلاق النار على النطاق الوطني، وإبرام وصيانة الاتفاقات المحلية”.
قد يبدو للمراقب الخارجي بأن دي مستورا يتوهم بأن أي اتفاق سيتمخص عن محادثات جنيف سيؤدي إلى تحقيق السلام في سوريا بشكل فوري، ولكن بدلًا من ذلك، تشير الوثيقة الصادرة عن مكتبه إلى أن طرفي النزاع سيتفاوضان بعملية شاقة على سلسلة من متعاقبة من اتفاقات وقف إطلاق النار في كل بلدة، بغية التخفيف من معاناة السوريين المحاصرين؛ أملًا بأن تسفر هذه الاتفاقات عن تحقيق وقف لإطلاق النار على كامل التراب السوري، وأن تصل في نهاية المطاف إلى غاية تحقيق السلام.
من الواضح أيضًا بأن الوثيقة المسرّبة تهدف إلى خفض سقف التوقعات حول الإمكانيات القابلة للتحقق التي يمكن لمراقبي الأمم المتحدة أو باقي المراقبين الدوليين أن ينجزوها في سوريا، حيث توضح الوثيقة بأن جهود المراقبين لن تشمل، على سبيل المثال، توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، رفع قضايا قضائية بحق مجرمي الحرب، أو رصد إطلاق سراح المعتقلين، أو مراقبة ظروف اعتقالهم.
“يوجد خطر بفشل المهمة”، نصت الوثيقة، وتابعت: “ولهذا، من الضروري أن تُحدد بوضوح الأدوار التي لن تكون بعثة المراقبة قادرة على القيام بها”.
وفي سياق منفصل، نصت الوثيقة بأن اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في ديسمبر بمدينة الزبداني، وهي بلدة يسيطر عليها الثوار بالقرب من الحدود مع لبنان في جنوب غرب سوريا، قد يكون بمثابة نموذج يمكن التعويل عليه للمضي قدمًا باتفاقات وقف إطلاق النار؛ ففي ديسمبر المنصرم، تم إجلاء المدنيين والمقاتلين المعارضين الجرحى والمنهكين المحاصرين من قِبل القوات الموالية للحكومة في مدينة الزبداني، مقابل السماح للمقاتلين الجرحى الموالين للنظام بمغادرة المدينتين اللتان تسيطر عليهما قوات النظام في ريف إدلب، الفوعة وكفريا، والمحاصرتين من قِبل مقاتلي المعارضة المسلحة، كما سمحت هذه الهدنة للأمم المتحدة ومنظمة الصليب الأحمر بإدخال بعض الإمدادات للمدن المحاصرة، رغم أن الأمم المتحدة أكدت بأن الإمدادات المُدخلة ليست كافية لتلبية احتياجات السكان.
“فيما يتعلق بالرصد المادي لمبادرات وقف إطلاق النار، فمن المتوقع أن يضطلع بها في البداية النظراء الوطنيون، الذين يتوجب عليهم أن يبنوها أسوة بالأمثلة المحققة على الأرض، كما هو الحال في مدينة الزبداني”، جاء في الوثيقة، وأضافت موضحة بأن زيادة الجهود التي ستبذلها دول الـ17 ومكتب دي ميستورا هي أمور لازمة لتعزيز المراقبة، ولكنها حذرت قائلة: “سنعمد لإجراء مفاضلة مباشرة ما بين الرغبة في تحقيق أعلى مستوى من المصداقية في عملية مراقبة وقف إطلاق النار وتحمل الخطر الجسدي”.
تعرضت إستراتيجية الأمم المتحدة لانتقادات حادة من المحللين وقوى المعارضة الذين يعتقدون بأن اتفاقات وقف إطلاق النار التي أُبرمت في وقت سابق تُكافئ سياسة تجويع المدنيين التي يمارسها نظام الأسد على المدن التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة لإجبارها على الخنوع، حيث تشير الإحصائيات إلى معاناة 18 منطقة في سوريا من الحصار، الأمر الذي يُخضع حوالي نصف مليون شخصًا لظروف الحرمان القاسية، ويعرضهم في بعض الأحيان للمجاعة أيضًا.
