على وقع التصفيق الحار و تحت أضواء عدسات الكاميرا و وسط ذهول الحاضرين غادرت وزيرة العدل الفرنسية ذات الاصول الافريقية كريستين توبيرا مقر الوزارة على متن دراجة هوائية صفراء اللون, لم تفارقها منذ توليها الحقيبة الوزارية و التي تعتبرها ’’وسيلة نقل مسالمة’’ لا تقتل و لا تشغل مكانا كبيرا و لا تلوث البيئة فمن يملك دراجة لا يمكن أن يؤذي أحدا ’’ بعد تخليها عن حفظ أختام وحراسة ميزان عدل الحكومة الفرنسية التي تواجه تحديات صعبة على جميع المستويات أبرزها التهديدات الأمنية المتكررة و الوضع الاقتصادي الحرج وغليان مجتمع تلح عليه أسئلة الهوية و تجتاحه هواجس المحافظة على قيم الجمهورية.
قيم يدعي الجميع في فرنسا معارضة و سلطة الذود عنها و حمايتها.غير أن الطرق إلى ذلك تتعدد و المسارب تتنوع و الرؤى تتباعد أحيانا فتحصل القطيعة . عندها تتأرجح المقاومة بين خيارين أحلاهما مر فإما الصمود أو الرحيل..هنا اختارت توبيرا الرحيل لتكون ’’الكلمة الفصل في النهاية للأخلاقيات والحق’’ إثر خلاف سياسي حاد على حد تعبيرها.
اختارت كريستين توبيرا التي لطالما تعرضت لإنتقادات من قبل اليمين المتطرف بسبب أصولها يوم الأربعاء 27 جانفي الموعد المحدد لمراجعة الدستور في الجمعية الوطنية لتقدم استقالتها رسميا للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند سويعات قبل أن يعرض رئيس الوزراء مانويل فالس على النواب النص النهائي لمشروع إصلاح دستوري دعا اليه هولاند بعد اعتداءات تشرين الثاني/نوفمبر ويشمل إضفاء الطابع الدستوري على حالة الطوارئ المعلنة في 13 تشرين الثاني/نوفمبر والتي تريد الحكومة تمديدها لثلاثة أشهر و أيضا إدراج مطلب إسقاط الجنسية في الدستور عن مزدوجي الجنسية بمن فيهم المولودين في فرنسا في حالة إدانتهم في قضايا الإرهاب او جرائم .
أدى هذا المشروع إلى انقسام حاد في الشارع الفرنسي حيث شهد المشروع جدلا واسعا و نقاشا كبيرا في الأوساط الحقوقية و الإعلامية. يومية لوموند الفرنسية، واسعة الانتشار، قالت في افتتاحية لها بعنوان “نزع الجنسية، الخطأ المزدوج لفرنسوا هولاند” إن هذا الإجراء “سيمثل خطأ مزدوجا كبيرا. فمن جهة، يمس هذا الإجراء الذي كانت تطالب به الجبهة الوطنية منذ زمن بعيد مباشرة مبدأ تساوي المواطنين ، أحد أسس الجمهورية الفرنسية ونُص عليه في الفصل الثاني من الدستور و يكرس التطبيع مع منطق كره الأجانب “.
ولم يسلم المشروع الفرنسي من انتقادات الصحف الأجنبية. وكتبت “وول ستريت جورنال” في طبعتها الأوروبية بأن فرنسا بهذا الإجراء “تعيد النظر في المبادئ التي تكون هويتها الوطنية”. مؤكدة أن فرنسا، صاحبة شعار “حرية، مساواة، أخوة” وجدت نفسها، تحت التهديد الإرهابي، مجبرة على “التأقلم”.
