يكثر الحديث في هذه الأوانة عن المجندين في مصر داخل الجيش وبعض أفرع وزارة الداخلية “الشرطة”، لا سيما في ظل أنباء لا تتوقف بشكل شبه يومي عن مقتل أعداد منهم في عمليات مسلحة يشنها مجهولون.
هذه العمليات التي انتشرت في المحافظات المختلفة أو في سيناء بالتحديد التي تكثر فيها هذه الاستهدافات بين مجندي القوات المسلحة بحكم القتال الدائر بين التنظيم التابع للدولة الإسلامية “داعش” ولاية سيناء والجيش المصري.
تنقسم الآراء داخل نسيج المجتمع المصري حول هذا الجندي الذي يُطلق عليه بالعامية المصرية “الجندي الغلبان”، فبينما كان يحصل على جل التعاطف في سابق الأمر بسبب نظرية أنه مغلوب على أمره من قبل قيادات تتحكم فيه سواء في الجيش أو الشرطة، بات قطاع من المعارضين للسلطة الحالية في مصر بالتحديد يراه مشاركًا في القمع بصورة أو بأخرى.
لذا اهتزت هذه الصورة المطلقة عن مظلومية الجندي لا سيما مع الاحتكاكات الأمنية المباشرة الكثيرة منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 مع قطاع المجندين من قبل المعارضين بشتى تصنيفاتهم.
الأمر يشهد صراعًا عنيفًا الآن المؤيدون للنظام يرون أن هذا الجندي هو درع حماية الوطن ويتم استهدافه من قبل “عناصر إرهابية” في وجهة نظرهم بطريقة غادرة لتصفية حسابات مع النظام، بينما يرى قطاع من المتمردين على السلطة في مصر بالتحديد من أصحاب الفكر الجهادي أن هذا الجندي مشارك للنظام في كل نوائبه، لذا لا مانع لاستهدافه كونه رمز للنظام.
تمثل وجهتي النظر السابقتين طرفي هذه المسألة المعقدة بينهما العديد من الآراء المتباينة التي ترى أن هذا الجندي حان وقت تمرده على وضعه كأداة للقمع، لكن الآراء الآخرى ترد على هذه الرواية بأن الأمر ليس بيده مطلقًا كما يعتقد البعض، إذ أن منظومة التجنيد الإجباري هي السبب الرئيسي في إنتاج مثل هذا المجند الذي لا يستطيع التفرقة بين واجبه الأساسي في حماية الوطن وبين واجب السلطة الذي فرضته عليه وهو “حماية النظام”.
ليظهر السؤال المحير: كيف يتحول الجندي المصري من حامٍ للوطن إلى أداة لحماية النظام الحاكم؟
الإجابة كانت بحسب الكثير من المراقبين كانت في كلمة “التجنيد الإجباري” ونسخته الحالية في مصر التي تفرز الشباب فرزًا طبقيًا وتعليميًا وبالتالي يكون توزيعهم للخدمة في هذه المنظومة على هذا الأساس.
ليتحول آداء الخدمة العسكرية لدى طبقة من الشعب “رفاهية” بسبب المكانة الاجتماعية للعائلة أو الدور الوظيفي الذي تؤديه في درجات الحكم، وطبقة آخرى دون هذه الطبقة من أصحاب المؤهلات المتوسطة والعليا يؤدون الخدمة بشكل تقليدي في الأسلحة المختلفة في ظروف مزرية، أما الطبقة الثالثة من العساكر عديمي المؤهلات التعليمية فيتحولوا إلى درع النظام في مواجهة المجتمع، وذلك بإدخالهم في التشكيلات العسكرية التي تتبع الشرطة والتي يصبح تعاملها الأول والأخير مواجهة الاحتجاجات السياسية والاجتماعية التي تواجه السلطة.