ويشير ستيفن أوبراين، منسق جهود الإغاثة في الأمم المتحدة، بأن النظام السوري يحاصر معظم هؤلاء المدنيين، حوالي 274.200 شخصًا، ويحاصر تنظيم الدولة الإسلامية 200.000 شخصًا، فضلًا عن أن المتمردين السوريين المتطرفين، بما في ذلك جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، يحاصرون حوالي 12.500 مدنيًا في الجيوب الموالية للحكومة.
“هناك مشكلة كامنة في اعتبارنا لأي من اتفاقات وقف إطلاق النار التي شهدناها حتى الآن بأنها بمثابة نموذج يُحتذى به؛ لأنها تُكافئ سياسات العقاب الجماعي والقصف أو تجويع المجتمعات لإجبارهم على الخضوع”، قال نواه بوسني، وهو خبير في الشأن السوري يعمل مع المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات، وتابع موضحًا: “حتى اتفاق وقف إطلاق النار في الزبداني يعتبر إشكاليًا، لأنه يبين كيفية استخدم كل جانب للعقاب الجماعي لإجبار الآخرين على الاستسلام، فكل اتفاق يشجع الأطراف على تطبيق المزيد من الحصار والمزيد من تكتيكات العقاب الجماعي”، وأردف قائلاً: “السؤال الجوهري هو، هل يمكن أن ننتقل بالأمم المتحدة والأطراف السورية لتجاوز هذا النموذج لتطبيق نموذج أكثر استقرارًا ومؤسس على أمر آخر غير العقاب الجماعي؟ وهل يمكن إبرام صفقات في المستقبل لا تحفز على استخدام تكتيكات العقاب الجماعي؟”.
في الأيام المقبلة، من المرجح أن تركز الحكومة السورية جهودها الدبلوماسية على إستراتيجية وقف إطلاق النار المحلية؛ فمؤخرًا، أشار بعض مؤيدي الأسد الرئيسيين، بما في ذلك القيادي البارز في حزب البعث العربي الإشتراكي، هلال الهلال، بأن المفاوضين سيتوجهون من دمشق إلى جنيف للاستماع فقط، وليس لتقديم أية تنازلات، حيث قال هلال في حديثه إلى الجنود السوريين، وفقًا لما نقلته الأسوشيتد برس: “نحن لن نقدّم اليوم ما لم نقدّمه على مدى السنوات الخمس الماضية، هذا العام سيكون عام النصر لسوريا”.
من جهته، توقع جوشوا لانديس، الخبير في الشؤون السورية في جامعة أوكلاهوما، بأن قوات الحكومة السورية ستتفاوض بشكل مباشر مع المقاتلين المعارضين في ساحة المعركة، ولكنها، على الأرجح، ستعمد في جنيف، إلى وصف مقاتلي المعارضة بالإرهابيين.
تبيّن تقديرات رئيس المخابرات الأمريكية، جيمس كلابر، بأن الجماعات المسلحة في سوريا تنقسم إلى حوالي 1500 مجموعة، كما نقل لانديس، كل منها يتمتع باتجاهات سياسية مختلفة، “يجب التعامل مع كل مجموعة من هذه المجموعات على حدة، إما بالقتال أو بالتفاوض، بلدة بعد أخرى”، أوضح لانديس.
يقول لانديس بأنه يتعين على صناع القرار تقبّل احتمالية استغلال النظام السوري لأي اتفاق لوقف إطلاق النار يحصل في البلاد لشن حملة عسكرية ضد جبهة النصرة، التي تسيطر على مدينة إدلب الإستراتيجية، وهذا الأمر سيضغط على الجماعات التي تقاتل جنبًا إلى جنب مع ذراع تنظيم القاعدة، بما في ذلك مجموعة أحرار الشام، للتخلي عن تحالفهم مع النصرة.
