11 يومًا من التعذيب النفسي الشديد بمحاكاة محاولات قتلٍ عدة مرات، مع تقييدٍ بالسلاسل والعصابة التي لا تفارق العينين، وعدم السماح بالتواصل مع العالم الخارجي سواء أكان مع الأسرة أو زملاء العمل، قضاها ثلاثة أشخاص بسبب نقلهم الصحفي لمجريات الأمور في دولة اليمن.
إذ قام أفراد ملثمين من ميليشيا الحوثي المسلحة في اليمن باختطاف مراسل الجزيرة حمدي البكاري والمصور عبد العزيز صبري والسائق منير السبئي بإيقاف سيارتهم بمدينة تعز وسط اليمن، وإجبارهم على النزول منها تحت تهديد السلاح، بينما قاموا بتعصيب أعينهم وإخفائهم طيلة 11 يومًا دون أن يتم التبين من مكان احتجازهم، وبعد تحرك قضيتهم بشكل كبير إقليميًا ودوليًا أفرج عن ثلاثتهم ليروّا كيف قضوا تلك الأيام العصيبة.
البكاري الذي أكد أنه لم يُسمح له وزميليه بالحديث فيما بينهم كل تلك المدة، كما روى تعرضهم لمحاكاة إعدام مرات عدة، حيث قال أن الخاطفون كانوا كثيرًا ما يوجهون السلاح لصدره وكأنه خلال ثوانٍ معدودة سيواجه ذات المصير الذي لاقاه عشرات على يد الميلشيا نفسها، لكن تتضح له أن تلك عمليات قتل نفسية وأنه ما يزال حيًا قبل أن يواجه محاكاة أخرى لعملية قتل أو إعدام بعد ساعات قليلة.
الخاطفون أكدوا للصحفي وزميليه أنهم كانوا يريدون قتلهم فعلًا، لكن هناك أوامر ما وصلتهم بألا يفعلوا، فيما قاموا بالتحقيق معهم معصوبي العيون، وأوضح البكاري أنه اتهم بالارتزاق والعمالة، وأخذ الخاطفون يسألونه عن أي فصيل يتبع وعن طيران التحالف والإحداثيات، وذلك قبل أن يلقوا بثلاثتهم بجوار قلعة القاهرة في تعز ليشقوا طريقهم للنجاة.
الصحفي اليمني خرج مؤكدًا أن ما جرى معه وزميليه لن يثنيه عن أداء رسالته الإعلامية ونقل معاناة سكان المدينة –تعز- الذين يواجهون قصفًا يوميًا من جماعة الحوثي وقوات الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، فيما عزا عملية الاختطاف تلك إلى عمليات ترهيب الصحافة وعرقلة عملها في نقل الحقيقة.
فبالتأكيد عملية اختطاف الصحفي حمدي البكاري والمصور عبدالعزيز صبري ليست الأولى التي تجري ضد صحفيين في اليمن، فلا يزال أكثر من 13 صحفيًا يقبعون حاليًا في سجون الحوثيين وتنظيم القاعدة، دون أية إجراءات قانونية، مع منع لعائلاتهم من التواصل معهم أو زيارتهم أو الإطلاع على طبيعة التهم الموجهة إليهم، فضلًا عن آخرين قضوا في عمليات اغتيال.
هذا الأمر ليس غريبًا بالنسبة لبلد تحتل المرتبة 168 من أصل 180 بلدًا في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، بحسب تقرير “مراسلون بلا حدود” الذي نشرته مطلع 2015، أوتأتي في المرتبة الرابعة في الدول الأكثر فتكًا بالصحفيين خلال العام 2015، حيث احتل تلك المرتبة بعد تسجيل المؤسسة الدولية قتل 8 صحفيين خلال العام ذاته.
كما قالت المنظمة المعنية بحرية الصحافة في تقريرٍ آخر إن العام 2015 شهد تزايد ملحوظ في عمليات خطف الصحفيين في اليمن من قبل جماعة الحوثي أو تنظيم القاعدة، حيث وثقت اعتقال ما لا يقل عن 33 صحفيًا – 13 منهم لايزالون رهن الاحتجاز-، مقابل اثنين فقط في العام الذي سبقه.
“الصحفي” في نظر الجماعات اليمنية المسلحة إما عميل أو طرف في الصراع، لذا هو محاط بخطرٍ دائم، حيث لا يُنظر إليه على أنه صحفي يمارس مهنته في نقل الحقيقة من على الأرض، فمنذ انقلاب مليشيا الحوثي وقوات الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح في سبتمبر 2014، واجتياحهم العاصمة اليمنية صنعاء وحتى الآن تضاعفت الانتهاكات ضد الصحفيين والمؤسسات الصحفية، حيث اضطرت تلك الانتهاكات مئات الصحفيين للفرار من اليمن إلى أماكن أكثر أمنًا، رغم أن الجماعات المسلحة لازالت تتوعدهم، إلا أنهم أكثر أمنًا مقارنةً بغيرهم ممن لايزالوا في اليمن، فيما توقف نشاط العديد من المؤسسات الصحفية.
