يوم 14 جانفي الفائت اجتمعنا بزميل صحافيّ في المقهى فقال لنا:
أيجوز الاحتفال بعيد ميلاد الميّت؟؟
قلنا له: إذا كنت تقصد شرعا فنحن لسنا فقهاء.
تبيّنّا بعدها أن الصديق تهكّم علينا بسؤال ذا صبغة سياسيّة لم نفهم كنهه، كان يقصد الثورة التونسيّة تحديدا، وقد وصفها بالميّت الذي نحيي ذكراه منذ خمس سنوات..
أكثر من نصف الشّعب التونسي يشبه صديقنا هذا كثيرا في يأسه من ثورة 17 ديسمبر 2010/ 14 جانفي 2011، ولديه في ذلك حجج كثيرة قد يعجز اللسان عن الرّد عليها، ويحسن بنا الاعتراف بأن كلّ هؤلاء لم يجانبوا الصّواب في عديد المناحي، فلا يمكننا نكران أن نسبة البطالة تضاعفت مقارنةً بما كانت عليه سنة الثورة، وأن منسوب الرشوة والارتشاء في الادارات زاد، وأن البيروقراطيّة في غيّها مطّردة، وأن الجوّ العام متشنّج كثيرا وهو تماما ما أراده الفاعلون المحلّيون من قوى الشد إلى وراء وسدنة الثورة المضادّة، لا يمكننا نكران هذا باعتباره مجموعة من مخرجات النظام الفاسد الذي سقط رأسه وظلّ جسمه “الأفعواني” ينتج رؤوسا وأعناقا ليعود للنشاط من جديد وقد استردّ بعض عافيته، واستفاق من هجعته القصيرة..
نعم البلاد على شفا هَلَكة، وقد يتندّم البعض على ما فاتهم وعلى ما تلاه، ولكن لا يمكنهم تلافي الدور الذي لعبته عمليّة قطع رأس هذا النظام “الكمبرادوري” الذي جثم على قلوبنا كلّ هذه السنين، وجعلنا نتعبّده كإلاه وحده لا شريك له، وأمرنا بالسكوت عن جرائمه وجرائم المقربين منه، لا يمكنهم إنكار الحريّة التي منحنتا إياها الثورة، والشّعوب المتحررة هي وحدها القادرة على صناعة التاريخ، ومحو أدرانه ورَوثِه وبقاياه..
رُغم عُجرها وبُجرها، الثورة التونسيّة تشرّفنا شخصيّا، فقد اصبحنا نفهم (ونزعم أننا نفهم) خبايا السياسة، ونتقن التفريق بين اليسار واليمين بل صرنا نبحث في جذور التسمية أصلا، وندخل على صفحات “الويكيبيديا” ونقرأ يوميا ونزور موقعا “اليوتيوب” “والدايلي موشن” ونعرف حقيقة ابن عثيمين وحقيقة القرضاوي وحقيقة بن لادن وسيّد إمام وابراهيم الخولي ومحمود شعبان وهاني السباعي وسيد القمني ونبيل فيّاض وخالد الرّاشد وأبو مصعب الزرقاوي، وما معنى قوميّة عربية وما معنى ناصريّة وما معنى بعثيّة وما معنى ولاية الفقيه وما معنى صهيونيّة وأصبحنا نكتب في المواضيع التي نرتئيها وفي مواقع كبيرة ومحترمة من المواقع التي كانت محجوبة عهد الرئيس المخلوع.
تعرفنا على شخصيات مناضلة لم يكن لها في حياتنا حديث ولا مكان، تعرفنا على أناس في كل جلسة معهم نتعلم الكثير من الأشياء، فصرنا نعرف معنى “النمط المجتمعي المحدّث” ومعنى مجتمع محافظ وأصبحنا حتى نعرف من هم “المحافظون الجدد” وما معنى سياسة “ال bipolarity” او ما يسمى بلغة الشّرق “الثنائية القطبية”، عرفنا من هم الصّحافيون المأجورون الذين عَمِلوا “لحساب الغير” ممّن قبضوا وأثْرَوْا واستكرشوا وكوّنوا رؤوس أموال ومن هم الذّين مازالوا يدفعون ثمن إيجار لشققهم المكتراة مقابل عدم بيع ذممهم، إكتشفنا أهوال أمن الدّولة والجرائم التي كانت تحدث في مخافر وزارة الداخلية وعرفنا من هو الباجي قائد السبسي ومن هو محسن مرزوق ومن هو حمّة الهمّامي ومن هو رجل الأعمال كمال اللطيّف ومن هو فلان و.. و .. و…
الثورة منحتنا فرصة قراءة التاريخ البورقيبي بالشكل العام الشامل وليس بالشكل الأحادي المنتقى، عرفنا حقيقة الشيخ عاشور وحقيقة محمد مزالي وحقيقة الصياح وأحمد بن صالح والشخصيات التي رسمها تاريخ تونس بالنطيحة والموقوذة وما أكل السّبع..
وحتى لا نطيل عليكم سادة القرّاء ولأنّ القريحة تستوجب عشر صفحات لتجود بما فيها، نقول إنّ الثورة التونسيّة نسفت شخصنا القديم الخانع الضّعيف الراضخ لأمر الخوف والواقع، وصنعت منّا أناسا ذوات مبادئ ننتصر للمعذبين في الأرض ولا نقبل الارتداد إلى وراء.
والحمد لله على ثورة رغم أنها أتت لنا بأشخاص من المغتصبة عقولهم من فصيل “الدّاسة الدّهماء”، إلا أنها أخبرتنا عن أسمائهم وأشارت إليهم ببنانها، والحمد لله أيضا أنّه بعد خمس سنوات من الضغوطات العصبيّة المتوارية والتوترات النفسيّة المتواترة لم نتندّم على ابن علي ولو للحظة ولم نفكّر برهة في تونس عهده وعهد “الذّين غلطوه”، (وأتكلّم هنا باسم الشعب الذي كان يفتح “معجم المعاني الوسيط” لكي يعرف معنى كلمة “اعتصام” وهو المصطلح الجديد على شعب يزعمُ زعماؤه أنّهم علّموه)