الأمر يتعلق بالآلة الأمنية السلطوية التي تنتج هذه النوعية الأخيرة بالتحديد من الجنود، ولا شئ أفضل من وثيقة تحدث عن مطالعتها الدكتور المؤرخ خالد فهمي مؤلف كتاب “كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة”.
هذه الوثيقة التي تتحدث عن النواة الأولى للجنود المصريين المؤسسين لجيش محمد علي، والذين حصل أحدهم على مكافأة بعد قتل أبيه في احتجاجات على السلطة خرجت في مدينة إسنا جنوب مصر، تقديرًا له على اتباع التعليمات العسكرية بصورة دقيقة.
الأمر لا يختلف الآن بعد كل هذه العقود؛ فالجنود الذين يتصدون لهذه التظاهرات بعد كل هذه العقود من هذه الحادثة لا يستبعد أن يوجهوا سلاحهم إلى أحد أقربائهم المشاركين في أي مظهر احتجاجي ضد السلطة لمجرد أن الأوامر قد أتت لهم بالتعامل العنيف.
ونستطيع هنا أن نفرق جيدًا بين مجندي الجيش ومجندي قوات الأمن المركزي الذين يشتركون في شئ واحد وهو انعدام الكفاءة القتالية والتدريبية لمهامهم الأساسية وهم بذلك مجني عليهم من قبل السلطات بلا شك، لكنهم مختلفين في بعض الشئ في الأدوار الوظيفية التي يؤدونها للنظام.
مجند الجيش الذي يذهب ضحية للتفجيرات المتكررة والعمليات المسلحة في مناطق سيناء التي تستهدفه بوصفه وكيلًا عن النظام مجني عليه من السلطة التي أتت به إلى صحراء لا يعرفها ولم يدرسها ولم يتدرب على مواجهات عصابية كهذه، ولا يأخذ من النخبة المؤيدة للنظام سوى إطراء أجوف لا يشفع له عند استهداف الموت له.
بينما يتقاعس النظام عن تقديم واجبه تجاه هذا المجند الذي يُقتل في سبيل القادة الذين لا يعرفون عن العمليات الميدانية إلا النذر اليسير من ضباطهم الصغار، فلا تدريبات متقدمة للتعامل مع حرب العصابات ولا أسلحة متطورة لتقليل الخسائر ولا استراتيجيات حربية تنقذ الجنود ولا حلول سياسية للمشاكل الأمنية.
وإنما الزج بالجنود فقط في آتون معركة لا يعرفون فيها عدوهم بينما العدو يحفظهم عن ظهر قلب، فبالتالي يتحول الجندي آلة قتل عمياء لا تفرق بين مدني ومسلح فكلهم لديه “أعداء الوطن” الذين قتلوا أصدقائه بالأمس بالرغم من كونه لا يعرف من قتل حقيقةً رفاقه بالأمس، واكتفى بالاعتماد على رواية القاده الذين يبتزونه عاطفيًا بالدماء لتظل دائرة الدم دون حل.
فلا عجب عند سماع أخبار يومية عن مقتل مدنيين في سيناء نتيجة قصف عشوائي وغير عشوائي للجيش هناك، بل زاد الطين بلة في مصر حينما استدعي هذا الجندي من الصحراء ليواجهة المدنيين في شوارع وحواري مصر، وهي مواجهة وثيرة بالنسبة إليه أمام مجموعات من العزّل.
أما عن الذراع الأساسية للسلطة في مواجهة أي حراك مجتمعي “مجند الأمن المركزي” وهو قوة عسكرية تابعة لوزارة الداخلية وظيفتها تتلخص في عمليات فض التجمهر والشغب حينما لا يروقان للنظام الحاكم.
نشأت هذه القوات بالفعل بناء على حاجة النظام لقوات تتعامل مع الاحتجاجات ضده في ستينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن وعرفت هذه القوات بدور الحامي للنظام من أي تظاهرات معارضة أو فعاليات جماهيرية غير مرغوب فيها، وقد طرأ على قانونها عدة تعديلات جعلت في النهاية المنضمين لها مجندين يقضون فترة تجنيدهم الإجباري 3 سنوات بها نظرًا لعدم حصولهم على أي مؤهل تعليمي.