بالطبع ليست كل الانتهاكات تقوم بها ميلشيا الحوثي لكن النسبة الأكبر والأكثر إجرامًا تعود إليها، ولا يقف الأمر عند الاعتقال والاحتجاز ومنع ممارسة تلك المهنة وحسب، بل إن الأمر زاد حد استخدام الحوثيين للصحفيين كدروع بشرية، وقد سجلت حالتي قتل في مايو الماضي للصحفيين عبد الله قابل ويوسف العيزري مراسلا قناتي يمن شباب، وسهيل عقب استخدام الحوثيين لهم كدروع بشرية في أحد مخازن الأسلحة التابعة لهم بمنطقة ذمار.
ففي نصف العام الماضي وحده رصدت لجنة الحريات بنقابة الصحفيين اليمنية انتهاكات جمة مورست ضد الصحفيين، تتورط جماعة الحوثي في نحو 80% من إجمالي ما تم رصده، أي نحو 160 انتهاك، فيما توزعت باقي النسبة وهو ما يساوي نحو 40 انتهاك بين جهات مجهولة وتنظيم القاعدة وأخرى حكومية، من بينها 5% من إجمالي الانتهاكات قامت بها قوى التحالف العربي، و6% على يد جهات أمنية.
رصدت بعض المنظمات الحقوقية وقوع صحفيين قتلى على يد التحالف العربي الذي بدأ أولى غاراته نهاية مارس من العام الماضي، فقد سبق حادث اختطاف البكاري بأيام مقتل الصحفي اليمني لدى إذاعة صوت أمريكا “المقداد مجلي” في غارة جوية شنتها قوات التحالف العربي على العاصمة اليمنية صنعاء، وأيضًا المصور التليفزيوني هاشم حمران، الذي لقي حتفه في الثاني والعشرين من الشهر الجاري متأثرًا بجروح أصيب بها نتيجة غارة جوية لطيران التحالف، أثناء قيامه بعمله في مدينة ضحيان في محافظة صعده اليمنية.
تقرير نقابة الصحفيين رصد قتل 10 صحفيين خلال مدة الستة أشهر الأولى من العام المنصرم، ورغم فداحة الجريمة إلا أن القتل مثل نسبة 5% من إجمالي الانتهاكات، وفي نفس تلك المدة كان نحو 55 صحفي ومصور في ظل الملاحقات ما بين اعتقال واحتجاز وخطف ومحاصرة، وتلك النسبة بلغت قرابة ربع مجمل الانتهاكات، فيما سجلت النقابة 48 حالة اعتداء طالت صحفيين ومنازلهم ومؤسسات إعلامية، فيما تعرض 21 آخرين للتهديد والمضايقات وحملات التشهير.
كما أشار التقرير إلى رصد النقابة 8 حالات إيقاف عن العمل أو تهديد بالفصل أو منع مرتبات أو منع الصحفيين من دخول مؤسساتهم، إذ تُشدد جماعة الحوثي التضييق على العاملين في وسائل الإعلام الرسمية مثل الثورة، وكالة سبأ، تلفزيون اليمن، إذاعة صنعاء حيث منعتهم من الوصول إلى أماكن عملهم، وتحدثت النقابة عن مئات صحفيين طالهم هذا النهج.
وسائل الإعلام الحكومية تلك من محطات الإذاعة والتلفزيون وصحيفة الثورة ووكالة الانباء الرسمية سبأ، فقد سيطرت عليها ميلشيا الحوثي بفصل العشرات من العاملين بها وتعيين بدلًا منهم موالين لها، وقد ذكر التقرير اليمني لنقابة الصحفيين فصل قرابة 300 موظف من أعمالهم في إذاعة صنعاء وحدها.
فيما أوقفت نحو 16 مؤسسة عن العمل بعد اقتحام الميلشيا لعدد كبير منها ما بين صحف ووسائل إعلام ومصادرة معدات وآلات تصوير، بينما تم حجب 33 موقعًا الكترونيًا ومحرك بحث، وتعرض عدد آخر من المواقع للقرصنة، ورصد كذلك تسع حالات إغلاق مكاتب قنوات تلفزيونية وصحف.
ففي صنعاء توقفت صحف المصدر ومأرب برس وأخبار اليوم وصحف أخرى، أما في عدن فقد توقفت عن الصدور صحف عدن الغد والأيام والأمناء والطريق ويافع نيوز، كما اقتحمت مقرات قنوات الجزيرة والعربية والحدث وسكاي نيوز، وأغلقت مليشيات الحوثي مقرات القنوات التلفزيونية في صنعاء، وصادرت أجهزتها، واعتقلت بعض موظفيها، ما اضطر بعض القنوات للبث من خارج اليمن كقنوات سهيل ويمن شباب وبلقيس وأزال وقناتا عدن واليمن الحكوميتان، أما من عجز عن الانتقال فكان مصيره الغلق النهائي والتوقف عن البث.
العاصمة صنعاء التي سيطر عليها الحوثي أواخر العام 2014 باتت شبه خالية من مراسلي وسائل الإعلام الخارجي ومن الصحفيين والصحف المناوئة لجماعة الحوثي، حيث اضطر الصحفيين إلى الخروج إلى مدن أكثر أمنًا أو الخروج من اليمن كلها جراء كل تلك الانتهاكات التي تطالهم وزملاء مهنتهم، فتلك الانتهاكات توصف أنها سابقة نوعية لم تشهدها الحريات الصحفية من أكثر من ربع قرن.