هذا الانقسام ألقى بضلاله على الحكومة الفرنسية حيث أعلنت وزيرة العدل كريستين توبيرا قبل استقالتها، خلال زيارتها للجزائر، في تصريح للإذاعة الجزائرية الثالثة، أن هذا الإجراء تم سحبه. لأنه “يمس بشكل عميق مبدأ الحق في الأرض و هو مبدا متجذر في الدستور الفرنسي و يقضي بمنح الجنسية لكل من يولد على التراب الفرنسي” “، ويمس بالتحديد حوالي 3,5 مليون شخص يحملون الجنسية المزدوجة، أغلبهم مغاربيون ومن أفريقيا جنوب الصحراء.غير أن الرياح جرت بما لا تشتهيه سفن وزيرة العدل التي لم تستطع ’’التأقلم’’ بعد أن وافق مجلس الوزراء على التعديل.فاختارت الانسحاب بعد ثلاث سنوات من العمل الوزاري وفاءا لذاتها ولنضالها والتزاماتها ووفائها لعلاقاتها مع الآخرين على حد تعبيرها.
و كريستين توبيرا كريستيان توبيرا، هي سياسية فرنسية (64 سنة) ولدت في مدينة كايين عاصمة غويانا الفرنسية في عائلة كبيرة تضم 11 طفلا . كان أب كريستيان يعمل بقالاً في كايين واسمه جورج توبيرا، وكان قد هجر العائلة بعد وفاة والدتها. تزوجت كريستيان بدورها من السياسي رولاند ديلانون واستمر زواجهما 20 سنة قبل الإنفصال عام 2002، بعد أزمة سياسية حيث شكل زوجها في انتخابات عام 1998 قائمة انتخابية منافسة لزوجته.
تخصصت توبيرا في العلوم الاقتصادية، ولذلك كلفت عام 2008 من قبل رئيس فرنسا حينها، نيكولا ساركوزي، ببحث موضوع الشراكة الاقتصادية بين الاتحاد الأوربي وبين دول الكاريبي. وفي عام 2013، وحين كانت وزيرة العدل الفرنسية وحافظة الأختام فإنها تقدمت بمشروع قانون زواج المثليين في فرنسا الذي أثار جدلا كبيرا.
كما ارتبط أسمها بالقانون الذي صوت عليه عام 2001 الذي اعتبر ان التجارة بالسود عبر المحيط الأطلنطي كانت عبارة عن جريمة ضد الإنسانية. وسمح هذا القانون كذلك على تضمين هذا الموضوع في النصوص المدرسية وكذلك سمح للبحوث في هذا الميدان. وإحدى نتائج هذا القانون انه اعتبر تاريخ صدوره في 10 أيار 2001، تاريخاً لاستذكار العبودية في كل 10 أيار من كل سنة.
شكلت استقالة توبيرا التي لم يكن لديها يوما انتماء حزبي واضح خيبة أمل لدى اليسار الفرنسي حيث يرى البعض أنها نجحت في تحقيق توازن بين وفاءها للحكومة و فكرها المتحرر المستقل و أيضا لأن هذه الاستقالة تعني اتجاه الحكومة الاشتراكية أكثر نحو سياسات يمينه ستسعد بالتأكيد الجبهة الوطنية الحزب اليميني المتطرف الذي لم تخفي زعيمته ماري لوبان فرحتها ب’’هذا الخبر السعيد’’ .
ويحل محل توبيرا جان جاك اورفواس (56 عاما) القريب من رئيس الحكومة مانييل فالس والمتخصص في شؤون الأمن والذي كان يتولى حتى الان رئاسة اللجنة المكلفة بإعداد القوانين في البرلمان الفرنسي.
يبقى السؤال قائما حول مدى خسارة المهاجرين صوتا كان من الممكن أن يدعمهم في مواجهة حملات التشويه و العنصرية . و يبقى كذلك مستقبل توبيرا السياسي مفتوحا على احتمالا كثيرة رغم أنها و في حوار تلفزي قالت أنها الوقت حان لأخذ قسط من الراحة و الاستجمام و قراءة الكتب .إلا أن هذه الاستقالة من الممكن أن ترفع من أسهمها و شعبيتها لدى الفرنسيين في ظل حكومة مترددة و مرتعشة في وقت يحاول فيه اليمين المتطرف كلما سنحت الفرصة كسب نقاط جديدة بعد خيبة الانتخابات المحلية. إستقالة على متن دراجة هوائية ربما يكون لها حضورها الدال و الرمزي في بلدان لا يعرف وزراءها شرف الانسحاب و الشجاعة على الاعتراف بالأخطاء بل يصرون على الخروج غالبا من الأبواب الصغيرة و في سيارات فاخرة و بجيوب مثقلة بالمال.