استكمالا لسلسلة تاريخ الفكر الاقتصادي التي بدأنا بها فقد وصلنا إلى العصور الوسطى وهي الفترة الزمنية التي لحقت سقوط الإمبراطورية الرومانية وحتى عصر النهضة والإصلاح الديني وسقوط القسطنطينية.
كنا قدر درسنا في المقالة السابقة الفكر الاقتصادي عند الإغريق وتطرقنا للمشاكل الاقتصادية التي تعرض لها أفلاطون في كتاباته الفلسفية في كتابيه “الجمهورية” و”القوانين” وكذلك درسنا أفكار أرسطو في التوفيق بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة كما فرق بين قيمة الاستعمال وقيمة المبادلة وأخيرًا تطرقنا لحضارة روما التي عرفت ظواهر جديدة لم تُعرف من قبل مثل التضخم الشديد في القرنين الثالث والخامس بعد الميلاد.
بالنظر إلى العصور الوسطى نجدها امتدت من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر أي منذ نهاية الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس حتى قيام الدول الملكية والكشوفات الجغرافية الأوروبية وحركة الإصلاح الديني البروتستانتي في سنة 1517 وهذه الأحداث هي التي مهدت لبداية مرحلة الحداثة والثورة الصناعية فيما بعد.
يعرّف المؤرخين الفترة المبكرة من العصور الوسطى؛ بالعصور المظلمة حيث أصيبت حضارة غربي أوروبا بالانحطاط والجهل والتأخر الحضاري بينما على النقيض في الطرف المقابل كان الشرق والدول الإسلامية تعيش حضارة مشرقة مزدهرة في الأندلس ودمشق وبغداد مليئة بالعلم والعمران، وقد أنجبت حضارة الشرق العديد من المفكرين والعلماء في مختلف المجالات وأبدعت في مناحي الحياة بدءً بالموسيقى وليس انتهاءً بالطب والكيمياء وعلم الفضاء والكلام والاجتماع.
وفيما يلي نستعرض أهم الأفكار الاقتصادية للعصور الوسطى في أوروبا:
مرت أوروبا بتدهور اقتصادي وأخلاقي في أوائل القرون الوسطى إلى أن بدأت ظواهر الانتعاش تظهر بعد القرن الحادي عشر فازدهرت بعض الصناعات الحرفية كما ظهرت بعض الممالك القوية مثل مملكة فرنسا وفي القرن الثالث عشر استمر الازدهار وبناء الكنائس وظهرت صناعات مختلفة في شمال إيطاليا.
ومن الأعلام الذين ظهروا في ذلك الوقت:
القديس سان توماس الأكويني 1226 – 1274 :
يتضح الطابع العام للفكر الاقتصادي الأوروبي في هذا الوقت من العصور الوسطى أنه كان أخلاقيا اهتم بالدرجة الأولى بالعدل والأخلاق المسيحية.
فاهتم الأكويني بفكرة العدل التي تكلم عنها أرسطو قبله إذ قسّم العدل إلى عدل توزيعي وعدل تبادلي، حيث عرّف العدل التوزيعي على أنه يبحث في توزيع المنافع بين الناس مع مراعاة اختلاف ظروف الفرد، وهذا العدل هو الأساس عند أرسطو.
أما العدل التبادلي هو الذي يضمن استقرار العدل التوزيعي بمعنى إذا حدث خلل في مراكز العدل التوزيعي فإن العدل التبادلي يكفل إعادة التوزيع للرجوع إلى حالة العدل التوزيعي.
وبالنسبة لفكرة الشيوعية التي تبناها أفلاطون في كتابه “الجمهورية ” بالنسبة للحكام _ فالملكية الفردية تؤدي إلى إفساد الحكام _ فإن الأكويني اعترف بالملكية العامة أو الشيوعية انطلاقا من فكرة أن الله هو من خلق الأرض وما عليها، إلا أنه رأى أيضًا أن هناك مبررًا للملكية الفردية فهي تتفق مع القانون الطبيعي.
وفيما يخص القروض واحتساب سعر فائدة عليها فإن الأكويني تبنى نظرة أخلاقية كان أرسطو قد شرحها قبله، حيث أن القروض كانت تُعطى عادة لأغراض استهلاكية للمحتاجين فكانت تظهر فيها فكرة استغلال الغني للفقير ولذلك حرمت الفوائد على رجال الدين أولًا ثم على جميع المسيحييين في القرن الثالث عشر.
كما أيد الأكويني أرسطو في رفضه لسعر الفائدة فقد قسم أرسطو الأموال إلى نوعين؛ أموال تهلك بالاستعمال وأموال لا تهلك بالاستعمال.
الأموال التي لا تهلك بالاستعمال يجوز لمالكه تأجيره أو إعارته وأن يطلب مقابلًا عن هذا الاستعمال أما الأموال التي تهلك بالاستعمال فلا يجوز الحصول على مقابل عن استعمالها زيادة عن الأصل. والنقود في نظر أرسطو هي بطبيعتها أموال تهلك بالاستعمال ولذلك لا يجوز لصاحبها أن يأخذ مقابلًا على استعمالها.
الفكر الاقتصادي عند المسلمين في العصور الوسطى:
كما ذكر أعلاه فإن العصور الوسطى بالنسبة لأوروبا هي غرق في الظلام بينما كانت بالنسبة للعرب والحضارة الإسلامية مركز إشعاع حضاري ازدهرت فيها الفلسفة والعلوم في شتى النواحي، ومن الأعلام التي برزت في هذه الحضارة الفارابي وجابر بن حيان ممن نبغوا في علوم الطب والكلام والكيمياء، بينما برع ابن خلدون في علم الاجتماع.
وبالإمكان معرفة الفكر الاقتصادي الذي ساد في الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى بالرجوع إلى كتاباته التي من أهمها على الإطلاق “مقدمة ابن خلدون”.
تناول ابن خلدون العمران والنشاط الإنتاجي وأَولى الصناعة أهمية كبرى في دراسته حيث خصص جزءًا كبيرًا من المقدمة تحت عنوان ” في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل”. وأهم أفكار ابن خلدون وأكثرها صلة بالاقتصاد الحديث أفكاره عن المالية العامة، كما اهتم بقضايا تطور المجتمعات وأشكال السلطة ووجود الدولة.
سندرس الأفكار الاقتصادية التي تناولها ابن خلدون في كتاباته بشكل مفصل في المقالة القادمة.