“الحكومة بدمشق ستبعث برسالة إلى جميع فرقاء المعارضة المسلحة قائلة، إذا أطلقتم عليً النار، فستتهمون بكسر اتفاق وقف إطلاق النار”، قال لانديس، مشيرًا إلى أن هذا السيناريو يعطي الأسد اليد الطولى لأنه “إذا تمعنت في ذلك، فستدرك حتمًا بأن قوى المعارضة ستخضع لحالة خسارة لا مفر منها على جميع الأصعدة”.
في الوقت عينه، بدأت مكاتب حفظ السلام والسياسة التابعة للأمم المتحدة بالتخطيط الاحترازي لتواجد عناصر الأمم المتحدة المعزِز في سوريا، في حال سمحت الظروف الأمنية بذلك؛ فقد تعمد الأمم المتحدة لتوسيع مكتب دي ميستورا ليضحي بعثة سياسية كاملة مع إرساليات دائمة للجنود المتواجدين في دمشق لاستكمال العمليات الجارية في جنيف.
وفي هذا السياق، تحدد الوثيقة المسربة عن مكتب دي ميستورا ثلاثة خيارات لمراقبة ورصد انتهاكات اتفاق وقف إطلاق النار، الأول، نشر بعثة مراقبة دولية مستقلة تمامًا، والثاني الاعتماد على المراقبين المحليين الذين يتم دعمهم بالمعدات التقنية اللازمة من قِبل المجتمع الدولي، والثالث نشر فريق تقليدي من المراقبين المحليين والدوليين، وهذا الخيار الأخير يقدم “أعلى مستويات المصداقية، ولكنه ينطوي على مخاطر جسدية جسيمة”، وفقًا لما جاء بالوثيقة، حيث يتطلب هذا الخيار وجود ضمانات أمنية من الجماعات المسلحة وداعميها الدوليين لحماية البعثة من تعرضها للتهديد من قبل “المفسدين” العنيفين، وبالنظر إلى مخاوف دي مستورا الأمنية، يبدو من المستبعد تمامًا أن يختار هذا النهج.
في اجتماع مغلق مع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هذا الشهر، قال دي مستورا، وفقًا لما استحصلت عليه صحيفة فورين بوليسي، “عندما كنت أبحث في خيارات الرصد والتحقق والإبلاغ عن انتهاكات وقف إطلاق النار، وجدت بأن أي ترتيب نهائي حول هذا الموضوع سيتعين أن توافق عليه الأطراف المتحاربة”، ولكن نتيجة للنكسة التي شهدتها محادثات جنيف 3 قبل المباشرة بها، سيعمد دي ميستورا للتحدث إلى الأطراف المتحاربة حول تدابير بناء الثقة، كتعهدات تجنيب المستشفيات والمدارس من الهجمات، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى المدن المحاصرة بغية تخفيف معاناة المدنيين.
وفي هذا السياق، اعترف دي ميستورا بأن سوريا “سوف تبقى مجزأة، مضطربة، ومُعسكرة للغاية” في المستقبل المنظور، وأضاف: “وفقًا لهذا الوضع، سيكون من الصعب للغاية نشر مراقبين دوليين للقيام بمهام المراقبة على الأرض”.
أخيرًا، حذّر دي ميستورا بأنه ومع مرور الوقت، يجب على المجتمع الدولي أن يعمل نحو تعميق دوره في دعم جهود السلام على الأرض، وأردف قائلًا: “هذا يعني بأننا يجب أن نفهم بشكل جماعي ونتقبل المخاطر التي ينطوي عليها الوضع السوري، ونحن على أهبة الاستعداد لتأسيس نهج واقعي”.
المصدر: فورين بوليسي