عملية إنتاج النظام لهذه الجندي في غاية السوء بداية من ضمه إلى الخدمة الإجبارية في قوات الشرطة 3 سنوات نظرًا لعدم استطاعته استكمال تعليمه، مرورًا بالمعاملة الوحشية التي يلقاها داخل معسكرات الأمن المركزي، نهاية بالتخلي عنه في أمام أي خطر تواجهه السلطة كأحداث 28 من يناير 2011 والتي ترك فيها جنود الأمن المركزي في سيارات ترحيلهم المغلقة عليهم من قبل قادتهم بعد فرارهم أمام جموع المتظاهرين، ليلقى الجنود مصيرهم الغير معروف حينها.
حتى أن هذه الأوضاع التي تنتج هذا الجندي الذي يتعامل بكل وحشية مع التظاهرات التي ينزل لمواجهتها ضاقت به، حتى تظاهر عشرات الآلاف من مجندي الأمن المركزي سنة 1986 في معسكر الجيزة بطريق الإسكندرية الصحراوي احتجاجًا علي سوء أوضاعهم داخل المعسكرات وتسرب شائعات عن وجود قرار سري بمد سنوات الخدمة من ثلاث إلي خمس سنوات فيما عرف حينها بأحداث الأمن المركزي.
المجندين في الجيش والشرطة يمكن اعتبارهم أحد أدوات النظام في صراعه السياسي الداخلي، وهذا لا يمنع من اعتبارهم أبرز ضحايا هذا النظام في نفس الوقت أيضًا، بسبب التجنيد الإجباري الذي يجعل كافة الشباب تحت رحمة النظام يستخدمهم كيف يشاء.
لذلك يرى محللون أنه لا يجوز أن تتبارى الأجهزة الأمنية والجهات الإعلامية الرسمية في ملاومة المجتمع حين يسقط ضحايا من المجندين، ولا يجوز لأنصار النظام الحاكم التفاخر بقتلهم دفاعًا عن النظام، لأنهم في النهاية ضحايا الإهمال والفشل من قبل مؤسساتهم التي زجت بهم في معارك ليست معاركهم بل معارك النظام.
وحتى مع ذلك لم تؤهلهم للدفاع عن أنفسهم في هذه المعارك، ليبقى موقع الجندي من السلطة في مصر هامشيًا للغاية، في الوقت الذي لا يجرؤ فيه أحد من المتغنين بتضحيات جنود الجيش والشرطة على مناقشة مساوئ التجنيد الإجباري أو ظروف المجندين التي يجب أن تتحسن، فيما يعتبرون قتلهم فقط هو مدعاة للتفاخر والمزيدات السياسية أمام المعارضين.
في حين لم نتطرق إلى عملية تجنيد الشباب الأوفر حظًا من مجندي الأسلحة المختلفة في قطاعات خدمية داخل القوات المسلحة والشرطة دون أدنى مبرر، كالمصانع والمزراع وصالات الأفراح، لتشكل هذه المؤسسات مجموعات من العمالة المجانية لخدمات قطاعات اقتصادية تعود بالنفع على قيادات هذه المؤسسات فقط، وهي ظروف مأساوية أخرى تواجه المجندين دون أن يفتح هذا الملف بشكل جدي.
هذا الأمر جعل البعض يعود إلى المجندين لتفعيل دورهم مرة أخرى بدعوتهم للتمرد على هذه المنظومة، سواء بالامتناع عن الدخول فيها “وهو أمر من الصعوبة بمكان عمليًا”، أو بالتمرد الداخلي على هذه الأوضاع الداخلية لكنها أمنية لا تزال بعيدة المنال حتى الآن.