أهم مبدأ من المبادئ التي عملت على تعزيزها الثورة الفرنسية منذ الشرارة الأولى لانطلاقتها عام 1789 هو مبدأ القومية وحق الشعوب في تقرير مصائرها، فقد ذهب بعض المؤرخين إلى اعتبار أن الثورة الفرنسية هي التي أفهمت شعوب العالم معنى القومية، ولكن بدايات الزحف الثوري للثوار الفرنسيين كانت مثار قلق لعدد كبير من الدول الملكية في أوروبا، السبب الرئيس لهذا القلق هو الخوف الملكي من التهديد المباشر لعروشهم بالإنهيار إذا وصلت الشرارة الثورية القادمة من فرنسا إلى بلدانهم التي كانت تتبنى شعار حق الملوك في تقرير مصير شعوبها.
الدول الملكية المجاورة لفرنسا ممثلة في إنجلترا والنمسا وبروسيا وإسبانيا وهولندا وسردينيا ونابولي أسرعت إلى تأسيس تحالف استراتيجي لمحاربة النظام الجمهوري الثوري في فرنسا ورأى هذا التحالف النور في عام 1792 وقاموا بالإعلان صراحة عن نيتهم إعادة أسرة البربون الملكية إلى عرش فرنسا بعد الإطاحة بالنظام الجمهوري الثوري ووصلت الأزمة إلى أشدها بعد إعلان النظام الثوري في فرنسا عن دعمه المطلق للشعوب التي تسعى إلى تقرير مصيرها وأن النظام الفرنسي الجديد على استعداد للتدخل لمساعدة الأمم التي تسعى للمطالبة بنيل حريتها وتأسيس نظام جمهوري ديمقراطي.
بعد هذا الإعلان الثوري من فرنسا، بدأت جيوش مملكتي النمسا وبروسيا بالهجوم على فرنسا في محاولة لإسقاط نظام الحكم الجمهوري، ولكن هذا الهجوم تم مجابهته بمقاومة فرنسية شرسة، حيث تمكن جيش الثورة الفرنسي من دحر غزو الملكيات المجاورة للأرض الفرنسية والمحافظة على نظام الحكم الجمهوري وتم توقيع معاهدة صلح مع عدد من الملكيات الأوروبية عام 1795. وبعد سنوات تمكن أحد الضباط الفرنسيين ذائعي الصيت وهو نابليون بونابرت من اعتلاء سدة الحكم في فرنسا حيث أول ما فعله هذا الضابط أن انقلب على مبادئ الثورة والجمهورية الفرنسية وقام بغزو عدد من البلدان الأوروبية طامحاً في بناء إمبراطورية أوروبية عظيمة وقام بتعيين أبنائه وأقربائه ولاةً على عدد من الممالك والمقاطعات الأوروبية، الأمر الذي أدى إلى زيادة التعبئة القومية في عدد من دول أوروبا، وتم إسقاط نابليون غبر تحالف جديد مكون من النمسا وإنجلترا وروسيا وبروسيا، الذي تمكن من احتلال باريس عام 1814 وأعادوا بموجب هذا التحالف أسرة البربون الملكية للحكم من جديد في فرنسا.
إذاً، فالعداء بين الملكيات والثورات التي تحدث في الدول المجاورة لها، أو الدول التي تكون بمثابة دول مُلهمة في إقليمها هو عداء تاريخي وليس عداءاً جديداً، وليس مستغرباً التصريح الذي قام به الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي وهو أحد أيقونات الثورة التونسية لأحد القنوات الفضائية قبل أسابيع أن أحد الدول الملكية في المنطقة قامت بتقديم دعم مباشر لعدد من حركات الثورة المضادة في عدد من دول الربيع العربي وخصوصاً مصر، إذ أن هذا الدعم يجب أن يكون متوقعاً من دول تخشى وصول الشرارة الثورية إلى جوارها، والتي اعتبرت أن نجاح التجربة الديمقراطية في بلدان الربيع العربي وتثبيت مفهوم التداول السلمي للسلطة يشكل تهديداً استراتيجياً لنظام الحكم فيها، الأمر الذي كان يجب أن يتم مواجهته برسائل طمأنة من قبل النخب الثورية في هذه البلدان خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين.
النفوذ والامتداد الواسع لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة العربية والذي ظهر بشكل كبير قبيل الإطاحة بعدد من الأنظمة العربية في تونس ومصر وليبيا وفوزها المتزامن في الانتخابات البرلمانية في عدد من الدول العربية والذي أسماه الإعلامي طوني خليفة ب “زمن الإخوان” أقلق عدداً من الدول الملكية في منطقة الخليج العربي التي أخذت موقفاً رافضاً لهذه الثورات، والذي كان على جماعة الإخوان المسلمين أن تتخذ إجراءات من شأنها أن تتجنب عداءها لهذه الدول أو تقوم بتحييدها على الأقل خصوصاً في المراحل الأولى للثورات كأن تقوم بالإعلان وبكل وضوح أنها طوت صفحة العمل عبر مجموعات سرية في هذه البلدان وتحويل تنظيمها إلى مؤسسات أو جمعيات واضحة الأنشطة والأهداف أو أن تقوم بالاستفادة من التجربة القطرية التي اتخذت فيها جماعة الإخوان المسلمين خطوات أحادية مع النظام القطري معللين ذلك بعدم جدوى تلك الأفكار في البيئة الخليجية والتي أثبتت أنها نفعت الجماعة وعدد من فروعها في عدد من البلدان أكثر بكثير مما أضرتها، لا سيما أن الموقف الرسمي القطري أصبح داعماً صريحاً لعدد من الثورات العربية على الرغم من كونه نظاماً أميرياً وراثيا.